الواقع الإنسي حافل بالشقاء والتعذيب والحرق والتقتيل، ولا يشذ واقعنا المغربي عن هذه القاعدة، فما السر في هذا التحول الخطير من نور الهدى والرفعة والعزة والعدالة إلى ظلام التيه والجهل والضلال والفوضى؟ وكيف يمكن تفسير هذه الجدلية المحيرة بين الإنفجار المعرفي والإنهيار الأخلاقي؟ صارت أمتنا التي قدر لها أن تتأسس خلقتها على فطرتها مجتزئة بالفطرة المادية، وغيبت المبادئ المنتزعة من أثر الدين واللغة والعادات، وهي قوانين تستمد قوة وجودها من نفسها، إذ تعمل في الحيز الباطن من وراء الشعور متحكمة في الفكر ضابطة لبواعث النفس وهي وحدها تمد الأحياء بنوع حياتهم... وأمام زيغ أمتنا عن قواعد النصرة أصابها الوهن والإنحطاط، وأمام عبثية وجودها وموتها الروحي وهشاشة تفكيرها وضعفها في الأخذ بحقها وتراخيها وإهمالها للقيام بواجبها ذلت وعرفت أخلاقها انفلاتات قاتلة، وحكم عليها أحكاما ثلاثة في عمل واحد، قضى الأول بإضعاف اللغة والحكم عليها بالدونية وقضى الثاني بالحكم على ماضينا التاريخي والحضاري بالنسف نسيانا ومحوا، وقضى الثالث بتكبيل مستقبلنا بالأغلال، وجعلنا تابعين بعد أن كنا أسيادا متبوعين لا نطيق حمل عظمة ميراثنا، وقوة ذاكرتنا.... وهذا الوضع مرتبط في رأيي ب: 1. الجهل بطبيعة هذا الدين : ذلك أنه كلما ضعف الدين- وهو حاجة بيولوجية- كلما اختلت هندستنا الإجتماعية، إذ من حكمة الباري انه لم يجعل الغاية الأخيرة من هذه الحياة غاية أرضية وإنما رسم غاية إلهية أساس الأخلاق الثابتة في عمل كل سوي يتعلق الأمر بالحق/ القذيفة، قال عز من قائل: "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه" الأنبياء 18 ذلك أن الله قضى بإبعاد الباطل وظهور الحق الذي يتولد عنه الصلاح والبر والتعاون ومن هذه وتلك تأتي العزة وتتحقق القوة والطمانينة، ويشتد الحس بالروح والمادة، فيكون التوازن وتنشأ الصلابة في الدين ويبزغ الإيمان بمجد العمل وجمال العطاء.... وبهذه الأصول التي يؤسسها الدين في النفس كانت قوة الدفع الحضاري وكان الإنتصار والظهور يقول سيد قطب: "انتصر محمد بن عبد الله يوم صنع أصحابه عليهم السلام صورا حية من إيمانه..تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، يوم صاغ من كل منهم قرآنا حيا يدب على الأرض، يوم جعل من كل فرد منهم نموذجا مجسما للإسلام، يراه الناس فيرون الإسلام..." وبين أن النصوص وحدها لا تصنع شيئا وأن المصحف وحده لايعمل حتى يكون رجلا، وأن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكا..ومن تم جعل محمد صلى الله عليه وسلم هدفه الأول أن يصنع رجالا لا أن يلقي مواعظ، وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطبا، وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة أما الفكرة ذاتها فقد تكفل بها القرآن الكريم، وكان عمل محمد عليه السلام أن يحول الفكرة المجردة إلى رجال تلمسهم الأيدي وتراهم العيون..لقد انتصر محمد بن عبد الله يوم صاغ فكرة الإسلام شخوصا، وحول إيمانهم بالإسلام عملا، وطبع في المصحف عشرات من النسخ ثم مئاتا وألوفا، ولكنه لم يطبعها بالمداد على صفائح الورق ، وإنما طبعها بالنور على صحائف من القلوب، وأطلقها تعامل الناس وتأخذ منهم وتعطي وتقول بالفعل والعمل ما هو الإسلام الذي جاء به محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم من عند الله" دراسات إسلامية، سيد قطب. 2. حب الدنيا وكراهية الموت: إذا كان إجلال الماضي في نفس الفرد المسلم هو الوسيلة التي يستوحي بها مبدعيه وقادته وأقوياءه وعلماءه وفلاسفته الحية بصماتهم في مخيلته والقائمة صورهم في لاوعيه، فإن التحرر من حب الدنيا والتعلق الزائد بمتاعها ولذاتها يكون كلما استحضر المرء مآلهم فجعل هداية الآخر وإصلاح المجتمع وإحقاق الحق وتزكية النفس هدفه... وذلك ب: التأمل والتفكر إتيان الأذكار والأوراد المحاسبة الدائمة، فيشحن طاقته بالتوازن في كل جانب، يثري عقله بالقراءة والمداومة عليها والتعلم ومواصلته والتكوين واستكماله والبحث على مهارات إبداعية، ويحافظ على جسمه باتباع نظام غذائي متوازن وممارسة الرياضة باستمرار والنوم لوقت كاف، أما العاطفة فتحفظ بالإهتمام ببنكها وتقوية العلاقة بأفراد الأسرة والتسامح والبذل والعطاء، وتمنح هذه الطاقة صاحبها الإحساس بأهمية الآخر ودوره في التغيير وإسهامه في التطور..وللمحافظة على الروح كطاقة تمد الجسم بالمبادئ والقيم الضرورية لاستمرار النوع يلزم تزكيتها بما ذكرناه سالفا ووأد الخوف بدواخلنا لإعلاء كلمة الله وإحقاق الحق والتصدي للباطل قصد صنع حضارة أو بعث الميت منها. إن الإهتمام بتربية هذه الجوانب الأربع وتغذيتها بانتظام يجدد للإنسان حياته ويكفل له المحافظة على استمرار طاقته وإلى هذا إشارة د.طه عبد الرحمن قال: "على المسلم أن يقدم أنموذجا يتمثل في فلسفة إسلامية تجعل الأصل في تجديد الأمة هو تجديد الإنسان، وتجعل الأصل في تجديد الإنسان هو "تجديد الروح". وتجديد الروح لن يتم إلا بأمور نذكر منها: الإهتمام بالعقل: أظهرت الدراسات النفسية والتربوية وأبحاث الكيمياء والفيزياء والرياضيات أن ما يتم استخدامه من إمكانيات العقل الهائلة لا يتعدى1% من قدراته الحقيقية . وهذا راجع إلى تدخل المؤسسات في قولبة هذه الطاقة دون إشراك أو تمحيص بدءا بالبيت والمدرسة والجامعة وانتهاءا بمؤسسات الإعلام التي تمارس الإلقاء وتخنق القدرات العقلية وتقتلها أو تعطلها.. وهذا ما دعا د. طه إلى المطالبة باستعادة الأمة لقوتين عقليتين فقدتهما منذ أمد بعيد وهما: القوة المفهومية التي تجعله يستقل بمعانيه وتصوراته. القوة الإستدلالية التي تجعله يستقل بأدلته ونصوصه. وعند نجاح المرء في استعادة هاتين القوتين يتحرر من كبت حريات أربع (حرية الحركة- حرية الكلام- حرية التفكير-حرية الإختيار) وبذلك يعقل حقيقة الإبداع ومجالاته، وينطلق فيعمل مستحضرا التفكير بالنتائج، وهذا لا بد فيه من: القراءة: مفتاح النجاح والرقي الأخلاقي حيث أظهرت الدراسات في الغرب أن الرجال يقرأون في المتوسط 39 دقيقة يوميا وتقرأ النساء ما متوسطه 96 دقيقة ويقرأ 72% من الناس في بريطانيا جريدة يوميا، وبلغ معدل الإستعارة فيها من المكتبات العامة 65 مليون كتاب، أي حوالي 26 كتابا للفرد الواحد، هذا عدا الكتب المشتراة والمستعارة من الآخرين..فماذا عن الأرقام عندنا ؟ وما هي نسب القراءة في أوطاننا ومؤشرات الإقبال عليها ؟ كيف نتعامل ونحن المخاطبين بأمره سبحانه "اقرأ باسم ربك الذي خلق" العلق، 1. مع هذا الأمر ومع وصية العلماء راهنا بضرورة تخصيص 70% من القراءة للمجال المستهدف لتحقيق الغايات المسطرة والأهداف المعلنة؟ وهذا من باب ترتيب الأولويات التي يوقع الجهل بها المرء في تخبط ويعرض جهده إلى الهدر والضياع ... بالقراءة وترتيب الأولويات يمكن السيطرة على الحياة وهذه السيطرة تمنح التوازن والتوازن يدفع إلى الإنجاز... إن اختيار هذا المنهاج مع الإهتمام بتنمية الطاقات السالفة الذكر من شأنه أن يعيد للأمة مجدها وتألقها ورفعة أخلاقها.. 3. عدم تحديد الهدف من وجودنا: غاب عن إنسان اليوم الهدف الذي من أجله وجد وضيع الغاية التي قررها له الباري في محكم تنزيله قال عز من قائل " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " الذاريات، 56. لقد أوقعنا هذا البعد عن منهاج الله الثابت وصراطه المستقيم في حرب قيم شرسة تعتبر امتدادا وحشيا لمؤامرات أعداء الإسلام في تحويل العالم إلى أمم متناحرة ودول متخاصمة متنابزة تتقاذفها الأهواء.... لهذا فمستقبل الإنسانية رهين بالقيمة التي سنمنحها للحياة بغض النظر عن الإنتماء والجنس واللون واللغة ، وفي إطار احترام متبادل للقيم باعتبارها المعبرة عن الطموحات البشرية والضامنة لكرامتها... يوم يعي المسلم مهمته في الوجود وغايته في الحياة، يوم يتحرر من حب الدنيا وكراهية الموت، يوم يعرف الغاية التي من أجلها خلق وعلى أساسها وجد، ويوم يعقل أن ما أصاب الأمة من انفلات أخلاقي وتأخر حضاري إنما هو ناتج عن عدم اهتمامها بتكوين العقل وتجديده، وعدم التفاتها إلى تغذية الروح وتجديدها مما ضيع عليها تجديد فكرها الأصيل الذي ينفع لتأسيس أنموذج معرفي بديل، ومن تم حضارة تستفيد من الماضي وتنهل من الحاضر وتخدم المستقبل وترعى الإنسان، وتحفظ له مقومات فطرته...وتجدد عقله وتحييه الحياة التي تليق بمقامه ، حياة تكون خلقتها المادية وراء عقلها تمده بكل قواه وتغذي روحه وتزكي نفسه وتقوي عاطفته.