نشر داريوس صايغان وهو مدرّس سابق للدراسات الهندية والفلسفة المقارنة في جامعة طهران، ومدير سابق للمركز الإيراني لدراسة الحضارات، عدّة أبحاث منها «النظرة المشوّهة» le regard mutilé ، و»ما هي الثورة الدينية Qu'est-ce qu'une révolution «religieuse?، و»النور يأتي من الغرب la lumière vient de «l'Occident ما هي الثورة الدينية؟ كتاب صدر عام 1990 وأظهر أنّ رعب الثورة الخمينية كان مرتبطا بتردد مزدوج. فالشعب الإيراني، أو نخبته، لم يعد يعيش وفقا للموروث، لكنه للسبب ذاته لم يدخل الحداثة. ألا يرتبط التزمّت – السمة الإرهابية لهذه الثورة – بهذا الفقد المزدوج للهوية؟ مع الأحداث الإيرانية عام 1979، شهدنا لأوّل مرّة في إيران، الدين يدخل إلى حلبة الأيديولوجيات. كان الدين قبل الثورة ملاذا آمنا حيال ملكية استبدادية لكنها علمانية. وكان للعلماء ذلك الموقف الغامض جدا في أن يكونوا في الوقت ذاته مع السلطة وضدها. وقد مثلت الملكية وطبقة رجال الدين قطبي المجتمع الإيراني .وفي الموروث الشيعي الإيراني يدعيان: فصّي الخاتم ذاته. مع قيام الثورة الإيرانية تسلم الدين مقاليد السلطة وغيّر طبيعته. فلم يعد يدافع،كما كان سابقا، عن المستضعفين، بل أصبح نظاما سلطويا يقمع الآخرين. ولعب تسرب الأفكار الماركسية-اللينينية دورا في ولادة هذا الإسلام الكفاحي جدا، المعادي جدا للغرب، المعادي جدا للعلمانية، الذي ربط ما بين النظام السابق وبين الغرب أو الحداثة على حد سواء. ما أردت تبيانه في كتابي، هو أن هذا الإسلام الذي دخل التاريخ، والذي تحوّل إلى قوّة كفاحية، لم يعد ذلك الإسلام التقليدي. ومع تحوله إلى نوع من ايديولوجيا عدوانية جدا، لم يمتلك الخطاب الملائم لمجابهة وقائع هذا العالم. فوصل الأمر به إلى الخلط ما بين التبشيرية والتاريخ، وانتهى به الأمر، لسخرية القدر، إلى الوقوع في فخّ العقل. وهذا الإسلام الذي أراد إضفاء صفة القداسة على العالم، كما أراد أن يجعل من التاريخ تبشيرا، هذا الإسلام فقد قداسته وسقط في فخّ ثان هو فخ التاريخ. نتيجة لهذا التناقض نتيجة لهذا التردد المزدوج وصل المجتمع الإيراني إلى حالة "لم يحن الأوان بعد " و"لا مرّة أخرى أبدا". لقد أرادوا العودة إلى المنابع، لكن أية منابع؟ فكل الحركات الأصولية، سواء في ذلك الثورة الإيرانية أم الطالبان، أرادت وضع تاريخ الإسلام بين قوسين، وتقليص دارة هذه الثقافة من أجل العودة إلى إسلام ميثولوجي لم يقم يوما ما. لقد نحّوا جانبا كل الكنوز المتراكمة، تفسير القرآن، الفلسفة، التصوف، كل ما صنع عظمة الثقافة الإسلامية، ليعودوا إلى حرفية النص، واستمدوا من القرآن تفسيرا جامدا وسطحيا جدا. كما لو أن الآيات القرآنية يمكن تفسيرها حرفيا كما تفعل الطالبان حاليا! لقد مارس كبار فقهاء الإسلام كلهم التأويل والتفسير.لأن القرآن، من دون التأويل، يصبح كتابا معرضا لكل أنواع الزيغ. وتكمن في حركة العودة إلى الوراء هذه الرغبة الأكيدة لطمس وشطب كل هذه الثقافة. إذا بدا الوضع في إيران أقل خطورة ربما مما هو عليه في الجزائر أو افغانستان، فإن السبب في ذلك يعود إلى أن طبقة العلماء ظلت قوية جدا وتلعب بشكل ما دور الكابح لكل التفسيرات المغالية، والسطحية جدا للقرآن. ربما لدينا حالة بارزة مختلفة قليلا حيث تتجاور حرفية أصولية مع الحداثة الغربية في آخر تجلياتها. إنها حالة المملكة العربية السعودية.. خطاب الإسلام الأصولي، سواء كان شيعيا أم وهابيا، هو ذاته دائما. فحداثة الإسلاميين الذين تسلموا زمام السلطة حداثة جد متكلفَة ومقتصرة جدا. ففي العربية السعودية، ذات المذهب الوهابي، ما زالوا في الزخرف. إن إيران، من بين الدول الإسلامية، ستصبح في مستقبل قريب جدا الدولة الأكثر علمانية. فقد عاشت إيران تجربة النزول إلى الجحيم كما يقال في الحضارات القديمة. وعاش هذا البلد كل أنواع الهيستيريا والجنون الجماعية. ويخيم الآن في إيران ما يشبه السكينة لأنهم باتوا يعلمون أن الثورة الإسلامية قد آلت إلى الفشل، وأنه ليس لهذا أي معنى. صحيح أن الحكومة لاتزال في مكانها، بيد أن المجتمع المدني الذي تشكل بات أكثر تقدما مما هي عليه الدولة. هل يمكن أن تحصل ثورة فكرية متسامحة خارج العالم الغربي؟ وهل يمكن للمرء أن يعتقد بأن تحركا حضاريا يمكن أن ينشأ من العالم الذي هو عالمك قبل أن نقول وكما يقترح عنوان كتابك الأخير، بأن الضوء يأتي من الغرب؟ لا توجد حاليا إلا حضارة واحدة. والتسامح مرتبط بالحداثة، حصرا. فما يشكل هوية الناس إنما هو تلك الملكة التي تعود لكل انسان والتي هي العقل، بصرف النظر عن الانتماءات الثقافية والعرقية والدينية. وما لم تقم هذه المعادلة فإن المرء سيظل إما «داخل المجموعة» أو «خارج المجموعة». أي أن كل شخص سينسب الفضيلة إلى عرقه الخاص. وقد كانت كل الحضارات الكبرى ذاتية المركزية سواء حضارة يابانية أم صينية أم إسلامية. مع الحداثة، صار للمرء، لأول مرة، الخاصية التي تنتمي إليه بالتحديد، بعيدا عن كل انتماء. فأن لا يعود الناس مجرد عناصر في الأمة أو في جماعة خاضعة للقوانين الإلهية، وإنما أفراد أحرار، يقررون مصائرهم بأنفسهم يؤسّسون حياتهم بأنفسهم:هو الأمر الذي صنع الحداثة. لقد ظهرت الحداثة متشددة حيال التقاليد الروحية. فحداثة عصر الأنوار أو فولتير كانت بطريقة ما شديدة العداء للدين. ألم تساهم في زوال هذه التقاليد الروحية؟ كانت هناك حركتان. في البداية حركة يمكن تسميتها حركة الإسقاط، أو نزع الرمزية. لقد نمت الحداثة من خلال الإضرار بالأساطير، والحكايات المتخيلة، وكل ما كان يشكل سابقا علوم نشأة الكون. حركة الرفض هذه التي يدعوها يونغjung تقهقرا لاسقاط التحويري "كانت شديدة العنف. وقد كفَ العالم عن ان يكون سحريا، وانسحب الفوق- طبيعي. من هنا ولادة الرواية، والعلم الحديث اللذين ما كانا ليولدا دون هذه العلمنة. وإذا ما كان الإنسان قد دفع ثمنا باهظا لعملية الإسقاط تمثل بفقدان الحس، فإن هذا الإنسان قد كسب منها أيضا الكثير. بيد أني أعتقد أننا بدأنا مرحلة جديدة أدعوها بالذاكرة الإجمالية. إذ يحاول الإنسان اليوم أن يجُمل كل تلك الجوانب الضميرية التي أُريد سابقا طمسها.رفالناس يمارسون اليوغا، ويهتمون بالأديان الأكثر قدما: وباتت الشامانية موضة دارجة (عبادة الطبيعة والقوى الخفية في شمالي آسيا وأمريكا – المترجم)...وعادت كل الجوانب المكبوتة من الوعي للظهور مجددا. في هذا العالم الخاص، ويحلً المتزامن منذ الآن فصاعدا محل المتتابع كما لو أن المرء يشهد عرضا بانوراميا، مشكاليا حيث تتجاور كل الجوانب الضميرية وتتداخل بعضها ببعض لتخلق نوعا من الفسيفساء. إن حركة الحداثة هي التي تنتشر. فبعد زوال عصر الإيديولوجيات وزوال خطاباته القمعية معه، أضحى الميدان فسيحا بعد الآن لكي تعاود كل الجوانب الضميرية المكبوتة ظهورها على السطح مجددا. هذه الذاكرة الإجمالية ألا تمثّل بالضرورة عودة نحو روحانية ما. بل يمكن أن تشبه لعمل مرمَق وأن تفضي إلى أقليات منغلقة على ذواتها. في الحقيقة إلى لا شيء. يبدو أننا انتقلنا من الإسقاط إلى العرض المعمّم. ألا يمكن لهذا التسامح المفرط أو الإجمالي أن ينتج عودة إلى تلك الهويات التي بيّنت أنّها ما قبل حداثية ؟ n لا، طالما ظلّت قواعد لعبة الحداثة محترمة. فالحداثة تظلّ أداة لضَم الشمل. وهي تسمح لقواعد اللعبة أن تتأسّس لكي يستطيع الناس التحاور، وعند اللزوم خلق مناطق تهجين. إن الحداثة في نظري هي الموروث الدقيق ومكتسب عصر الأنوار. وهذا يمثل القاعدة (بمعنى- الأرضية – المترجم). ودون هذه القاعدة نحن سنتجه نحو الهمجية. صحيح أنّ الحداثة تركت الكثير من «الثقوب» التي يمكن استغلالها. وأنها لا تستجيب إلا استجابة ناقصة جدا للحاجيات الأساسية للإنسان. لكنها تترك الناس أحرارا في فعل ما يريدون ماداموا لا ينتهكون الحدود. يجري الحديث كثيرا عن الهويات المتجاورة لأننا ننتقل من ثقافة إلى أخرى لكننا سنظل الرابحين وسط عدة مستويات من الوعي. وكل هذا ممكن في حدود احترامنا للآخر. لفتت كتبك السابقة إلى نسبية ما مع حداثة قد تخفق الاتجاه والتقاليد التي يمكن أن تكون ما قبل حداثية. فما هو التسامح إن لم يكن نسبيا؟ من جهة، أنا متشدد حيال من لا يكون متسامحا، ويمنع الآخر التعبير عن ذاته، وحيال الإرهابي. ومن جهة أخرى، فأنا لا أؤمن بالمساواة الحسابية بين الثقافات. صحيح أن كل الثقافات ذات قيمة لكن إلى حد ما. ومن تجربتي الشخصية، استمد ذلك الانطباع بأن ثقافات الماضي الكبرى تدعونا إلى أجواء من الحضور هامة جدا من أجل الإغناء الروحي للإنسان، لكنها لا تقدم أية إجابة حول الظواهر الاقتصادية، والاجتماعية، والتكنولوجية. وحين أطالع كتب الماضي الكبرى، فإني أغتني شخصيا لكني لا أحصل على أية أداة ضرورية من أجل فهم، وتشريح، وتحليل ما يجري في العالم. وهذه الثقافات الكبرى تصبح خطيرة إذا ما انخرطت في السياسة، لأن الغرب يعني أيضا الفصل بين السياسي والروحي. علينا أن نقبل واقع العيش في عالم متشظٍ، وانطولوجيا متشظية، وأن نقبل أن أجوبة بعضنا لاترضي بعضنا الآخر، وأن ثقافاتنا القديمة لا تحمل أية إجابة مناسبة لحل المشاكل الحالية. إننا مدينون لهذه الحداثة التي تضمُ شملنا، والحاضرة في كل مكان، والتي نغرق فيها. فإلى جانب فضائلها – التكنولوجيا، حقوق الإنسان، وكل ما يحمي الفرد – التي باتت، شئنا أم أبينا، عامة، لا توجد ثنائية بين الشمال والجنوب. فالجميع بات غربيا، وفوق ذلك، فأنا إيراني، فرنسي... كيف تفسر، حسب رأيك، مسار بعض الإرهابيين الذين، على الرغم من معرفتهم الوثيقة جدا بالغرب بسبب متابعة دراستهم فيه أحيانا، يرفضون فجأة هذه الحضارة. وحين يعودون إلى بلدانهم، هل يوتوبيا الحداثة هي التي تتكسر، أم زوال السحر هو الذي يقودهم إلى الدين؟ هذا المثال يظهر أن المرء يمكن أن يكون انفصاميا لدرجة خطيرة. فالإرهابيون لا يتوصلون إلى تكامل هذين الثابتين، لأنهم ليسوا متعددي الحرف، وهم ليسوا مثلي في حريتي مع فولتير بقدر ما أنا حرّ مع ابن عربي. فدون الروح النقدية، ودون الثقافة، ودون استبطان قيم الأنوار الكبرى، يصبح المرء كائنا ممزقا، خطرا. فدون هذا الجهاز الذي يرافق التقنية، ودون هذه الثقافة التي تجاريهما يصبح الإنسان حاسوبا في خدمة ديناصور. إننا نعيش في عالم متشظٍ حيث لم تعد ثمة قيمة مطلقة. هناك متدينون، لكن لم تعد هناك قيمة ما، ولا كائنات مطلقة، فكيف نستعيد معنى ما؟ بطريقة ما تلاقي البوذية بعض النجاح لأنها تستجيب بوصفها ميتافيزيقا لهذا العالم الذي لم تعد فيه أنطولوجيا. وفي الواقع فإنها الديانة الوحيدة التي ليس فيها كائن والتي تتطابق بنيتها ذاتها تقريبا مع ما يشكل جوهر العالم الذي نعيش فيه. في كتابك الأخير، يبدو كأن على الغرب أن يعاني السقوط من أجل إعادة خلب لبِ العالم. ما هو دليل هذا السقوط ؟ كان هايدجر يقول إنّ الإله وحده هو من يمكنه بعد أن ينقذنا. والحال، أنه في غياب الإله، لم نعد نعرف. لقد وصلنا إلى مرحلة حيث، إن كان ثمة عودة منها، فإن ذلك لن يأتي إلا من مكان السقوط. ولاتزال هذه العبارة لبارسيفال تسحرني :»يشفى الجرح من المكان الذي حدث فيه». هذا السقوط في التاريخ سمح للإنسان أن يتحرر من الوصاية المزدوجة لمهابة السلطة ولقداسة المقدس، كما يقول هايدغر أو كانط، وأن يصبح فردا. هنالك ذاك الجانب السلبي الذي أصبح ايجابيا: إن المرء يصبح ما هو عليه. لكنه بعد أن قام بهذه الدورة الكبيرة، فقد بات اليوم ما بين الحالين، كما لو أنه عاد إلى نقطة البداية. إننا ننتظر حدوث أمر ما دون أن نعرف بعد ما يكون. الدلائل تشير إلى ذلك. هل نحن على عتبة تحول جديد. لكن إن كان ثمة حلّ فإنه ينبغي أن يأتي من مكان السقوط. ولن تستطيع الثقافات القديمة تقديم إلامساهمة محدودة. تبدو الحداثة سريعة العطب. فهي في البداية مفرطة في التشدد لتصبح اليوم مفرطة في التسامح. بعد الفراغ المفرط قد يأتي الامتلاء المفرط. لكن أثناء هذا البحث عن القيم الروحية، هل يستطيع المرء أن يقيم تراتبية ما بين هذه الأديان، وأن يعترف بمزية ما للموروث اليهودي – المسيحي الذي يقع في اصل القيم الغربية ووصل اليوم إلى طريق مسدود؟ والأديان المثمنة عاليا حاليا هي أديان دون تعال .... إن الأديان الأكثر تشددا هي الأديان "الإبراهيمية «. ويمتلك الغرب إرثا مزدوجا، يهودي – مسيحي ويوناني – روماني. وقد استمد الغرب من الصراع ما بين الإثنين قوة كبيرة، قوة أن يعيش دائما في أزمة. وهذا الإرث المزدوج كان ضروريا لخلق الدافع لهذا الابداع الذي تمثله الروح الغربية، تلك الروح الفاوستية التي تبحث دائما عن المطلق. ثمة، في الموروث الإبراهيمي، غموض أحيانا ما بين إله القبيلة والإله بوصفه كذلك. وقد قام المتصوفون الكبار كلهم بالتمييزما بين الألهة والإله المشخصن الذي هو إله القبيلة. لكن بما أن هذه التقاليد انفصامية بدرجة ما دائما، فإنها تميل باستمرار نحوتفضيل القانون على حساب الروح. بينما لا نجد في أديان اخرى، في البوذية على سبيل المثال، هذا الصراع ما بين القانون والروح. ففي جنوب – شرق آسيا، في كامبوديا على سبيل المثال، لا يشعر الفيتناميون الذين خاضوا الحرب طيلة خمسين عاما ضد الفرنسيين والأمريكيين بأيّ حقد. بل بالعكس تماما، لديهم ذلك الوقار المستمد من ثقافتهم البوذية والكونفوشيوسية.على العكس من ذلك، فإن العالم الإسلامي هو العالم الأشد مقاومة. ففي عقلية المسلم، يعتبر الإسلام آخر الرسالات السماوية. ولاشعوريا، يعيش المسلمون ذلك الشعور ميتافيزيقيا بأنهم أسمى من الآخرين، من يهود ومسيحيين. لهذا السبب يجدون صعوبة دائما في تمثل الحداثة. فالشريعة "معيقة" جدا ولا يوجد هذا الفصل بين ما بين الروحاني والزماني. أما المسيحية، بدورها، فقد ولدت في الإمبراطورية الرومانية. ويجب إعطاء مالقيصر لقيصر وما لله لله. لقد وجد إذن هذا الفصل ما بين السلطات. من جهة أخرى، فإن آباء الكنيسة الأوائل كانوا من الإغريق: فالمسيحية تعوم في عالم الفكر اليوناني منذ البداية، بخلاف ما كانت عليه الحال بالنسبة للإسلام. وإذا كان في التراث اليهودي – المسيحي ذاك الميل للفصل ما بين السلطات فإنه على العكس منهما لم يجرِ هذا الفصل بين السلطات في الدول الإسلامية. وقد أبدعت الامبراطوريات، أوالخلافة، ثقافة واسعة، كانت أكثر تسامحا في ظل العباسيين مما كانت عليه في الغرب في الآن ذاته. بيد أن العالم الإسلامي تراجع. وكل الحضارات الكبرى تراجعت بدءا من القرن السابع عشر. وكما يرى ليفي- شتراوس فقد شهدت الإنسانية ثورتين كبيرتين، الحجر المصقول والثورة الصناعية. أما في القرنين السابع عشر والثامن عشر فإن هذه الحضارات الكبيرة لم تعد قادرة على المساهمة مجددا في الروح المبدعة لهذا العالم. بل ظلت معزولة. والحضارة التي وجدت الصعوبة الأكبر في التأقلم كان الإسلام. إن المتطرفين هم أشد عداء للغربيين مما هم عليه للأمريكيين. أيا يكن التراث الفكري، وحداني أم سواه، ألا تعلي من شأن التراث التصوفي الذي هو في الواقع مسار روحي نجده في كل دين، وحتى في الإسلام؟ ألا تعتقد أن المشكلة ليست بين الكتل الدينية، لأنه في هذه الحال سرعان ما ستبرز ملامح حرب الأديان، وإنما بسبب الحط من أهمية التراث التصوفي، حتى في المسيحية ؟ لقد تأثرت كثيرا بالفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو. فهو يتحدث عن انطولوجيا ضعيفة يراها إيجابية جدا. إذ تتزامن نهاية الميتافيزيق مع بعض الروحانية، والحال فإن هذه الروحانية لا يمكن أن تكون إلا صوفية. في كتابي الأخير اخترت أربعة مفكرين صوفيين ينتمون إلى عهود ثقافية وعصور مختلفة: المعلم إيكهارت، شانكرا، إبن عربي وشيانغ تزو. وإذا ما ذهب المرء إلى ما خلف المرآة فسيجد أن هؤلاء المفكرين يرون العالم بالطريقة ذاتها. فإذا كان الإنسان بحاجة لروحانية ما، فإنّها لا يمكن أن تكون دينية بالمعنى المحدد للكلمة، أي مسيحية أو إسلامية أو هندوسية، حصرا. إن أساس الحوار ربما يكمن هنا، في قدوم روحانية متسامحة. أليست هذه طريقة أخرى لضبط المسألة الدينية؟ فالمتسامح قد يكون هو ذاك الذي يمتلك سلوكا دينيا خاصا، ويشتغل على نفسه .... الإنسان الذي يشتغل على نفسه، الذي يبحث عما أسماه يونغ تفريد الذات، الاشارات تكمن هنا. لم يعد أحد يحصي كل اولئك الذين يمارسون اليوغا، والتأمل مستخدمين كل التقنيات المتاحة ولله يعلم كم ستتكاثر. والنجاح الذي لاقته أشعار الشاعر الإيراني الكبير عمر الخيام في الولاياتالمتحدةالأمريكية حيث بلغت مبيعات ترجمتها ثلاثين ألف نسخة هو أيضا مؤشر كما هو الحال بالنسبة للديلاي لاما وكل تراث التيبيت ....إن الإنسان بات اليوم بحاجة لروحانية متسامحة، لأن الروحانية لا يمكن أن تكون إلا متسامحة.