إن أول غموضه أنك تأتي هذه الدنيا، ولا تدري كيف أتيت. بل لا تدرك حين تحضر، أنك فيها حضرت. وتظل في غير وعي من وجودك، في أولى سنواتك. ثم يأخذ الوعي يتنشأ، فإذا أنت تجد الناس حولك تأكل وتشرب وتنام. وتنظر إلى نفسك فتعلم أنك ناس مثل الناس، فأنت تأكل وتشرب وتنام وتكبر، ويقال لك أنك ولدت من ظلام. كنت في بطن أمك فخرجت إلى النور. وأنت أول الأمر لا تفهم. ثم أنت تفهم ولا تصدق، لأنهم يحكون لك عن حادث أنت لم تكن حاضره. أنت كنت بطل هذا الحادث، على هذا المسرح، ولكن لو كان غيرك هو البطل فيه ما غير هذا من أمرك شيئا. ثم أنت تكبر، وترى الناس يأتون من بعدك، وتراهم يقفون حقا كما يقولون أبطال حوادث على مثل هذا المسرح، ويخرجون من ظلام الأرحام كما سبق أن خبروك، وعندها تؤمن أنك من حيث جاءوا جئت، وبالطريقة التي حضروا بها إلى هذه الدنيا حضرت وولدت. تؤمن بذلك، لا مشاهدة، فما كنت شاهدا واعيا بصيرا، وما جاز ذلك. ولكن تؤمن به سماعا. وقديما قالوا أن الحق هو الذي تراه وأن غير الحق هو الذي تسمع. وأنت لم تر مدخلك إلى هذه الدنيا، وإنما آمنت به سماعا. وهكذا يبدأ، حتى وجودك الأول، يحيط به الإبهام. وينادونك بلفظ لا تدرك معناه، ولكن بالعادة تألف أنك له تستجيب. ثم ترى الناس يدعو بعضهم بعضا بألفاظ، وتراهم لها يستجيبون. وتدعو أنت مثل ما يدعون. ثم تعلم أن هذه ليست إلا رموزا رمزوا بها لهذه الذوات الحية، وجعلوا مخارجها الحلوق فهي نداء. ثم تعلم أنها الأسماء. واسمك هذا الذي تدعى به، لم يكن لك فيه خيار. إنك أعطيت هذا الاسم، كما أعطيت هذا الأنف، وأعطيت هذا الوجه. ثم تأخذ تتعلم أن في الأسماء القبيح وفي الأسماء الحسن، كما في الوجوه القبيح وفي الوجوه الحسن، ثم تتعلم من الناس كم نصيب اسمك ونصيب وجهك من حسن ومن قبح. وإن كان قبحا لم يكن لك فيه حيلة. إنك أعطيته يوم أعطيت الجسم والروح، يوم ان لم يكن لك إرادة تقبل أو ترفض. وتكبر وتأخذ تدرك أنك أعطيت من أقسام هذه الحياة، مثل ما أعطيت من وجود، وما أعطيت من قبح وحسن، وما أعطيت من اسم. أقسام لم يكن لك في قبولها أو رفضها خيار. هذا أبوك فقير، وهذه أمك. أو هذا أبوك ثري، وهذه أمك. وهؤلاء إخوتك عشرة أو لا أخ لك. وهذا بيتك كوخ هو أو قصر. وأنت على صغر سنك تقبل كل ذلك، كما تقبل هواء تتنفسه أو ماء تشربه أو لقمة سائغة تأكلها. واللقمة أنت قابلها، كان عليها الملح وحده، أو كان قد غطاها الزبد الكثير. والبيت الذي وضعت فيه قد يكون بيت علم، أو بيت جهالة. وأنت تسقاها جهالة كانت أو علما، وبقدر ما تسقى من علم أو جهالة تسعد، على العادة، في الحياة أو تشقى. وإن أنت أدركت أنه الشقاء يوما، وأدركت أسبابه، ما استطعت أن تعود في الزمان القهقري، وحظك من الزمان قصير موقوت. وتستخبر العلماء، وتستخبر الفلاسفة والحكماء، عن علة العلل، فيقولون لك إنها الحظوظ. وهم بهذا لا يزيدون الفهم إلا إبهاما. فلو أنهم قالوا لا ندري لكانوا أكثر إيضاحا. والناس تكبر النجاح، وتحتفل بالنجاح، وتكرم أهل النجاح، ولا تسأل من كانوا، وكم كانوا، وفي أي بيت نشأوا، وأي الآباء امتلكوا، وأي أسباب الحياة. والناس تحتقر الفشل، وإن احتفلت به فلتفضحه. وهي تسيء إلى أهله، ولا تسأل من كانوا، وكم كانوا، وكم مهدت لهم الحياة من طرقات، وكم من طرقات وعرة بها تعثروا فسقطوا. ويفكر الإنسان، فينبهم له من الكون، ومن الحياة، ما ينبهم، فيشقى. ويشقى لأنه وضع ثقته، كل الثقة، في عقله، ونسب إليه من قوة النفاذ في أعماق الأمور ما شاء، فإذا هو يعجز، وإذا هو يغور ولكن لا ينفذ. وكان خليقا بالإنسان أن يدرك أن العقل له حدود، تقرب عن الناس وتبعد، ولكنها لا تنطلق في فضاء الأمور انطلاقا. إننا نكبر العقل عندما نجوب به في شتى شؤون يومنا. ونحن نكبر العقل عندما نحمله معنا في حل مشكلاتنا. ونحن نكبر العقل حينما يحملنا الآخرون على أشياء هي نقيض ما تدرك افهامنا على قصرها وقلة نفاذها. ولكن يجب أن ندرك أننا إنما أعطينا عقلا بمقدار ما أتيح ويتاح لنا من عيش هنا، وبمقدار ما اتسع لنا ويتسع في هذا العالم من مراح اذن به لنا. ويجب أن ندرك أننا في هذا الكون، حللنا بقعة منه، هي أشبه بفتاتة الخبز، لا خطر لها، وليس لها في شؤون الكون الكبرى ذكر. فلو احترقت، واحترق البلايين من الخلائق الذين هم فوقها، ما دري حتى أقرب أجرام السماء إلينا إن شيئا ما حدث فوقها لنا. إنها الكبرياء. ومع الكبرياء الغباء. والله الموفق 04/04/2013 محمد الشودري