أيها المحامي الغريب، في هذا الزمن الغريب والعجيب، أستسمحك إن كنت لا أسميك، لأنني لا أعرف لك اسما واحدا، وقد تكون لك مئات الأسماء أو آلاف الأسماء أو ملايين الأسماء، ولكنني لا أعرفها، أو لا أريد أن أعرفها، وكيف أسميك وأنت ظل بلا جسد، وأنت صدى لصوت خفي؟ ومتى كانت الظلال المتحركة تحمل أسماء؟ ومتى كانت الأصداء يمكن أن يكون لها اسم ورسم وبيت وعنوان؟ أنت رجع الصدى في زمن ما عاد فيه إلا الصدى، ولهذا سأخاطب فيك الأسماء الغائبة والخفية، والتي تنطقك وتكلمك، والتي تملي عليك مرافعاتك الهزلية. أنت كائن هلامي وشبحي، هكذا عرفتك، أنت وجود أملس ومسطح على سطح هذه الكرة الأرضية. حقا لك طول وعرض، ولكنك تظل بلا عمق وبلا غور، ليست لك أفكار هي أفكارك، لأن الظلال لا تفكر، وليست لديك حالات وجودية صادقة، وليست لديك مواقف مبدئية ثابتة، وليست لديك اختيارات فكرية معروفة، وليست لديك أسئلة ولا مسائل فلسفية، وليس لديك طريق تشقه في صحراء الحياة وتمشي فيه، وليس لديك أسلاف ولا شيوخ ترث عنهم العلم والفن وصناعة الكلمات والعبارات وصناعة المعاني الجميلة والنبيلة. أعرف أنك لست شخصا من الناس، وأنك لست ذاتا فاعلة ومنفعلة في التاريخ والجغرافيا، وقد تكون عرضا من أمراض ما، من مرض الواقع مثلا، أو من مرض التاريخ، أو منهما معا، أو من مرض هذه الإنسانية المعذبة. أنت لست جسدا حيا، وإن كنت تؤذي الأجساد الحية، ولست روحا من الأرواح، ولكنك قد ترعب الأرواح، ولست مواطنا كامل المواطنة، لأنك لا تعرف جوهر هذا الوطن، ولأن جوهر هذا الوطن لا يعرفك ولا يعترف بك، أنت لست كائنا موجودا في الوجود، لأنك لا تعي هذا الوجود، ولا تحيا اختياراته الصعبة، وقد نكون مجرد ريح تهب من اللامكان، وتتشكل في اللازمان، وتتحرك في الظلام، وتأتي من الفراغ ومن الخواء، وتمشي باتجاه العدم المطلق. أعرف أنك سعيد بأن تكون لسان حال القبح، وبلسان حال البشاعة، وبلسان حال العطب، وبلسان حال الحمق، لقد اختاروا لك أن تكون غيرك، وألا تكون أنت هو أنت، واختاروا لك أن تكون محاميا للشيطان، وأن تختفي في زي الفنانين والمفكرين والمبدعين والسياسيين والصحفيين، وأن تنسب نفسك إليهم، مع أنه لا شيء يمكن أن يجمع بين جمال العالم الفنان وقبح الشيطان؟ أنت تدعي الدفاع عن الحرية، وللحرية رب يحميها، ولهذه الحرية أجساد وأرواح تناضل من أجلها، وأنت في مرافعاتك تجعل حرية الأفراد هي العليا، وتجعل حرية المجتمع هي السفلى، وباسم هذه الحرية تصادر الحق في تعدد الآراء، وفي الاختلاف، وتزعم أنك ضحية وأنت تمارس العدوان على الرأي العام، وعلى الذوق العام، وعلى الإرث الثقافي الإنساني العام. أنت في المجتمع خلية نائمة أو منومة، وأنت لا تخاف شيئا أكثر من النور، نور العلم ونور الفكر ونور الفن ونور الحق ونور الله، ولا شيء يزعجك أكثر من الوضوح ومن الشفافية، وقد رأيتك تدعي النخبوية، وأنت لست أهلا لها، وسمعتك تهاجم الشعبوية وأنت لا تعرف معناها الحقيقي، وتزعجك المساواة، ولا تعرف شيئا عن فضيلة التسامح، وتدافع عن الباطل، وتطالب بالحقوق وتنسى الواجبات، واجبات المواطنة وواجبات الإنسانية وواجبات الحياة وواجبات الفن الجميل والنبيل. اعلم يا محامي الشيطان بأن صاحبك الشيطان لا يحتاج إلى محامين، وقد يكون في حاجة إلى «مغرقين»، وهو بالتأكيد في غنى عن المترجمين وعن الهتافين وعن المضاربين وعن المزايدين، فتجارته رابحة دائما، سواء بك أو بدونك، وذلك لأن في هذا العالم ما يكفي وزيادة من القبح والبشاعة، ومن الكذب والنفاق، ومن الزيف والتزوير، ومن الظلمة والظلم، ومن الغموض والالتباس، ومن الحمق والغباء. اعلم يا محامي الشيطان بأن صاحبك الشيطان لا يحتاج إلى مدافعين فاشلين، خصوصا إذا كانوا مثلك محامين مبتدئين وبلا خبرة وبلا رؤية واضحة وبدون حجج مادية، وبدون أدلة للإقناع. في هذا العالم ما يكفي من القبح والبشاعة، وفيه ما يكفي من العبث والفوضى، وفيه ما يكفي من الحمق واللامعقول، وماذا يمكن أن تزيد أنت أيها المحامي البئيس إلى هذا العالم البئيس؟ ألا تعرف بأن الباطل مسلح وأن الحق أعزل، وأنه قد كان الأجدر بك أن تكون محاميا للحق والحقيقة، وأن تكون مدافعا عن قيم الجمال والكمال؟ إن القبح مرض، والمرض لا يحتاج إلى أتباع وأعوان، ولا يحتاج إلى مزورين ودجالين، ولكنه يحتاج إلى ممرضين وأطباء، ويحتاج إلى فلاسفة وحكماء، ويحتاج إلى مناضلين ومجاهدين، ولهذا تكون قد اخترت الطريق الخطأ، وتكون في حاجة لمن ينبهك، وإنني أتطوع في سبيل الحياة والحق والجمال من أجل أن أعيدك إلى صف الحقيقة والتاريخ، وإلى صف الإنسانية والمدنية. أعرف أنك الآن في ورطة، ولكنك لا تريد أن تعترف بهذا، وتحاول أن تخفي شمس الحقيقة، ولا تعرف بأنه لا وجود لأي قوة في الوجود، يمكن أن تخفي شمس هذه الحقيقة اللامعة والساطعة، وتقول هذه الحقيقة إن القبح قد بلغ اليوم مداه، وبأنه قد بلغ إلى حده الأقصى، وبأنه قد آن الأوان لكي ينتقل هذا القبح إلى نقيضه، أي أن يصبح جمالا حقيقيا في مدينة حقيقية وفي وطن حقيقي وفي عالم حقيقي، ولعل هذا ما قام به العلماء والمفكرون والفنانون الحقيقيون عبر التاريخ. لقد كانوا دعاة للإنسانية في معناها الجميل والنبيل، وكانوا ضد وحشية الإنسان، وكانوا ضد غابوية المدينة، وكانوا ضد قبح النفوس وقبح العقول وقبح العلاقات وقبح المؤسسات وقبح الكلمات والعبارات، وكانوا ضد قبح المعاني والأشياء. قد تدعي بأنك فنان، ولكنك لست كذلك، وهيهات أن تكون فنانا حقيقيا وقد تزعم بأنك مبدع من المبدعين، ولكنك لا يمكن أن تكون منهم، وهل تريد أن تعرف لماذا؟ لأن الإبداع الحق لا يكون إلا حيث يوجد الجمال، وأنت ما بينك وما بين الجمال إلا ما يناقض الخير والإحسان. وقد تتوهم نفسك، وتوهم بعض الناس أيضا، بأنك عالم علامة، وبأنك فاهم فهامة، مع أن الحقيقة عكس هذا تماما، وهل تريد أن تعرف لماذا؟ لأن الأساس في العلم هو الحقيقة دائما، وأنت ما أبعدك عن الحقيقة، ثم إن هذا العلم الحقيقي لا يمكن أن تكتمل إلا بالعمل الحقيقي، وأنت في كل مغامراتك لا تراهن إلا على الزيف، وترى في ها الزيف شيئا جديدا، مع أنه لا شيء في الوجود أقدم من الزيف. وقد تغالط نفسك، وتغالط بعض الناس أيضا، وتقول إنك تقدمي وحداثي، وتكتفي بقشور الحداثة، مع أنك بعيد عنها بعد السماء العالية عن وحل الأرض، ويفوتك أن تدرك جوهر هذه الحداثة وروحها، وبهذا تقفز عن الحقيقة والتاريخ، وتعيش خارج التاريخ، وتكون جاهليا ووحشيا في رداء الحداثة والمعاصرة. أنت أيها المحامي جاهل وأمي، ولو كنت عالما وعارفا لاخترت الحقيقة، ولكنت في صف التاريخ، ولراهنت على ما يبقى غدا، ولعرفت أن أعلب هذا الصخب الذي تثيره صحافة الفضائح سيتبخر في الهواء، وأنه غدا لن يظل على الأرض غير الفن الحقيقي، وأنه لن تدوم إلا الأفكار القوية والحية. أعرف أنك بهلوان في سيرك الدنيا، وأنك تجيد اللعب على كل الحبال، وأنك تحسن اللعب بالكلمات والعبارات والأشياء، وأنه من الممكن أن تخدع بعض الناس، ولكنه لا يمكن أن تخدع كل الناس، فأنت توظف الكلمات توظيفا خاطئا ومغلوطا، وتسمي الأشياء بغير أسمائها الحقيقية، وتلبس الحق بالباطل، وتسمى الاعتداء على الذوق العام فنا، وتسمي تهريب الإبداع إبداعا، وتسمي الوقاحة جرأة أدبية، وتسمي الاستلاب فتحا مبينا، وتسمي التخريب تجريبا، وتسمي مناقشة البديهيات والمسلمات اجتهادا فكريا. وأعرف أنك تمثل دور الضحية وأنت الجلاد، وأنك تمارس الاعتداء على كل المعاني الجميلة والنبيلة في الحياة، وأنك تشكك في اليقينيات، وأنك تخاف الوضوح والواضحات، وأنك تختفي خلف الغامضات من الكلمات. وأعرف أنك تطالب بالحقوق، ولكنك تنسى الواجبات، واجبات المواطنة ووجبات الإنسانية وواجبات الحياة وواجبات الفن الحقيقي والفكر الحقيقي والصناعات الأدبية الحقيقية.