الشاعر عبد اللطيف شهبون ل«طنجة الأدبية»: علاقة الشعر بالتصوف علاقة تكاملية
- أنت أكاديمي وتزاوج بين النقد وكتابة الشعر والعمود الصحفي والعمل الجمعوي الحقوقي، هل هذا نوع من الإلتزام بفكرة المثقف العضوي؟ - أنا لا أعتبر نفسي مثقفا عضويا، بل أنا إنسان منتسب للثقافة بما يعنيه هذا النسب صوفيا، لا أقل ولا أكثر، أقصد أن انتسابي إلى الثقافة، خاصة في هذه المرحلة من حياتي، هو انتساب قيمي وانتصار لموقف يقول بضرورة العمل ضمن دائرة القيم، باعتبار أن هناك أزمة خطيرة يجتازها مجتمعنا ويجتازها العالم، وهي أزمة قيم وأزمة أخلاق. قد أكون ميالا إلى الأخلاقيين أكثر من انتسابي إلى عضوية النضال. أنا منجذب إلى مقاومة الأشياء المنكسرة، في المجال السياسي وفي المجال الأكاديمي وفي المجال العام، فأينما وليت وجهك تلاحظ مظاهر التردي. جل ما أكتبه خاصة في الجانب الصحفي يطبعه موقف أخلاقي. أنا مشدود إلى دائرة التصوف، وكما يقول أهل الصلاح وأهل التقوى، التصوف هو أخلاق قبل أي شيء آخر. في كتاباتي الأكاديمية، هناك محاولة لرد الاعتبار للناس، باعتبارهم قيما، وباعتبارهم نماذج للسموق وباعتبارهم نماذج للاقتداء. وحتى الكتابة الإبداعية المغرقة في الذاتية، هي عندي نوع من الحنين للقيم المفقودة بالنسبة لي، وقد تكون مفقودة بالنسبة لغيري أيضا.. على العموم أنا لست غرامشيا. - ناوشت نقديا التراث الصوفي المغربي، والآن تنتج نصوصا شعرية في هذا المنحى الصوفي، ماهو سر هذا التحول؟ - أولا علاقتي بالتصوف، علاقة موغلة، إذ نشأت وتربيت في وسط صوفي، جداي من جهة أمي وأبي كانا صوفيين، أحدهما درقاوي والثاني عيساوي، لكن في مسار الإنسان قد تحدث أشياء، قد يصاب بالغفلة، قد يصاب بالانجذاب إلى التيارات التي ينجذب إليها المراهقون، وأنا واحد من الناس، لابد أن يصيبني ما أصابهم، وبالتالي عندما أرجع إلى التصوف، فأنا أرجع إلى طبيعتي الأولى، وربما إلى فطرتي قبل أن أكون شيئا مذكورا. عندما أتصفح ما كتبته حول التصوف أجده يعود إلى ثلاثين سنة، وهذه أشياء مدونة في مراحل سابقة ومنذ عقود، ومازلت أحتفظ بها وأتمنى أن يساعدني الوقت على إخراجها. أما بخصوص ماذكرته عن التحول، فليس الأمر متعلقا بالتحول بل بعودة الوعي، إذا صح التعبير، إلى ضرورة الاستمساك بالخط النوراني للتصوف، باعتباره تربية، والذي ربما قد يكون في الظرفية الحالية عاملا حاسما، لكن على العموم أنا معتز بانتمائي إلى طريقة القوم، إلى «الزاوية القادرية البوتشيشية»، وأنا مريد وفقير في هذا المنحى، وأسعد كلما كان لي لقاء بشيخ الطريقة سيدي حمزة القادري البوتشيشي، وأسعد وأنا أتمثله وأراه وتحمل إلي رسائله عبر الفقراء، رسائل السلام ورسائل الدعاء، وهي الرسائل العادية التي درج أهل الصلاح أن يبعثوا بها إلى من ينتمي إلى سلسلتهم الذهبية. وعلى المستوى الفكري، التصوف هو المخرج وهو المنقذ من الضلال، التصوف بما هو موقف وجودي، ليس كطريقة شكلية فولكلورية، لكن بما هو ممارسة واعية ترتكز على ذكر الله وتخلق وتساهم في بناء شخصية الإنسان وتعيد تربيته وتساعده على الفهم وإدراك الأسرار وماوراء الأسرار. - لكن ماذا عن علاقة التصوف بالشعر، لديك؟ - علاقة التصوف بالشعر هي علاقة تكاملية، ففي مسيرة الشعر العربي هناك نماذج شامخة جدا من الأدباء المتصوفة أو من المتصوفة الأدباء، يكفي أن تقرأ في مدونة ابن الفارض وفي أشعار مولاي عبد القادر الجيلاني وفي أشعار جلال الدين الرومي وفي أشعار الإمام الخميني، الذي لايعرف عنه الناس سوى أنه كان سياسيا قلب النظام في إيران، ولايدركون أنه كان شاعرا كبيرا، وقد تطرقت في مناسبة سابقة إلى أشعاره الجميلة جدا في التغني بالذات الإلهية وبالوجد الصوفي وبالخمرة الإلهية إلى غير ذلك.. إذن فالعلاقة هي علاقة رؤية، رؤية الشعر، ورؤية التصوف، بل هي رؤية الرؤى، إن صح التعبير. إمكانية التصوف باعتباره تدبرا وتأملا، شيء لابد أن يقوي بالفعل والقوة المادة الشعرية على المستوى الجمالي والجلالي، إذن العلاقة كائنة ومحكومة بهذا التجاذب والاندغام والتكامل، وأجمل الأشعارهي الأشعار الصوفية، على مستوى اللغة باعتبارها لغة منزاحة، وباعتبارالقاموس الصوفي قاموس اللغة العليا، لايعطي للكلمة دلالتها كما هي في القواميس، بل يخرجها من الدلالة المتعارف عليها إلى دلالة أخرى هي الدلالة العرفانية، يخرجها من المعرفة إلى العرفان. - ماهي في نظرك علاقة المثقف بالسياسي؟ - إذا كنت تقصد علاقة الثقافة بالسياسة، فعلى السياسي أن يتعلم من الثقافة، وبالتالي فأنا أعتقد أن للثقافة سلطان أما السياسة فسلطة، والسلطان فوق السلطة، لكن مايحدث الآن هوأن العبث السياسي يكاد يقهر المثقفين، وأنت تلاحظ أن المثقفين الآن ينكفؤون على أنفسهم ويقررون تقديم استقالتهم المعنوية من كل مايجري في حركية الواقع نتيجة المسخ والدجل السياسي الآخذ في الاتساع والتدهور، وتأمل أي مؤسسة سياسية وبدون استثناء، لن تخرج إلا وأنت واضع يدك على قلبك من هول الصدمة، لأن عالم السياسة، مع الأسف الشديد، بما هو معمول لا بما هو مأمول، فالمعمول هو أن السياسة تنصرف مسلكياتها إلى الرذيلة وإلى تفسيخ قيم المجتمع، وإلى الكذب وإلى الدجل، ومهما حاول الناس أن يخلقوا مسألة الدفاع عن السياسة... طبعا هناك سياسة نبيلة، وأنا لست ضد السياسة، بل مارستها لمدة طويلة، وفي أغلب الحالات بدون وعي وبدون إدراك، أو بما يمكن اعتباره حسن نية، لكني اكتشفت للأسف وبعد مدة طويلة أن السياسة رجس من عمل الشيطان. ليس عيبا أن يمارس الإنسان السياسة لكن الآن السياسة النبيلة مغيبة، ومنتوج السياسة التي ترادف الرذيلة هي العزوف، ولا يمكن نهائيا مقاومة العزوف إلا بالتمسك بعروة الأخلاق، وبالمقابل ليست هناك إرادة عند الناس الذين يمارسون السياسة للتمسك بالأخلاق، وهذا هو المشكل. فالسياسة هي حقل من الألغام، ولا يجني ثمارها إلا الشيطان. وأنا لست نادما على التجربة، لأنها أعطتني الكثير.. - ماهو موقفك من الصراعات والتطاحنات التي شهدتها الجمعيات الثقافية الكبرى في المغرب، من قبيل اتحاد كتاب المغرب و«بيت الشعر»؟ - أنا آسف لكوننا وصلنا إلى هذه المرحلة، مرحلة تفسيخ النسيج لكل ماهو جميل وأخلاقي في المغرب، لأن كلامي معك يحكمه هذا النسق الأخلاقي. اتحاد كتاب المغرب مؤسسة بناها الناس في سنوات صعبة، قد يسميها البعض سنوات الجمر والرصاص. بنتها قبل ذلك فكرة نبيلة لمثقفين وطنيين مخلصين، وهذا هو البيت الحقيقي، إذ لم يكن هناك بيت للشعر، بل كان اتحاد كتاب المغرب بيتا لجميع الأجناس الأدبية، الآن أصبحنا نرى خيما تنصب، خيمة للنابغة تحت عنوان بيت الشعروأخرى... وأنت تعلم أن نصب الكثير من الخيم والتي تفوق الحد، لا يجنى من وراءها غير المشاكل. أتأسف غاية الأسف لما جرى ويجري لاتحاد كتاب المغرب، كان لدينا رؤساء لهذا الاتحاد أسدووا أعمالا جليلة للثقافة في المغرب، والآن تحول الاتحاد عن مساره ومسيره الوطني وأصبح منطق الارتكاز على الذات هو السائد، وكأن جهة معينة لاتريد لهذا البلد أن تتعزز بنياته الثقافية والسياسية، إذ دخلت أمراض النرجسية وأمراض تورم الذات، التي لم تكن واردة في الماضي، حيث كانت حسابات المصلحة العامة هي السائدة. والآن تحت يافطة الديموقراطية هناك المشروع الخاص هو السائد، وهذا منتهى العبث، هذا لكي ألخص لك أما التفاصيل فيعيش فيها الشيطان. نحن نرى المعمول الذي هو مأساوي، أما المأمول فهو أن يتم الرجوع إلى ماكان الوضع عليه في السابق، لكن ليس بنفس الدرجة لأن التاريخ لا يعود ولا يعيد نفسه، ولكن مع ذلك فهو صراع تحكمه أشياء أخرى من خارج الثقافة. - هل يمكن أن تحدثنا من وجهة نظرك في ذلك الصراع الذي نشأ منذ سنتين بين «بيت الشعر»في المغرب وجمعية ملتقى الشعر الإيبرو- عربي التي تنتمي إليها؟ - أنا لست عضوا في «بيت الشعر» ولم أكن طرفا معنيا فيما جرى داخل «بيت الشعر» لكن في حدود علمي أنه وقع داخل هذه المؤسسة الثقافية نقاش حول إمكانية استضافة شعراء إيبيريين، وكانت الصيغة الأولى في حدود علمي أن اللقاء سوف يكون في مدينة طنجة أو في أي مدينة من مدن الشمال لاعتبارات تاريخية وثقافية معروفة، لكن الذي حصل هو أنه تم الاستفراد بالعملية في العاصمة، التي لم تعد عاصمة لأي شيء، وبالتالي أصبحت سلوكات بعض المثقفين أشبه بالسلوكات المخزنية التي تروم مخزنة القرار الثقافي، أصبحت المسألة هي الرباط، وأصبحنا في تكريس المركز، مع أننا الآن نتحدث عن اللا مركزية واللا تمركز، وكانت النتيجة أن وقع نقاش داخل «بيت الشعر»، وفكر مجموعة من الأصدقاء في تأسيس ملتقى الشعر الإيبرو-عربي، ووجهوا لي الدعوة باعتباري صديقا للمجموعة وفاعلا في الحقل الثقافي. وأنا صديق للآخرين أيضا ولا أكن لهم لا حقدا ولا أي شعور من هذا القبيل، لكني تأسفت، خصوصا وأنا من الذين يؤمنون إيمان العجائز بالجهوية الثقافية، ونحن باعتبارنا شماليين لدينا هذا الاعتقاد، نحن إقليميون بالمعنى الإيجابي ولسنا عنصريين أو شوفينييين، حتى السلطات العليا انتبهت إلى هذه المسألة، وأنت ترى الآن ماذا يجري بفضل انفتاحها على الشمال، إذن حتى منطق الواقع يرفض هذا الذي أرادوه. ولكي لا نبخس جهد أي أحد، علينا القول أن «بيت الشعر» يقوم بعمل مهم، ولكن ماذا سيقع لو كان قد وافق على عقد اللقاء هنا في الشمال، كان موقف «بيت الشعر» سيتعزز أكثر وأكثر، وما كان سيكون هناك تبديد للجهود. لكني أبقى ملتزما أخلاقيا مع الإخوان في ملتقى الشعر الإيبرو- عربي أو مغربي. - كيف تنظر إلى سيرورة الشعرالمغربي الحديث؟ أنا متفائل بطبعي، قد أبدو متشائما لكني واقعي، والنظرة الواقعية للأشياء تقول بأن الشعر في تقدم، ومن قال غير هذا فهو في نظري مخطئ لأن هناك الآن حساسيات شعرية جديدة تعبر عن نفسها بقوة أكيد أنها تحتاج إلى صقل تجربتها وإلى تهذبها وتثقيفها، هذا أمر مسلم به، لكني لست مع الموقف العدمي، هناك الآن شباب يعبرون بقوة عن نمط من الكتابة الجديدة التي تمتاح من المعين العالمي من التراث الكوني في الشعر والقصة، وهذه مناسبة كي أشير إلى أن عمل وزارة الثقافة لا يرقى إلى المستوى المطلوب نهائيا، وأستطيع أن أقول أنه دون المستوى بشكل غير مبرر. مجتمع مغربي قاعدته الديمغرافية تؤكد أن رأسماله هم الشباب، لدينا أكثر من 70% من الشباب يكتبون لكن هناك نوعا من النكوص في متابعة هذه الكتابة الشبابية أو الشبيبية، وهذه مناسبة لأحي شاعرين كبيرين هما سي عبد الكريم الطبال الذي يعجبني فيه هذا النفس النفيس، هذه الكتابة التي تظل دائما متطورة يانعة، وأحيي أيضا استمرار الكتابة الشعرية للسي محمد الميموني هو الذي يعيش الآن أوضاعا صحية صعبة. هناك طبعا أناس آخرين لكن هذا الثنائي يدلل بما لا يحتاج إلى دليل أن الشعر بخير، كان لناس ابتدأوا كتابة الشعر منذ أربعة عقود أو للذين ابتدأوا في كتابته حاليا، وأسجل أن الشباب ما زالوا يقرأون للطبال ويقرأون لمحمد الميموني ويستشهدون بأشعرهما، وهذا نوع من اللاجحود الذي يجب أن يستمر. لكن هناك مشكل، وهو أن الدولة لا تساعد وسياستها لا ترقى إلى المستوى المطلوب في دعم الثقافة، فهناك منابر ك«طنجة الأدبية» التي أحيي بحرارة العمل المتجدد واليانع الذي تقوم به، فأنتم تعملون في ظروف صعبة على نشر الثقافة والمنتوج الأدبي في مجتمع منبهر ومنخطف بالإعلاميات، حيث أصبح الاشتغال بثقافة الورق نوعا من المقاومة، أنتم الآن تقومون بما تعجز الدولة عن القيام به. واتحاد كتاب المغرب عليه أن يراجع أوراقه ويراجع سياسته وأن يخصص للحساسيات الجديدة حصة الأسد. أيضا المجالس البلدية التي تتصرف في المال العام، مجلس مدينة طنجة عليه أن يدعم هذا المنبر والمنابر الأخرى التي تدعم الثقافة المغربية، ونحن نسجل بأسف شديد أن هذا لا يقع بل إنهم يشجعون مهرجانات من «نوع خاص»، إذ نلاحظ أن هناك أناسا لا يستطيعون تغطية حتى مصاريف مشاريعهم الثقافية، بينما نرى تصرفا يتسم بنوع من الحمق والطيش والتبذير واللا مسؤولية مع جهات لا تحتاج إلى الدعم لأنها مدعمة أصلا، وأقصد الجهات الفرنكوفونية بالدرجة الأولى.