شوارع غرناطة مضاءة بالنجوم. غرناطة الشامخة كأنثى متلألئة، رائعة، زاهرة، وبهية. كنت أنظر إليها من وراء زجاج الفندق الكبير. كنت في ذلك الوقت داخل الفندق الكبير أتدفأ من شدة البرد الذي كان يعصف في الخارج. البار ممتلئ بالفتيات الأندلسيات الأنيقات كأنهن نزلن من القمر، ورجال في غاية الأناقة والرقة كالزهور. كان أريج عطرهن، عطرهم، متدفق في الصالة الكبيرة للفندق...بقيت وحيدا، جالسا، أرهف السمع لموسيقى هادئة، وادعة. بقيت هكذا على هذه الحال لوقت مديد من غير أن أحس بأي شيء كما لوكنت جمادا. لاشيء حرك في شعورا ما، بل وحتى الكلام الذي كان يثب أمامي كريش طائر لم أعره اهتماما. فقط.. نظرات غريبة كانت تخترق جسمي كالسهام، كل جسمي، الذي كان لايعرفني ولا أعرفه، كنت غريبا، ولا أحد اهتم لحالي. مر الوقت، يمر الوقت ثقيلا، وأنا جالس لا أقو على الحركة، أنظر ولا أنظر، تصدر عني حركات غريبة كالأبله، أو كالجالس لوحده في المقهى حين لا يجد شيئا يتلهى به، ولو بالنظر إلى المارة. لم أحس بتاتا بمرور الوقت. هبط الظلام. بعد هنيهة، نزل الشاعر النزق ( ع.ب) من غرفته رقم 225، جلس قبالتي وحياني بابتسام، وهو يقفل شفتيه. كانت الابتسامة تطل من نظارتيه. قال: - في أي مطعم سنتناول أكلة العشاء؟ - في مطعم Mirador de Morayma - حسنا. سيكون إذا هناك موسيقى ورقص - أجل، وغجريات أيضا. - وخمر... - كل ماتحب... - جيد..جيد.. خرجت من الفندق الكبير، تبعني الشاعر يجر خطاه بتثاقل كأنه يمشي فوق حبل داخل سيرك واسع. قلت لنفسي: ربما يفكر في كتابة قصيدة من قصائده النزقة. تركته دون أكلمه، كان الشارع مضاء بالنجوم المتلألئة والفتيات الجميلات، وفي الأمام عاهرة جميلة كإوزة من بلاد أوربا الشرقية بمعطف أبيض، شعرها الأشقر يتلألأ من فرط ضوء النجوم تغمز بلحظها، عرفتها توا، دعتني أنا والشاعر لقضاء الليلة معها، لكنني اعتذرت لها برقة، قائلا إن لي برنامج، لايمكن أن أتخلى عنه، ووعدتها بيوم آخر. كنت أتعمد أن أكذب عليها حتى تتركني أروح لسبيلي، وفضلت ذلك على خدشها بكلامي... اقتنعت وراحت بعيدا لتلقي بشباكها لاصطياد سمكة إسبانية ضخمة أو إفريقية أو مغربية متعطشة لتجريب معاشرة الأوربيات الشرقيات ذوات اللحم الأبيض المستطاب، الطري والشهي. تابعت طريقي والشاعر يتبعني كظلي لايريد شيئا، كنت اعرف انه كان راغبا في معاشرة تلك العاهرة، لكنني غضضت الطرف عن التفكير في مسألة كهذه. قلت لنفسي: ربما، يفكر في كتابة قصيدة عنها، فغرناطة ملهمة لكتابة القصائد بامتياز، وهذا الشاعر النزق لن يتردد في كتابة قصيدة، فأنا اعرفه منذ زمن، ومنذ أن قرأت له قصيدة "النادلة الإلكترونية". اكتفيت بالتخمين أنه سيكتب عن " العاهرة ذات الجلد الأبيض الأسيل"، وتابعت الطريق وهو يتبعني، وفي هبطة، قفزت، كان هناك طرولي قفز هو الآخر، صعدنا، دفعت ثمن الركبة، دفع...كانت مقاعد الطرولي القليلة عامرة، ظللنا واقفين. الطرولي يخرم الشوارع والطرقات بلارحمة، كانت قطرات المطر الخفيفة التي بدأت في التساقط تتقاطر على زجاج النوافذ، في جهة نافذتي مسحت بيدي حبات المطر، وخفت أن يرمقني غرناطي أو غرناطية بنظرة سمجة، فأبعدت يدي اليمنى، ومسحت العرق الذي تصبب من جبيني فجأة دون أن اشعر، مسحت، كان الصمت في الطرولي غريبا، والهواء كثيف. وقف، نزلت، نزل الشاعر ، تبعني. صعدت، صعد، الطريق مديدة وملتوية كثعبان. ها هو المطعم. قلت له: - لتدخل..ها قد وصلنا. - كراسياس. نطقها بإسبانية باردة ، ثم دلف إلى المطعم وجوفه يعزف لونا موسيقيا مرعبا وغريبا ذكرني بأصوات أوابد الغابة. جلسنا في جناح دافئ. كان مطعما فخما ذا طراز أندلسي . حضر النادل يحمل أطباقا مترعة بالسلاطة والكمبري الغليظ، والمحار. ثم راح، وعاد وهو يمسك بيديه طبقا به لحما غريبا، وقوارير بيرة باردة. سأله الشاعر: ماهذا يا....... قال: لحم الغزال. قلت له بابتسام: تذوقه، ربما يعجبك طعمه وتكتب لنا قصيدة عنه كذلك. فلم يتمالك نفسه من الضحك....... ثم غرز شوكته في لحم الغزال وشرع في الأكل كوحش. وبلع اللحم دون أن يمضغه.... تخيلت كأن قطيعا من الغزلان يتجولن بحذر داخل المطعم. في غضون ذلك، دخلت فرقة موسيقية تتبعها غجريات بلباسهن الأندلسي القزحي الفاتن. لمعت عينا الشاعر. ورنا ببصره إلى راقصة فلامنكو. وابتدأت الموسيقى والغناء والرقص وتحول المطعم إلى مرقص ليلي. كانت ليلة جميلة لن تنسى. قلت لنفسي: لابد أن "يؤرخ" لها الشاعر بقصيدة. خرجنا من المطعم هبطنا الطريق الملتوية كثعبان وعند لوية كان الطرولي واقفا..صعدنا. وتوجهنا إلى الفندق الكبير. لم يبق على مغادرتنا لغرناطة سوى يوم واحد. زرنا بعض المآثر التاريخية العربية الشهيرة ثم عدنا في اليوم الموالي إلى تطوان. عاد الشاعر إلى مدينته الجبلية الشجرية. مرت أيام وليالي. ذات صباح رن الهاتف في بيتي كان المتكلم جواد. قال لي: هل قرأت قصيدة "فيكتوريا"؟ قلت له: لا. ضحك، ثم قال: عليك بقراءتها، لاغالب إلا الله. وقبل أن يقفل الهاتف، بادرته بالسؤال: - أين نشرت؟ - في جريدة " الزمان" التي تصدر بلندن. تمكنت أخيرا من قراءة القصيدة، وأنا أقرأ لفت انتباهي مقطع مدغوم ب " السيد يوسف"، الذي ليس هو السارد. لتتمتعوا إذا بما كتبه الشاعر النزق: السيد يوسف:" اطربي ياقياثير لوركا ماشئت فالنفس استحمت في الأندلس ولا تنوحي على ماتبقى من أثر قدم لوركا فلم يقتلوه، ولم يستحلوا أحلامه وما دفنوه في مقبرة وسألنا الغجر أين برهانكم لتأخذوا جمرة الأندلس معكم وسألنا الغجر ثانية، أين تركتم سفينتكم وسيوف المعتمد بن عباد وقلنا: مالنا من علم، إلا ما سمعناه من نخيل أغمات ونصب الحمامة البيضاء. ثم جاؤوا بيوسف خليل.....فقال لهم الغجر ماهذا بيوسف الذي أمامنا وإنما رمس فما لنا بصر لنتبينه وهو في غفل من مارآى وسمع لانريد السيد يوسف هذا الذي أتيتمونا به فهو أقبر من حصاة وجاء به جواد ورامون والعباسي وعبد المالك وعقله آفلا لم يكن يذكر إلا ابنه خليل وأمه...موعدا إياهما ببضع أحلام وكعك وزوج حذاء من زجاج العتبة قبل أن يأتيه خبر القيامة وشيعوه إلى فردوس سريره المفقود، كما تراءت له أوهام الحاوي الذي كان في زنقة بغرفة لئيمة، وفرت منه الثعابين وبقي الحال موصوفا يبكي لؤم الناي وفقدان الأثر وحسبي أنه نام ليلة أو سنة أو الدهر كله فظنوا أنه من أهل الكهف". وبعد الانتهاء من هذا المقطع تذكرت ذلك المسكين الذي أدى للفندق فقدان الأثر وضحكت من غباوة الشاعر الذي كان يتبعني كظلي حين إقامتي في غرناطة. وقلت لنفسي: لا غالب إلا الله.