"شاركْ، اسمع، راقبْ! لكن إيّاك أن تشهد إلا كذبا هذه هي الثقافة التي ترعاها اليوم وتعمّمها في بلاد العرب، أوروبا والولايات المتّحدة" أدونيس
ما عرفته السّاحة العربيّة مؤخرا من أحداث، أحدث رجّة في الوعي العربي، وفتح الباب لطرح أسئلة جوهريّة حول طبيعة هذه الأحداث هل هي ثورات أم انتفاضات أم حراك؟ ولكل تسمية من هذه التّسميات ما يبرّرها استنادا على قراءات وتحليلات وفق مرجعيات معيّنة.
وبما أنّ بعض نتائج هذه الأحداث وتداعياتها قد خيّبت آمال الكثيرين وكشفت أنّ الواقع أعقد من الأماني والآمال، فتر الحماس وتمّت مراجعة الكثير من الأحكام الطوباويّة، واستؤنفت النقاشات في تحليل ذلك الذي حدث ويحدث.
عند حديثنا عن الثّورات، لا يسعنا سوى استحضار التّصنيف الذي وضعه دانيال مورني للثّورات، في كتابه الأصول الفكريّة للثورة الفرنسيّة، حيث تحدّث عن ثلاثة أنواع من الثّورات: ثورات البؤس والمجاعة وهي انتفاضات يقوم بها الجياع والمقهورون رافعين مطالبهم ومعبرين عن غضبهم الجامح، وهذا النّوع من الثّورات ينتهي إما إلى الفوضى أو إلى قمع دموي.
ثم هناك نوع آخر من الثّوارات تقوم به أقليّة ذكيّة وجريئة، تستولي على السّلطة وتسيطر على الجماهير. أمّا النّوع الثّالث من الثّورات فهو الذي تكون فيه الأغلبية، أو على الأقل أقليّة عريضة متنوّرة واعية بمساوئ وعيوب النّظام القائم، وتملك تصوّرا للإصلاحات العميقة التي ستنجزها، ثمّ تبدأ شيئا فشيئا بالتأثير في الرّأي العام، وبعد ذلك تصل إلى الحكم بشكل يكون شرعيّا إلى حدّ ما. فالجماهير استجابت للثورة لأنّها مهيّأة، ولو بشكل عام، لفهم الأفكار التي باسمها قامت الثّورة وبالتّالي تبنيها.
في الحقيقة، هذا النّوع الثّالث من الثّورات هو ما عرفته بعض البلدان الأوروبية بدء من القرن السّابع عشر، فانتقلت معه من طور إلى طور، سياسيّا وبالاستتباع اجتماعيّا واقتصاديّا، وإن كان ذلك على المدى المتوسّط والبعيد؛ ونقصد هنا على سبيل المثال الثورتين الانجليزيّة والفرنسيّة، لأنّنا حين نتوقّف عند هذه النّماذج، نلاحظ أنّها كانت من إنجاز نخب فكريّة وسياسيّة فاعلة، حاملة لمشاريع أنظمة بديلة عن تلك القائمة. ففي الثّورة الإنجليزيّة مثلا لم يكن الصّراع بين الحشود البائسة اجتماعيّا والنّظام القائم، بل كان سياسيّا بين البرلمان المناهض لاستبداد الملك، والمدعم من الطبقة الوسطى والبورجوازيّة وبين الملك المكرّس للاستبداد، والمسنود من الأرستقراطيين الزراعيين ورجال الدين الكاتوليك والأنجليكانيين. أمّا في فرنسا فما كان للثّورة أن تكون لولا الأفكار التي بلورها فلاسفة الأنوار ومفكرو القرن الثامن عشر، حيث ظهرت حركة اجتماعية جديدة، غنية ومثقفة حاملة لأفكار جديدة، عملت على تطوير الوعي الشعبي، بهدف تكسير التحالفات القائمة في المجتمع والمحتكرة للسلطة باسم الحق الالهي، والمقصود الملك والإكليروس وطبقة النبلاء. لذلك فالأفكار التي تم الترويج لها وتبنتها الجماهير، كانت من قبيل:
للإنسان الحقّ في الحريّة. النّاس متساوون بالطبيعة، لذلك لهم الحق في نفس الحقوق.النّاس طيبون بطبيعتهم ما لم يفسدهم مجتمع غير منتظم، فبإمكانهم أن يعيشوا في المجتمع كإخوان. وهذا هو فحوى الشّعار الذي نادت به الثّورة الفرنسيّة: حريّة- مساواة- أخوّة.
انطلاقا من هذا التّصنيف الذي أوردناه لأنواع الثّورات، نتساءل حول هذا الذي سمّي "الرّبيع العربي"، وانطلاقا من الخصائص العامّة التي تؤطّره، فضمن أيّ نوع من الثّورات يندرج؟ يصح القول إنّ ما عرفته بعض الدول العربيّة مؤخّرا يندرج ضمن النّوع الأوّل من الثورات، لأنّه كان مجرّد انتفاضات، جاءت كتعبير عن احتقانات اجتماعيّة مردّها إلى سوء توزيع الثّروة واستفحال البطالة واستشراء الفساد. إضافة إلى التّفاوت الحاصل بين معدّل النموّ الاقتصادي وسرعة النموّ السكّاني، وهذا أمر يمكن تعميمه على جلّ الأوطان العربيّة وإن بنسب متفاوتة. فأن تخرج الحشود الغاضبة وغير المؤطرة سياسيا في أغلبها، مطالبة بإسقاط الأنظمة ومردّدة لشعارات مغرية وبراقة مثل: حريّة، كرامة، عدالة اجتماعيّة. لهو أمر يدعو إلى التأمّل وطرح العديد من الأسئلة لكي تنجلي الصّورة الحقيقيّة لما يجري.
إننا إذا تأملنا، وبروية، ما جرى في البلدان العربية، وبداية من تونس مهد الأحدات، فسنجد أن شبابا متذمّرا من أوضاعه الاجتماعيّة، حانقا على الدّولة والماسكين بزمام السّلطة، لأنّهم في نظر هؤلاء الشباب، المستأثرون بالخيرات ومانعيها على غيرهم خصوصا، وأنّ الذين أشعلوا الشّرارة الأولى للإحتجاجات، كانوا من الشّباب العاطل والطموح والحالم بحياة أفضل، يرون أن السلطة والثروة مركزة في يد فيئة محدودة ومعروفة، إنّها بكل وضوح "النظام"، فمن بين أوّل الشّعارات التي رفعت "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق"، بمعنى أنّه لولا هذه "الطغمة" الحاكمة لاشتغل الكل وعم الرفاه، هكذا كانت تفهم الأمور عند جل الشباب المتظاهر، لذلك التحقت بهم الجماهير الغاضبة، وتطورت الأحداث والشّعارات إلى أن رفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام".
حقا تفاجأ الكثيرون من عزم وتصميم هذا الشباب ومن شجاعته، برفعه هذا الشعار في وجه نظام من اكثر الأنظمة بوليسيّة وقمعا في العالم العربي. لكن السّؤال الذي يطرح نفسه هو هل كان كافيا تظاهر الجماهير سلميّا، ورفع هذا الشعار ليتخلى الرّئيس عن السّلطة؟ إنّنا لا ندري حقيقة الترتيبات الداخليّة، وتفاصيل ما جرى قُبيل اقناع بن علي بالرّحيل، ففي تقدير الكثيرين كان الأمر مجرد انقلاب داخلي، نفّذه متبرّمون من شطط الرّئيس بن علي وآل زوجته.
تسرّبت العدوى إلى مصر، وهي البلد العربي الأكثر استعدادا من غيره للإنفجار، نظرا لبلوغ الاحتقان الاجتماعي أشده، الفقر، كثرة الفساد، شرائح عريضة من الشباب العاطل واليائس، حزب واحد مستأثر بالسّلطة والمال ولا يجد غضاضة في تزوير انتخابات مجلس الشّعب، وبشكل سافر، ليبقي كلّ دواليب السّلطة في يديه. استمد الشباب المصري المتحمس الشرارة من تونس، لأنّ الأمر بدا سهلا، حيث إن سؤالا معقولا بدأ يطرح نفسه، إذا انتفض الشعب التونسي أياما معدودات، وعدده لا يتجاوز عشرة ملايين ونصف المليون، ففرّ الرئيس، فكيف إذا انتفض شعب يتجاوز الثّمانين مليونا؟ خرج في بداية الأمر شباب جله متعلم تعليما جامعيّا، توسّل بصفحات التّواصل الاجتماعي "الفيس بوك والتويتر" من أجل تعبئة الجماهير المتذمّرة، بدأت الشعارات في حدود الاجتماعي، مثل: "ليه ليه كيلو عدس بعشرة جنيه" "يا وزراء طفوا التكييف مش لاقين حق الرّغيف" تطورت شعاراته لتصل إلى الذروة، الشعب يريد إسقاط النظام، بعد ترتيبات وتوافقات إقليميّة ودوليّة، تنحى الرّئيس وبقي النّطام.
انتقل الأمر إلى بلدان عربية أخرى، لكنه اتخذ مسارات مغايرة لما حصل في تونس ومصر، حيث تعقّدت الأمور وتدخّلت عناصر جديدة في اللعبة، وخير مثال: ليبيا واليمن وفيما بعد سوريا، لا يجادل في مسألة تدخل أيادي أجنبيّة في تأجيج الأوضاع في هذه البلدان إلا معاند.
صحيح أنه إبان الأحداث فضل أغلب المثقفين الوازنين، الصّمت وعدم الخوض فيما يجري، تاركين المجال لنجوم الفضائيات الجدد، يُقدَمون كخبراء ومتخصصين في شؤون عدّة، ما سمعنا بهم ولا عنهم من قبل، أغلبهم يتحدث بلغة مكسرة وفي غاية الركاكة، يرفعون بحروف الجر وينصبون ما يرفع، فانبروا بتحليلاتهم المبسطة والعاطفية المهيجة للجماهير، والملقنة في غالب الظن، مثل: "الشّعوب العربيّة استيقظت من سباتها وثارت على جلاديها، إنّها الآن تشقّ طريقها نحو الحريّة والانعتاق".
لقد كان لمجموعة من القنوات الفضائيّة العربيّة، الدّور المهم في تأجيج الانتفاضات والدفع بها إلى بلدان أخرى، بل لقد ثبت أن بعض تلك القنوات قامت بفبركة أحدات مأساويّة وترويجها من أجل تأليب الجماهير، وحشد الهمم للثورة على بعض الأنظمة، وبل وتسخير المثقفين ورجال الدّين لذلك الغرض.
يحقّ لملاحظ محايد أن يسجّل عجيب أمر هذه الشّعوب، كيف وصلت إلى هذا المستوى من الوعي والنّضج؟ رغم أنّ كل المؤشرات تشي بالعكس. فهذه الشعوب أكثرها أمي والمتعلم منها تعليمه متدني. فحسب إحصائيات منظمة اليونسكو لسنة 2009 فإن الأوطان العربية التي يتجاوز عدد سكانها 335 مليونا، أكثر من 30 % منهم أمي، طبعا مع تفاوت بين الدّول، فمصر مثلا تتجاوز نسبة الأمية بين سكانها 42 %. كما أن التقرير الذي أنجزه البنك الدولي حول التّعليم في العالم العربي بيّن أنّ مستواه متخلّف بالمقارنة مع البلدان الأخرى.
ما يزكّي هذا الانطباع هو المحصلة التي أسفرت عنها هذه الانتفاضات، صحيح أنّها أزاحت رؤساء مستبدين وأنهت بذلك مسلسل التوريث، وفتحت المجال لصناديق الاقتراع؛ لكنّها في نفس الوقت، ولأنها كانت دون أفق أيديولوجي ودون فاعلين سياسين، أسفرت عن خواء إيديولجي و سياسي، فتقدم إلى الواجهة لاعبون جدد، مشاريعهم أبعد ما تكون عن روح وفلسفة الشّعارات التي رفعت، ونقصد الجماعات الإسلاميّة في شقيها المعتدل والمتطرّف، المدعمة من طرف دول عربيّة بعيدة كليّا عن الثقافة الديمقراطيّة وفلسفة حقوق الإنسان، يفهمون من الحريّة شيئا آخرا غير ما يفهمه غيرنا في الضفّة الأخرى.
السؤال المحير هو أين اختفى الشباب المنتفض وشعاراته البراقة، والملتبسة، وعلى رأسها الحرية والكرامة؟ وهل هناك حرية وكرامة في ظل الرجعية الخانقة للحريات والتبعية السالبة للكرامة وهيمنة الأجنبي وانتظار مساعداته المشروطة وتدخلاته الوقحة؟ سجل مونتسكيو- عند حديثة عن تاريخ الرومان الذين بالغوا في استعباد الكثير من الشعوب وإذلالها ومن بينها الشعب اليوناني بشتى الوسائل ثم يوهمون عامة هذه الشعوب بأنهم أحرار- قائلا: "فرح سفهاء اليونان ظنا منهم أنهم أحرار بمجرد أن الرومان أعلنوا ذلك" ويمكن أن نستعير اليوم عبارة مونيسكيو هذه ونقول، وبدون مبالغة: "فرح سفهاء العرب ظنا منهم أنهم أحرار بمجرد أن الأمريكان أعلنوا ذلك".