اختلف النظار والمحللون في تسمية ما عرفته الساحة العربية مؤخرا من أحداث، هل هي ثورات أم انتفاضات أم حراك؟...الخ. وكل تسمية من هذه التسميات هي محصلة لقراءات وتحليلات وفق مرجعيات معينة. وليس يخفى أن بعض نتائج هذه الأحدات قد خيبت آمال الكثيرين وكشفت أن الواقع أعقد من الأماني والآمال، ففتر الحماس وتمت مراجعة الكثير من الأحكام الطوباوية واستؤنفت النقاشات في تحليل ذلك الذي حدث ويحدث. عند حديثنا عن الثورات لا يسعنا سوى استحضار التصنيف الذي وضعه دانيال مورني للثورات، في كتابه الأصول الفكرية للثورة الفرنسية، حيث تحدث عن ثلاث أنوع من الثورات: ثورات البؤس والمجاعة وهي انتفاضات يقوم بها الجياع والمقهورون رافعين مطالبهم ومعبرين عن غضبهم الجامح، وهذا النوع من الثورات ينتهي إما إلى الفوضى أو إلى قمع دموي. ثم هناك نوع آخر من الثوارات تقوم به أقلية ذكية وجريئة تستولي على السلطة وتسيطر على الجماهير. أما النوع الثالث من الثورات فهو الذي تكون فيه الأغلبية، أو على الأقل أقلية عريضة متنورة واعية بمساوئ وعيوب النظام القائم، وتملك تصورا للإصلاحات العميقة التي ستنجزها، ثم تبدأ شيئا فشيئا بالتأثيرفي الرأي العام ، وبعد ذلك تصل إلى الحكم بشكل يكون شرعيا إلى حد ما. فالجماهير استجابت للثورة لأنها مهيأة، ولوبشكل عام، لفهم الأفكار التي باسمها قامت الثورة وبالتالي تبنيها. في الحقيقة، هذا النوع الثالث من الثورات هو ما عرفته بعض البلدان الأروبية بدء من القرن السابع عشر، فانتقلت معه من طور إلى طور، سياسيا وبالاستتباع اجتماعيا واقتصاديا، وإن كان ذلك على المدى المتوسط والبعيد؛ ونقصد هنا الثورتين الانجليزية والفرنسية ، لأننا حين نتوقف عند هذه النماذج، نلاحظ انها كانت من انجاز نخب فكرية وسياسية فاعلة، حاملة لمشاريع أنظمة بديلة عن تلك القائمة. ففي الثورة الإنجليزية مثلا لم يكن الصراع بين الحشود البائسة اجتماعيا والنظام القائم، بل كان سياسيا بين البرلمان المناهض لاستبداد الملك، والمدعم من الطبقة والوسطى والبورجوازية وبين الملك المكرس للاستبداد، والمسنود من الأرستقراطيين الزراعيين ورجال الدين الكاتوليك والأنجليكانيين. أما في فرنسا فما كان للثورة ان تكون لولا الأفكار التي بلورها فلاسفة الأنوار ومفكرو القرن الثامن عشر، حيث ظهرت حركة اجتماعية جديدة، غنية ومثقفة حاملة لأفكار جديدة، عملت على تطوير الوعي الشعبي، بهدف تكسير التحالفات القائمة في المجتمع والمحتكرة للسلطة باسم الحق الالهي، والمقصود الملك والإكليروس وطبقة النبلاء. لذلك فاللأفكار التي تم الترويج لها وتبنتها الجماهير، كانت من قبيل: للإنسان الحق في الحرية. الناس متساوون بالطبيعة، لذلك لهم الحق في نفس الحقوق.الناس طيبون بطبيعتهم ما لم يفسدهم مجتمع غير منتظم، فبإمكانهم أن يعيشوا في المجتمع كإخوان. وهذا هو فحوى الشعار الذي نادت به الثورة الفرنسية: حرية- مساواة- أخوة. انطلاقا من هذا التصنيف الذي أوردناه لأنواع الثورات، نتساءل حول هذا الذي سمي بالربيع العربي ،وانطلاقا من الخصائص العامة الذي تؤطره، ضمن أي نوع من الثورات يندرج ؟ يصح القول ان ما عرفته بعض الدول العربية مؤخرا يندرج ضمن النوع الأول من الثورات، لأنه كان مجرد انتفاضات، جاءت كتعبير عن احتقانات اجتماعية مردها إلى سوء توزيع الثروة واستفحال البطالة واستشراء الفساد. إضافة إلى التفاوت الحاصل بين معدل النمو الاقتصادي وسرعة النمو السكاني، وهذا أمر يمكن تعميمه على جل الأوطان العربية وإن بنسب متفاوتة. فأن تخرج الحشود الغاضبة وغير المؤطرة سياسيا في أغلبها، مطالبة بإسقاط الأنظمة ومرددة لشعارات مغرية وبراقة مثل: حرية، كرامة، عدالة اجتماعية. لهو أمر يدعو إلى التامل وطرح العديد من الأسئلة لكي تنجلي الصورة الحقيقية لما يجري. إننا إذا تأملنا، وبروية، ما جرى في البلدان العربية وبداية من تونس مهد الأحدات، فسنجد أن شبابا متدمرا من أوضاعه الاجتماعية، حانقا على الدولة والماسكين بزمام السلطة، لأنهم في نظر هؤلاء الشباب، المستأثرون بالخيرات ومانعيها على غيرهم خصوصا وان الذين أشعلوا الشرارة الأولى للإحتجاجات، كانوا من الشباب العاطل والطموح والحالم بحياة افضل، يرون أن السلطة والثروة مركزة في يد فيئة محدودة ومعروفة، إنها بكل وضوح "النظام"، فمن بين أول الشعارات التي رفعت "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق"، بمعنى أنه لولا هذه الطغمة الحاكمة لاشتغل الكل وعم الرفاه، هكذا كانت تفهم الأمور عند جل الشباب المتظاهر، لذلك التحقت بهم الجماهير الغاضبة، وتطورت الشعارات إلى أن رفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". حقا تفاجأ الكثيرون من عزم وتصميم هذا الشباب ومن شجاعته، برفعه هذا الشعار في وجه نظام من اكثر الأنظمة بوليسة وقمعا في العالم العربي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل كان كافيا تظاهر الجماهيرسلميا ورفع هذا الشعارليتخلى الرئيس عن السلطة؟ إننا لا ندري حقيقة الترتيبات الداخلية وتفاصيل ماجرى قُبيل اقناع بن علي بالرحيل، ففي تقدير الكثيرين كان الأمر مجرد انقلاب داخلي، نفده متبرمون من شطط بن علي وآل زوجته. انتقلت العدوى إلى مصر وهي البلد العربي الأكثر استعدادا من غيره للإنفجار، نظرا لبلوغ الاحتقان الاجتماعي أشده، الفقر، كثرة الفساد، شرائح عريضة من الشباب العاطل واليائس، حزب واحد مستأثر بالسلطة والمال ولا يجد غضاضة في تزوير انتخابات مجلس الشعب، وبشكل سافر، ليبقي كل دواليب السلطة في يديه. استمد الشباب المصري المتحمس الشرارة من تونس، لأن الأمر بدا سهلا، حيث إن سؤالا معقولا بدأ يطرح نفسه، إذا انتفض الشعب التونسي أياما معدودات ، وعدده لا يتجاوز عشرة ملايين ونصف المليون، ففر الرئيس، فكيف إذا انتفض شعب يتجاوز الثمانين مليونا؟ خرج في بداية الأمر شباب جله متعلم تعليما جامعيا، توسل بصفحات التواصل الاجتماعي "الفيس بوك و التويتر" من أجل تعبئة الجماهير المتدمرة، بدأت الشعارات في حدود الاجتماعي، مثل: "ليه ليه كيلو عدس بجنيه" "ياوزراء طفوا التكييف مش لاقين حق الرغيف" تطورت شعاراته لتصل إلى الذروة، الشعب يريد إسقاط النظام، بعد ترتيبات وتوافقات إقليمية ودولية، تنحى الرئيس وبقي النطام. انتقل الأمر إلى بلدان عربية أخرى لكنه اتخذ مسارات مغايرة لما حصل في تونس ومصر، حيث تعقدت الأمور وتدخلت عناصر جديدة في اللعبة، وخير مثال : ليبيا واليمن وفيما بعد سوريا، لا يجادل في مسألة تدخل أيادي أجنبية في تأجيج الأوضاع في هذه البلدان إلا معاند. صحيح أنه إبان الأحداث فضل أغلب المثقفين الوازنين، الصمت وعدم الخوض فيما يجري، تاركين المجال لنجوم الفضائيات الجدد، يُقدَمون كخبراء ومتخصصين في شؤون عدة، ما سمعنا بهم ولا عنهم من قبل، أغلبهم يتحدث بلغة مكسرة وفي غاية الركاكة، يرفعون بحروف الجر وينصبون ما يرفع، فانبروا بتحليلاتهم المبسطة والعاطفية المهيجة للجماهير، والملقنة في غالب الظن، مثل: "الشعوب العربية استيقظت من سباتها وثارت على جلاديها، إنها الآن تشق طريقها نحو الحرية والانعتاق". لقد كان لمجموعة من القنوات الفضائية العربية، الدور المهم في تأجيج الانتفاضات والدفع بها إلى بلدان أخرى، بل لقد ثبت أن بعض تلك القنوات قامت بفبركة أحدات مأساوية وترويجها من أجل تأليب الجماهير وحشد الهمم للثورة على بعض الأنظمة وبل وتسخير المثقفين ورجال الدين لذلك الغرض. يحق لملاحظ محايد أن يسجل؛ عجيب أمر هذه الشعوب كيف وصلت إلى هذا المستوى من الوعي والنضج، رغم أن كل المؤشرات تشي بالعكس. فهذه الشعوب أكثرها أمي والمتعلم منها تعليمه متدني. فحسب إحصائيات منظمة اليونسكو لسنة 2009 فإن الأوطان العربية التي يتجاوز عدد سكانها 335 مليونا اكثر من 30 في المأة منهم أمي، طبعا مع تفاوت بين الدول، فمصر مثلا تتجاوز نسبة الأمية بين سكانها 42 في المأة. كما أن التقرير الذي أنجزه البنك الدولي حول التعليم في العالم العربي بين أن مستواه متخلف بالمقارنة مع البلدان الأخرى. ما يزكي هذا الانطباع هو المحصلة التي اسفرت عنها هذه الانتفاضات، صحيح انها ازاحت رؤساء مستبدين وأنهت بذلك مسلسل التوريث، وفتحت المجال لصناديق الاقتراع؛ لكنها في نفس الوقت، ولأنها كانت بدون أفق ايديولوجي وبدون فاعلين سياسين، أسفرت عن خواء إيديولجي و سياسي، فتقدم إلى الواجهة لاعبون جدد، مشارعهم أبعد ما تكون عن روح وفلسفة الشعارات التي رفعت، ونقصد الجماعات الإسلامية في شقيها المعتدل والمتطرف، المدعمة من طرف دول عربية بعيدة كلية عن الثقافة الديمقراطية و فلسفة حقوق الإنسان. لكن أين الشباب المنتفض وشعاراته البراقة، والملتبسة، وعلى رأسها الحرية؟ والكرامة، وهل هناك حرية وكرامة في ظل الرجعية والتبعية وهيمنة الأجنبي وانتظار مساعداته. هذا يذكر بما سجله مونتسكيو عند حديثة عن تاريخ الرومان الذين بالغوا في استعباد الكثير من الشعوب وإذلالها، ومن بينها الشعب اليوناني، بشتى الوسائل ثم يوهمون عامة هذه الشعوب بأنهم أحرار، حيث قال: "فرح سفهاء اليونان ظنا منهم أنهم أحرار بمجرد أن الرومان أعلنوا ذلك" هل يمكن أن نترجمها بلغة اليوم، فنقول: "فرح سفهاء العرب ظنا منهم أنهم أحرار بمجرد أن الأمريكان أعلنوا ذلك". *أستاذ جامعي/جامعة أبوشعيب الدكالي