2 من القابلية للاستعمار إلى القابلية للثورة في مقالنا السابق، والأول ضمن سلسلة مقالاتنا حول "ثورات العالم العربي"، كنَّا قد سعينا، وفي حدود ما يتيحه عادة المقال، بحجمه وأطروحته، على التأكيد على أن العالم العربي، ومنذ العام 1962، لم يتحرر من الاستعمار وسواء، وكما يمكن أن نضيف، هنا، بالتقسيط أو دفعة واحدة... أو أن هذا الاستعمار، الذي ارتبط بإمبراطوريات كلاسيكية، سرعان ما سيفسح المجال، وبعد عقد من الزمان، ل"استعمار داخلي" بدا أنه، ومن جوانب عديدة، أفظع وأرعن مقارنة مع الاستعمار الذي بدا "مباشرا" و"خارجيا"، عكس الاستعمار الداخلي الذي بدا، ورغم تمظهره في الفساد والاستبداد، في "شكل شبح"، مما آخر، كثيرا، من التصدي له، والسير، بالتالي، على طريق محاولة التخلص أو على الأقل الفكاك منه. ومن ثم فإن مطمح "فك الاستعمار" (Décolonisation)، كما تنصُّ عليه "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" التي نأخذ ببعض مفاهيمها في كتاباتنا، تكشَّف عن عجزه منذ السنوات الأولى من "الاستقلال". وربما في هذا السياق حقَّ لنا أن نستحضر ما كان قد قصد إليه مفجِّر النظرية الأخيرة الأكاديمي الأمريكي والكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد، في كتابه "تأملات حول المنفى"، تحت تسمية "الاستقلال المضحك" الذي كان من نصيب العالم العربي. وهذا على الرغم من التضحيات الجسام التي بذلها أبناء المستعمرات ضدا على "الكولون"، ومما كلَّفهم كميات من الدماء وألوانا من الجراح التي لا تزال تلقي بتأثيراتها حتى الآن. ولا أدلَّ على ذلك من الجزائر التي لا تزال، حتى الآن، تطالب فرنسا ب"اعتذار رسمي" على فظاعات استعمارها للجزائر، لكن دون أن يكون هناك أي نوع من الاستجابة بدليل أن الملف يرتبط ب"في هكذا ماضٍ" ينطبق عليه "مبدأ التقادم". وإذا كانت الجزائر تجرؤ على ذلك فهذا لا يعني أن الدول الصامتة تحقق فيه "الاعتذار"، بل إنه حتى "نتف" من هذا الاعتذار لم يُغدق بها على العالم العربي. ولذلك حقّ لإدوارد سعيد أن يركِّز، في كتابه "نهاية عملية السلام"، على أنه حتى اليوم لم يحصل ذلك الاعتراف الأوروبي الصريح ب "خطايا الاستعمار" في العالم العربي. فالاستقلال لم يتحقق، ثم إن الغرب، بدوره، ظل، وسواء عبر الترسيم الخرائطي أو مراقبة الخيرات، ولا سيما النفط، حريصا على الحضور الإمبريالي. فالمسألة لا تتعلق ب"ما بعد الإمبريالية"، بل ب"تجديد" لها في نهاية القرن العشرين كما يشرح إدوارد سعيد في كتابه/ حواراته "السلطة والسياسة والثقافة". وكما أن "العولمة" (أو بالأحرى "فخ العولمة" كما تمَّ توصيفها) الاقتصادية والثقافية، وبآلياتها التفكيكية، أو التخريبية، ل"الهويات" الفردية والجماعية في آن واحد، وفي استنادها إلى "المنتديات الدولية" (الأممالمتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، لم تكن سوى شكل من أشكال التدخل في شؤون الشعوب أو شكل من أشكال الإمبريالية. ومن ثم منشأ "الاستعمار المضاعف" أو "المزدوج" الذي سيكتب للجيل الحالي أن يعيش شطره الثاني، وهو الأفظع كما أسلفنا. ولولا الثورة لكان هذا الشطر سيدوم أكثر وبقوة "التكرار السياسي" الذي هو قرين "مسلسل الاستبداد" الذي لا حد له. وكما قالت مواطنة مصرية، ومن قلب لندن، وفي غمرة ثورة مصر، وعلى قناة "الجزيرة": "لقد ولدت في عهد حسني مبارك، وأنهيت دراستي في عهد حسني مبارك، وتزوجت في عهد حسني مبارك، وأنجبت في عهد حسني مبارك". وليس من شك في أنها تقصد إلى "نظام مبارك" الذي كانت ستموت في عهده أيضا. هذا ما قالته هذه المواطنة المصرية، لكن في العاصمة لندن؟ ولذلك: ما الذي كانت ستقوله بين أبناء شعبها الذي يعيش نصفه (40 مليوناً) تحت خط الفقر، وبأقل من دولارين في اليوم؟. وحال مصر هي حال العالم العربي ككل ومن ناحية الأربعين في المائة ذاتها، إذ تشير التقديرات إلى أن نحو 140 مليون عربي، أي 40% من مجموع السكان (300 مليون تقريبا)، يعيشون تحت خط الفقر. وعلى الرغم من أن الفقر، بمفرده، وكما تجمع على ذلك العديد من التحليلات، لم يكن حاسما في إشعال الثورات، فإن ذلك لا يحول دون أن نسأل السؤال التالي: كيف يمكن لنا أن نبرر الاستعمار الداخلي الذي طال العالم العربي؟ وما هي "المرتكزات" التي استند إليها هذا الاستعمار حتى ضمن حضوره المسترسل والمتجانس على مدار نصف قرن من الزمن وقبل أن يحصل ما حصل له من رجة منذ أواخر العام 2010؟ من جهتنا لا نفسّر سيادة الاستعمار الداخلي بنوع من التفسير التبسيطي الذي يرد الأمور إلى نوع من قابلية الإنسان العربي للاستعباد والتحقير والاصطفاف... أو إلى نوع من "الانتهازية" التي تجعل المواطن العربي لا يفكر، وعموديا، إلا في ذاته. وكل ذلك في المدار الذي يفضي بنا إلى القول بأنه في مناخ، من النوع الأخير، كان لجميع الانتفاضات والتمردات والحرائق أن تخمد أو تنطفئ قبل أن تشتعل وعلى ما في هذا القول من تناقض ظاهري. وهو ما حصل في سائر أقطار العالم العربي، وعلى تفاوت في "منهجية الإخماد" الذي بلغ في حال حماة العام 1982 مجزرة رهيبة ذهب ضحيتها ما بين 20 و 30 ألف مواطن سوري. المسألة، في تصورنا، تستلزم تحليلا أفقيا للاستعمار الداخلي الذي تشكل بناء على إجراءات تسلطية عملية مباشرة استأصلت مفهوم الدولة لفائدة "دولة تسلطية" أو "نظام استبدادي"، وفي كلتا الحالتين لم يترك هامش ولو صغير لإنتاج أي نوع من الوعي السياسي. وإذا كان الفيلسوف الفرنسي الأشهر والأبرز ميشال فوكو قد قال "إن السلطة توجد في أي مكان" فإن مفكرا عربيا بارزا سيقول (ومتحدِّثا عن العالم العربي) "إن القمع يوجد في أي مكان". ومن ثم منشأ "نظام تسلطي" في العالم العربي تظاهر ب"المدنية"، كما في حال مصر وتونس، في جين أنه ظل "بوليسيا". ومن ثم منشأ نظام أخر اختار "نهج العسكر" الذي أعدّ، في العالم العربي، وأصلا، لكي يقاتل في الداخل (كما قال العروي في كتابه "مفهوم الدولة") كما في حال سوريا. غير أن النظام ما كان له أن يرتقي بتسلطيته الفولاذية إلى ذروتها إلا في إطار من "تواطؤ سياسي" أسهمت فيه "الأحزاب" بعد أن أفرغت من "الأفكار التي تتحول إلى "قوة مادية" وأسهم فيه أيضا المثقفون الذين مالوا، وبالكامل، للنظام أو اختاروا الوضع المريح لكي لا يتعبوا "السلطان" أو أن يتعبوا ذواتهم. وهذا في الوقت الذي لم تُؤمِن فيه أنظمة، وجذريا، بالمثقف فما كان على هذا الأخير إلا يعانق "شرف المنفى" كما في حال "النظام"، أو بالأحرى "اللانظام"، الليبي. وحتى المغرب، الذي علَّق أحد المعلقين على مقالنا السابق، بأننا تحاشينا الحديث عنه، ومع أننا كتبنا من قبل في الموضوع نفسه أكثر من مقال، لا يبدو نشازا في هذا الدغل العربي، كل ما هناك أن المغرب فطن مبكرا لعدم نجاعة "المدرسة الأوفقيرية الدموية" وأتاح "هامشا ملحوظا" للنشاط السياسي، لكن دون أن يرقى إلى "الإصلاح السياسي الشامل". وهذا لكي لا تفوتنا الإشارة إلى الجار الجزائر الذي شكَّل فيه الجيش دولته، و للتوضيح "إذا كان لكل دولة جيشها فللجيش في الجزائر دولته" كما قيل. وفي سياق من هذا النوع، ومن حيث هو سياق مرتََّب، وخانق، ومحكم، "ترسَّخ" مفهوم القابلية للاستعمار (الداخلي). ومفهوم "القابلية للاستعمار"، وكما في نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي(Colonisabilité)، كان قد ارتبط بالاستعمار المباشر، وكان قد طرحه فرانز فانون، في كتابه "معذبو الأرض"، وضمن قضايا تقع في صميم نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي ككل مثل "قابلية الاستعمار"، أو "عقدة القابلية للاستعمار" كما ينعتها فانون، و"عبيد الأزمنة الحديثة" (أي المستعمَرين) "، و"فك الاستعمار" من حيث هو "صيرورة تاريخية" و"ظاهرة عنيفة" تستلزم "العنف المطلق"... إلخ. وكما أن مفكرا إسلاميا آخر وهو مالك بنبي كان بدوره قد طرح، وفي إطار من مرجعية مغايرة، وإن في حال الجزائر، في كتيبه "مشكلات الأفكار"، المفهوم ذاته. وقد عدَّ "قابلية الاستعمار" قضية عادة ما يتغافل المجتمع الإسلامي عن ذكرها. وعندما نقول إن الاستعمار الداخلي كان الأرعن والأفظع فهذا لا يعني أننا "نمجِّد الاستعمار المباشر" كما يمكن أن يتأوَّل ذلك "قراء النصف الفارغ من الكأس". فالاستعمار، كما قال عمار بلخوجة، في كتابه "البربرية الكولونيالية في إفريقيا" (بالفرنسية)، وتحت تأثير فرانز فانون وإميه سيزار، تولَّد من العنف والاغتصاب ولا يمكنه الاستمرار إلا في العنف والاغتصاب. ولم تكن للاستعمار بداية خشنة وعنيفة ونهاية لينة وحسنة؛ ف"العنف" (البربري) كامن في أصل الاستعمار. إنه "التاريخ القذر لإيديولوجيا المدرسة الإمبريالية" كما نعته إدوارد سعيد أو "الكتاب الأسود" ل"الاستعمار". ومن ثم كان "جواب" نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" المتمثل لا في "تفكيك الاستعمار" (Décolonisation) فقط، وإنما في "محاولة تنحيته" أو "استئصاله" من العالم. ولقد ظل الحاكم العربي يسود ويحكم، وفي إطار من الاستعمار الداخلي، فيما ظلت الشعوب العربية و"كأنها في غفلة من الزمن" تبعا للعبارة التي قيلت في تفسير الاستعمار البريطاني للهند. وبقيت الحال على حالها إلى اشتعلت الثورات العربية التي انطلقت شرارتها الأولى من "تونس زين العبدين" لتنتقل أولا إلى العديد من البلدان العربية وفيما بعد إلى بلدان غير عربية وحتى أوروبية. هذا إذا ما لم تنتقل إلى أمريكا ذاتها كما تؤشر على ذلك العديد من المؤشرات. وكان من المفهوم أن تتأخر الثورات العربية إلى هذا الحين في انتظار أن تكتمل الشروط حتى تأخذ هذه الثورات انطلاقتها المكتملة. وكما في "أبجديات حفريات المعرفة": لكي يقع تغيَّر لا بد من أن تكون هناك شروط تمهد له الطريق. وقد تمكَّنت الثورات من أن تؤشر على ولادتها المذهلة، لأنها رفعت شعارا واضحا ومباشرا. والأهم أنها رفعت الشعار في الشارع وبالشارع ومن أجل الشارع، ورفعته في غير اتفاق مع الأحزاب أو المثقفين، مما جعلها محصَّنة في محطتها الأولى، ومما جعل الأنظمة تندهش ل"طابعها السلمي" أو "الناعم" إذا جاز أن نستدرج وصف علي حرب للثورات العربية. أما الديكتاتور العربي، وهو الذي لم يملك في أي محطة من المحطات، ولو "الدرجة الصفر في الوعي السياسي"، حتى يرد على الطابع السياسي الحضاري، فلم يملك من غير "الديكتاتورية المتصلبة" أو "الخشنة". فالديكتاتورية هي الشيء الوحيد الذي يسهر الديكتاتور على تمكِّينها، أكثر، خوفا من ديكتاتور مفترض أو قادم. وعلى الرغم من لغة الحديد فقد أصرَّت "الجماهير" على "المواجهة السلمية" بصورها العارية وبرؤوسها السافرة. ففي هذا المناخ تشكلت "القابلية للثورة" التي نؤثرها على تسمية "القابلية للاشتعال" كما فضَّل البعض. وللمناسبة فتسمية "الثورة" أثارت خلافا اصطلاحيا، بل وجدنا البعض لا يشير إليها أساسا وكأن العرب لم يبلغوا حد "الوعي السياسي" الذي تتحدد دلالات الثورات من داخله. هذا بالإضافة إلى أن القادم في نظر هؤلاء عائم وغامض، مما لا يدعو إلى مزيد من الاطمئنان إلى فخ التسمية. وكان بديهيا أن تكون الأنظمة أوًّل من يعترض على التسمية ب"دليل" أن ما يحصل تمَّت إدارته والتخطيط له في "الخارج" أو لهدف "الارتهان للخارج"، مما أعاد من جديد خطاطة "نحن ونظرية المؤامرة". وقد دخل على خط تنشيط سمفونية التصدي للتسمية فلول من المثقفين والفانين والإعلاميين، كل من "منظوره" وفي المدار الذي يضمن "تنويعا سخيا" داخل التسمية. وللمناسبة ليس هناك ما يزعج الحاكم العربي أكثر من "نظرية المؤامرة" (Conspiarcy theory)، أو "رُهاب المؤامرة" [الخوف المرضي من المؤامرة]، وكأنه صعد للحكم عن طريق "الانتخابات" وليس عن "طريق المؤامرة" أو كأن ما ضمن له حكمه لا يمُّت بصلة للمؤامرة. والمؤكد أنه نادرا ما يتم الأخذ ب"نظرية المؤامرة" التي تصنع التاريخ، ذلك أن مستعملي النظرية، وكما يشير إلى ذلك دارسوها، هم أول من يرفضونها. إجمالا إن عمليات التسمية، والتصنيف، كما تعلِّمنا حفريات المعرفة، لا تخلو من رغبة في "السيطرة" على الموضوع. ومنذ فترة قال الفيلسوف سبينوزا: "أن نسمي الأشياء معناه أن نسيطر عليها". ومن ثم فإن الرفض أو القبول أو التراوح ما بين الرفض والقبول يعكس طبيعة الموقف ذاته من الثورة. وأتصور أن الكاتب والمعارض السياسي السوري ياسين الحاج صالح لخَّص الإشكال حين قال في حوار معه: "المسألة اصطلاحيّة على أية حال. والكلمات التي نفضّل استخدامها ليست خالصة من انحيازاتنا الفكرية والسياسية. يسمي ما يجري ثورات من يتحمّسون لها، وربما يسميها تمردات من يخشونها، ولا يملكون الجرأة الفكرية والأخلاقية للقول إنهم ضدها، ويسميها مؤامرات من يعادونها ويعملون على تجريمها وتحطيمها. المهم في كل حال هو أن نُعرِّف الكلمات التي نستخدم، وأن نستخدمها بصورة متَّسقة، فلا نقفز خلسة من معنى للكلمة إلى معنى آخر، مختلف". أتصور أن ما حصل، في البداية، هو "احتجاجات اجتماعية" تحولت إلى "انتفاضات شعبية" سرعان ما تحولت بدورها إلى "ثورات سياسية" قطعت، في بعض البلدان، مع الفترة السابقة. وهذا ما حصل في مصر وسوريا اللتين قطعتا المرحلة الأولى من الثورة، ورغم العراقيل التي لا تزال فلول النظام القديم تطرحها على طريق البناء والإصلاح. ولعل هذا ما هو على طريق التحقق في كل من سوريا وليبيا واليمن رغم "العناد" الناجم عن "تكوين النظام". و"من وجهة نظر تاريخية"، كما عبَّر عنها البعض، فإن جميع المعطيات تشير إلى نوع من "التحول" الذي لن تسلم منه بلدان أخرى بدورها. وصفوة القول، هنا، إن الثورات العربية كانت قرينة "أفول نماذج وولادة أخرى" كما عبّر عن ذلك علي حرب. وحتى البلدان التي لم تشهد ثورة، أو شهدت، في مقابل ذلك، "حراكا" كما هي حال بعض الملكيات مثل المغرب والأردن، تحققت فيها "إصلاحات دستورية وقانونية" حتى وإن كانت لا تزال موضع نقاش ورفض من قبل بعض الحركات الاحتجاجية. وكانت الشرارة الأولى من تونس وبعد أن أقدم المواطن محمد البوعزيزي، يوم الجمعة 17/12/2010، على إضرام النار في جسده، دفاعا عن حقه في لقمة العيش وفي الوقت ذاته دفاعا عن كرامته، مفارقا الحياة ودون أن يدري ما الذي خلفه وراءه من "حريق عربي" أدخل العرب ككل إلى القرن الحادي والعشرين. ذلك أنه بعد عشرة أيام من جنازته، وعلى وجه التحديد في 14 يناير 2011، فرَّ من البلاد زين العابدين بن علي الذي ظل في السلطة لمدة 23 عاما؛ وحصل ذلك تحت تأثير ضغط مذهل من قبل الشارع التونسي الذي نزل إليه المجتمع بجميع طبقاته الاجتماعية وبجميع أطيافه السياسية. وكان لهذا التنحي، الذي باشره العالم العربي والرأي العام العالمي، تأثير بالغ؛ إذ لأول مرة سيحدث "ثقب كبير" في جدار الأنظمة العربية المستبدة جنبا إلى جنب الأمل الذي سيلوح للشعوب العربية. في هذا السياق ستفتح شهية الشعوب العربية للتحرر من "الاستعمار الداخلي القاتم". وكانت البداية من مصر المركز العربي الثقيل الذي لا يمكن له أن يواصل ما حدث في تونس فقط، بل ويمكن له أن يخللخ الخريطة بأكملها في العالم العربي؛ وكان لميدان التحرير، ومن خلال "ثورة 25 يناير"، ما شاء. وفي اليوم الذي أرغم فيه "ديكتاتور مصر" على التنحي، الجمعة 11 فبراير، كان الشعب اليمني قد تجرَّد، وبالكامل من عباءة الخوف، وخرج في "جمعة الغضب" مطالبا الرئيس أمين صالح، الذي ظل يحكم لمدة 33 سنة، بالرحيل. وفي مناخ من هذا النوع لم يتخلَّف الشعب الليبي، وبعد أربعة عقود من "الديكتاتورية العمياء والمقيتة"، وفي أول يوم من انطلاق الثورة (17/02/2011)، عن رفع الشعار "الشعب يريد إسقاط النظام". وبعد شهر واحد فقط، وعلى وجه التحديد يوم الثلاثاء 15 مارس، انطلقت الاحتجاجات في سوريا التي تجاوز فيها الاستبداد مدى الظنون. ولم تكن هي الأخرى بمنأى عن "الشعار الفأس" الأخير. ثم إن البلدان التي سلمت من نيران الثورة ابتكرت ميادين تحريرها التي رفعت فيها شعارات ثورية. وحصل ذلك في الأردن والجزائر وعمان والمغرب والبحرين. "من الواضح أن النضال ضد الاستبداد التونسي كان له تأثير المتوالية" كما ناقش الدكتور الماليزي، وأستاذ الدراسات العالمية ورئيس الحركة الدولية للعدل (JUST)، شاندرا مظفر (Chandra Muzaffar) في مقالة مركَّبة ومركَّزة، وهي منشورة في شبكات الاتصال الدولي. و"من هنا يمكن القول إن الثورة العربية الشاملة التي بدأت في تونس وتبلورت في مصر، وقامت في ليبيا، وبسطت شعاراتها الثورية في اليمن والبحرين وعمان، قد قطعت مع الزمن العربي التقليدي بكل جموده، والتحمت مع الزمان العالمي" كما سيقول الكاتب المصري الأبرز السيد يسن في مقال له موسوم ب"الثورة العربية والزمن العربي". واللافت للنظر أن "تأثير المتوالية"، أو "عدوى الثورة العربية"، لم يتوقف في العالم العربي فقط، وإنما امتد إلى إسرائيل، بل وامتد إلى العالم الأوروبي الرأسمالي ممثلا ببريطانيا التي عمَّتها في أكثر من مدينة، وعلى مدار أيام من شهر غشت الحالي، أحداث وصفت ب"أحداث شغب". ومن قبل كرَّر شباب إسبانيا، ومن ناحية شكل الاحتجاج الحضاري، ما حصل في ميدان التحرير، فنصبوا الخيام وقرروا ألا يبرحوا المكان قبل تنفيذ مطالبهم. وبعد أسبوع من اعتصام شباب إسبانيا أخذنا نقرأ عن من يتساءل: "هل هي ثورة شباب إسبانيا أم ثورة شباب أوروبا؟". ثم إن فرنسا، البلد المؤهل أكثر ل"ربيع عربي آخر"، لم تسلم من الخوف من "متوالية التأثير"، ولذلك كتبت "لوموند": "حتى الآن، الضواحي هادئة بفرنسا"؛ وهو عنوان دال على الخوف من "عدوى ثورات العالم العربي". إجمالا إن ما حصل في البلدان السابقة وفي بلدان أوروبية أخرى مثل اليونان وإيطاليا والبرتغال... جعل الأوروبيين يحسُّون أن "الموديل الغربي" (Modèle occidental) أخذ يغرق، وأن مناخ من "حريق عالمي" (global burning) على الأبواب كما كتب السوسيولوجي الفرنسي (والمختص في شؤون الشباب) ميشال فايز (Michel Fize) في مقاله "ثورة عالمية للشباب" ("لوموند": 17/08/11). إلا أنه في حال العرب ليس هناك الملف الاجتماعي بمفرده، بل ثمة "حموضة اليومي" التي تحيطها جبال الاستبداد وتلال الاستحواذ. ولذلك من أولويات الثورة العربية الشاملة أن تؤسس لمعنى "الإنسان" ذاته في أدغال غاب فيها الإنسان ذاته.