تساقطات ثلجية مرتقبة بعدد من مناطق المغرب    رأس السنة الجديدة.. أبناك المغرب تفتح أبوابها استثنائيًا في عطلة نهاية الأسبوع    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    الدحمي خطاري – القلب النابض لفريق مستقبل المرسى    غياب الطبيب النفسي المختص بمستشفى الجديدة يصل إلى قبة البرلمان    بيت الشعر ينعى الشاعر محمد عنيبة الحمري    العام الثقافي قطر – المغرب 2024 : عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية    الفقيه أحمد الريسوني... الهندوسي: عوض التفكير المقاصدي، الرئيس السابق للإصلاح والتوحيد يخترع الخيال العلمي في الفقه!    التسوية الطوعية للوضعية الجبائية للأشخاص الذاتيين.. فتح شبابيك المديرية العامة للضرائب يومي السبت 28 والأحد 29 دجنبر 2024    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    الكونفدرالية الديمقراطية للشغل تصعد رفضها لمشروع قانون الإضراب    تعاونيات جمع وتسويق الحليب بدكالة تدق ناقوس الخطر.. أزيد من 80 ألف لتر من الحليب في اليوم معرضة للإتلاف    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    اكتشاف جثة امرأة بأحد ملاعب كأس العالم 2030 يثير الجدل    البطولة الوطنية.. 5 مدربين غادروا فرقهم بعد 15 دورة    مقتل 14 شرطيا في كمين بسوريا نصبته قوات موالية للنظام السابق    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    "التجديد الطلابي" تطالب برفع قيمة المنحة وتعميمها    "الاتحاد المغربي للشغل": الخفض من عدد الإضرابات يتطلب معالجة أسباب اندلاعها وليس سن قانون تكبيلي    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    صناعة الطيران: حوار مع مديرة صناعات الطيران والسكك الحديدية والسفن والطاقات المتجددة    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    "ال‬حسنية" تتجنب الانتقالات الشتوية    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الارتفاع يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    حلقة هذا الأسبوع من برنامج "ديرها غا زوينة.." تبث غدا الجمعة على الساعة العاشرة    حملات متواصلة لمحاربة الاتجار غير المشروع في طائر الحسون أو "المقنين"    تدابير للإقلاع عن التدخين .. فهم السلوك وبدائل النيكوتين    الحبس موقوف التنفيذ لمحتجين في سلا    وكالة بيت مال القدس واصلت عملها الميداني وأنجزت البرامج والمشاريع الملتزم بها رغم الصعوبات الأمنية    سنة 2024 .. مبادرات متجددة للنهوض بالشأن الثقافي وتكريس الإشعاع الدولي للمملكة    الممثل هيو جرانت يصاب بنوبات هلع أثناء تصوير الأفلام    الثورة السورية والحكم العطائية..    اعتقال طالب آخر بتازة على خلفية احتجاجات "النقل الحضري"    كيوسك الخميس | مشاهير العالم يتدفقون على مراكش للاحتفال بالسنة الميلادية الجديدة    الإعلام الروسي: المغرب شريك استراتيجي ومرشح قوي للانضمام لمجموعة بريكس    الضرورات ‬القصوى ‬تقتضي ‬تحيين ‬الاستراتيجية ‬الوطنية ‬لتدبير ‬المخاطر    "البام" يدعو إلى اجتماع الأغلبية لتباحث الإسراع في تنزيل خلاصات جلسة العمل حول مراجعة مدونة الأسرة    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    الصين: أعلى هيئة تشريعية بالبلاد تعقد دورتها السنوية في 5 مارس المقبل    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    التوجه نحو ابتكار "الروبوتات البشرية".. عندما تتجاوز الآلة حدود التكنولوجيا    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أشباح فانون: عودة لأعمال المنظر الثوري (1 من 2) الثورة هي ولادة إنسان جديد ومجتمع جديد. وما كتبه عن حرب التحرير الجزائرية مخصص لعراق اليوم
نشر في أسيف يوم 24 - 02 - 2007

وجدت أن خير ما أبدأ به كلماتي عن فرانز فانون هي كلماته نفسه في خاتمة كتابه معذبو الأرض . إذ يقول: ..إن العالم الثالث يقف الآن أمام اوروبا كتلة عظيمة تريد أن تحاول حل المشكلات التي لم تستطع اوروبا أن تأتي لها بحلول. ولكن يجب علينا أن لا نتحدث عن وفرة الإنتاج، وأن لا نتحدث عن الجهد العنيف، أن لا نتحدث عن السرعة الكبيرة. ليس معني هذا أن نعود علي الطبيعة وإنما معناه أن لا نشد البشر إلي اتجاهات تشوههم، أن لا نفرض علي الدماغ إيقاعا سرعان ما يفسده ويفقده سلامته. يجب علينا أن لا نتذرع بحجة اللحاق فنزعزع الإنسان وننتزعه من ذاته، من صميمه، ونحطمه، ونقتله.
لا. نحن لا نريد اللحاق بأحد، ولكننا نريد أن نمشي طوال الوقت ليلاً ونهاراً، في صحبة الإنسان، في صحبة جميع البشر. وعلينا أن نجعل القافلة متراصة غير متباعدة، وإلا لم يستطع كل صف من الصفوف أن يري الصف الذي تقدمه، ولم يستطع البشر أن يعرف بعضهم بعضاً، وأصبحوا لا يلتقون إلا لماماً ولا يتحدث بعضهم إلي بعض كثيراً. إن علي العالم الثالث أن يستأنف تاريخاً للإنسان يحسب حساب النظرات التي جاءت بها اوروبا وكانت في بعض الأحيان رائعة. ولكنه يحسب حساب الجرائم التي قامت بها أوروبا في الوقت نفسه، وأبشع هذه الجرائم أنها شتتت وظائف الإنسان تشتيتاً مرضياً، وفتتت وحدته، كما أوجدت في المجتمع تحطماً وتكسراً وتوترات دامية تغذيها طبقات، وكما أوجدت علي مستوي الإنسانية أحقاداً عرقية واستعباداً واستغلالاً بل ومجزرة نازفة تمثلت في نبذ مليار ونصف مليار من البشر. فيا أيها الرفاق، يجب علينا أن لا ندفع جزية لاوروبا بخلق دول ونظم ومجتمعات تستوحي اوروبا. إن الإنسانية تنتظر منا شيئاً غير هذا التقليد الكاريكاتوري، الفاجر علي وجه الإجمال. إذا أردنا أن نحول أفريقيا إلي اوروبا جديدة، وأن نحول أمريكا إلي اوروبا جديدة كان علينا أن نعهد بمصائر بلادنا إلي اوروبيين، لأنهم سيحسنون التصرف أكثر من أعظمنا موهبة. ... . في عام 2004 احتفلت الجزائر بذكري مرور خمسين سنة علي اندلاع الثورة الجزائرية عام 1954. نصف قرن بين اندلاع ثورة شكلت مع الثورة الفييتنامية عنواناً لأحلام عريضة بالتحرر والتقدم لكل شعوب العالم الثالث في آسيا، وافريقيا، وأمريكا اللاتينية، وفي القلب من هذا أمتنا العربية الموزعة بين القارتين المضطهدتين آسيا، وأفريقيا. لقد حلمت الشعوب يومها أن هاتين الثورتين المظفرتين، الجزائرية والفييتنامية ستشكلان عنواناً لنهوض العالم الثالث وتحرره من السيطرة الغربية وتصفية صفحة بغيضة من التاريخ البشري، هي صفحة الاستعمار. لكن وكأن الزمان قد دار دورة كاملة خلال نصف القرن هذا، فبدل التقدم والتحرر وبناء نظام علاقات دولية متكافئة كما رغبت دول باندونغ، إذ بنا نعود مع بداية الألفية الثالثة إلي عصر الاستعمار المباشر ببروفته الأفغانية، ثم باحتلال العراق من قبل أمريكا عام 2003. وهذه العودة للاستعمار العسكري المباشر وللعلاقات الكولونيالية لم تأت من سماء صافية، بل من سماء ملبدة بالغيوم التي تجمعت خلال نصف قرن، فقد فشل فكر اللحاق بالغرب الذي ساد في العالم، والذي حذر منه فانون في المقدمة التي ذكرتها. لقد فشل هذا الفكر سواء بطبعته السوفييتية أم بنموذج باندونغ، فوقعت دول العالم الثالث فريسة لاستعمار اقتصادي إذ اصطادها المرابون بشبكة الديون. فانهارت أحلام الجزائر، التي بدت في يوم انتصار ثورتها وكأنها قاطرة للثورة الافريقية المنشودة، وغرقت بالحرب الأهلية. أما هانوي حلم الثوريين في العالم والنموذج الذي حاولنا استنساخه في كل مكان، فقد انتهي بها المطاف أن تفرش السجاد الأحمر لجورج بوش الابن وتستجديه أن يقبل انضمامها إلي منظمة التجارة العالمية. وعلي الصعيد الثقافي والفكري عاد الغرب إلي تمجيد تاريخه الاستعماري بعد أن انزوي خجلاً لبعض الوقت، فصرح غولدن براون، وزير المالية في بريطانيا والخليفة المحتمل لتوني بلير، قائلاً: ولّي الزمن الذي كانت بريطانيا فيه مضطرّة للاعتذار عن تاريخها الكولونيالي . كما طلب من البريطانيين أن يعتزوا بتاريخهم الامبرطوري. ثم تلا ذلك قانون تمجيد الاستعمار في فرنسا. وكأننا عدنا إلي نقطة الصفر إلي العالم الكولونيالي الذي وصفه فرانز فانون. فكأن ما كتبه عن حرب التحرير الجزائرية مخصص لوصف حرب التحرير التي تدور رحاها اليوم علي أرض العراق . خصصت الجزائر جانباً من احتفاليتها باليوبيل الذهبي للثورة لإعادة التذكير بمفكر الثورة ومنظرها وعنوانها المفكر المارتينيكي الجزائري فرانز فانون فأعادت طباعة أعماله كاملة، وهذه الأعمال كانت قد طبعت من قبل بطبعات عربية كثيرة أغلبها في الستينيات، حيث كان المد الثوري يملأ الفضاء العربي قبل أن يتراجع الاهتمام بفانون منذ السبعينيات مع انكسار القوي الثورية التدريجي. لذلك كان طبيعياً أن لا أتعرف أنا علي فانون إلا عندما رأيت الدبابات الأمريكية في بغداد في نيسان (ابريل) 2003، فإذ بهاجس غامض يدفعني لأنفض الغبار عن مكتبة أبي البعثي القديم فاستل منها كتابين لفانون مطبوعين علي ورق أصفر ودون عناية بالغلاف علي عادة الكتب الثورية التي طبعت في الستينيات والتي كانت تهتم بالمضمون دون الشكل، وعلي عكس ما حدث لاحقاً حين تراجع المضمون لصالح الشكل في كل مجالات الحياة. أول الكتابين كتابه الأشهر المعذبون في الارض ، والثاني، وهو أقل شهرة، وقد غيّر المترجم عنوانه فنشره بالعربية تحت اسم سوسيولوجيا الثورة ، في حين أن اسمه الأصلي هو خمس سنوات علي الثورة الجزائرية . وبعد عام ونيف اكتشفت حكاية احتفالية الجزائر بفانون عبر اصدار دار الفارابي في بيروت بالاشتراك مع منشورات آنيب ANEP في الجزائر أعمال هذا المفكر كاملة بغلاف أنيق وعلي ورق أبيض وقد تضمنت الكتابين سالفي الذكر وكتاب بشرة سوداء أقنعة بيضاء ، وكتاب من أجل الثورة الأفريقية . وهكذا أعيدت طباعة أعمال فرانز فانون واكتسبت أفكاره حياة جديدة بعد أن ظن الكثيرون أنها قد انتهت بانتهاء العالم الذي تتحدث عنه، عالم الاستعمار العسكري المباشر. لكن الغرب أعاد إحياء العالم الكولونيالي فأعاد المقاومون إحياء فانون لتعود كتاباته معاصرة وكأنها تكتب اليوم. فحين يتحدث عن حرب التحرير الجزائرية تظن أنه يتحدث عن حرب التحرير العراقية، كما قلنا. المعذبون في الارضيقف علي رأس أعمال فانون كتابه الشهير معذبو الأرض الذي كتبه وهو علي فراش الموت يصارع مرض ابيضاض الدم وصدر عام 1961 والثورة الجزائرية، التي ارتبط اسمه بها إلي الأبد، علي وشك الانتصار، وقد ترجم هذا الكتاب إلي العربية المناضل العربي الراحل الدكتور جمال الأتاسي وسامي الدروبي وصدر عن دار الطليعة في بيروت مع مقدمة هامة للمفكر الفرنسي سارتر لا أدري لماذا تم حذفها في الطبعة الجديدة من الكتاب الصادرة عن دار الفارابي. ولد فرانز فانون المفكر المارتينيكي الجزائري عام 1925 في المارتينيك المستعمرة الفرنسية، التي صارت مقاطعة فرنسية فيما بعد، لكن دون أن يعني هذا أن سكانها السود قد صاروا فرنسيين، فأول أمر صدم فرانز فانون أثناء خدمته في الجيش الفرنسي بعد أن تطوع في الجيش الديغولي هو العنصرية مع أنهم كانوا افتراضياً يخوضون حرباً ضد العنصرية النازية فقد عزلت كتائب الفرنسيين البيض عن كتائب الهنود الغربيين السود، المفترض أنهم مواطنون فرنسيون. عزل الجنود الافارقة السود عن القوات الفرنسية، كما عزل الافارقة العرب، الذين كان يسخر منهم الفرنسيون ويعاملونهم كما لو كانوا مواطني درجة ثانية علي تراب أرضهم نفسه. عاش فانون هذه التجربة في نفس اللحظة التي بدأ فيها الجيش الفرنسي مواجهة الفاشية الألمانية، بأفكارها عن النقاء العرقي. لم تضع منه المفارقة الساخرة لهذه الحالة (تشخيص فرانز فانون). ومنذ تلك اللحظة تأكد فرانز فانون أن العالم الكولونيالي أبعد ما يكون عن قيم المساواة فهو عالم مقسوم إلي بيض وسود، إلي مستغلين (بكسر الغين) ومستغلين (بفتح الغين)، إلي مستعمرين (بكسر الميم) ومستعمرين (بفتحها). وبحكم تخصصه اللاحق بالطب النفسي أدرك أن العالم الكولونيالي معقد ويعتمد دوامه علي تسليم الطرفين به، فلو لم يوافق المستعمر (بفتح الميم) علي استمرار هذا العالم لانهار علي الفور. لذلك ألف فرانز فانون كتاب بشرة سوداء أقنعة بيضاء خصصه لدراسة الاستلاب الذي يتعرض له المستعمر (بفتح الميم) حين يتبني قيم المستعمر (بالكسر) . يقول فانون: (تنشأ داخل الشعوب المستعمرة عقد دونية تجاه المستعمر فيحاول أفرادها اعتناق قيم المتروبول الثقافية) وبالنسبة للأسود، كما يحلل فانون، سيكون أبيض بقدر ما يرفض سواده (دغله). يتابع فانون: (حين وصل مارتينيكي إلي الهافر، دخل إلي مقهي. وصاح بثقة تامة: Garrracon! ve de bie- وهكذا نشهد تسمما حقيقاً. فهو مهووس بعدم التماهي مع صورة الزنجي الذي يأكل حروف الراء. فتزود منها بالزاد الوفير. لكنه لم يعرف كيف سيوزع مجهوده ويتابع:...الذي يدخل فرنسا يتغير، لأن المتروبول يمثل بنظره المستقر والملاذ، إنه يتغير ليس فقط لأن من هذه الأرض جاءه مونتسيكو، روسو، وفولتير، بل لأن من هناك جاءه الأطباء ورؤساء الخدمة، وأيضا صغار المتسلطين الذين لا يحصون........فذلك الذي يسافر لمدة أسبوع في اتجاه المتروبول يخلق حوله دائرة سحرية حيث تمثل الكلمات، مارسيليا، لا سوربون، بيغال، مفاتيح العقد.... وعندما يعود إلي وطنه: ...لنمض للقاء واحد ممن عادوا . العائد (يؤكد نفسه منذ اتصاله الأول، فهو لا يرد إلا بالفرنسية وغالباً لا يعود يفهم لغة الكريول لغة شعبية في المارتينيك . حول هذا الموضوع، يقدم لنا الفولكلور أمثلة. بعد عدة أشهر في فرنسا عاد فلاح إلي أهله. وعندما رأي آلة حراثية، سأل أباه، وهو مزارع عتيق لا يفوته شيء: كيف تسمي هذه الأداة؟ ، وكان رد أبيه الوحيد أن رماها، وعندها زال فقدان الذاكرة.إنه علاج فريد من نوعه). ويوجه فانون أنظارنا بشكل خاص إلي هؤلاء الذين يقفون في المنتصف. يقول:وفي ألوية القناصة السنغاليين كان الضباط المحليون مترجمين، في المقام الأول.فهم يقومون بنقل أوامر السيد إلي أبناء جلدتهم، ويتمتعون هم أيضاً ببعض التكريم . في عام 1953 عين في مشفي الأمراض العصبية في مدينة بليدا الجزائرية وهناك بدأت رحلته مع الثورة الجزائرية التي شاهد اندلاعها عام 1954، وفي عام 1956 وجه رسالة إلي المفوض العام الفرنسي روبير لا كوست يعلن فيها استقالته من عمله ويدين السياسة التي حولت عدم المساواة والقتل، إلي مباديء قانونية، موجهة ضد المواطنين الأصليين في الجزائر. هذه السياسة التي تطمس شخصيتهم وتذلهم في قلب وطنهم. بعد هذه الرسالة طُرد فانون من الجزائر. لكن ارتباطه بالثورة الجزائرية صار أمراً لا رجعة عنه فبعد أن فشل بتحريض الرأي العام الفرنسي ضد استعمار الجزائر انتقل إلي تونس، وأنشأ هناك المنظمة الخارجية لجبهة التحرير الوطني. ثم أصبح عضواً في هيئة تحرير صحيفة المجاهد الناطقة باسم الجبهة. وفي عام 1959 عينته جبهة التحرير سفيراً متجولاً لها في افريقيا السوداء وهناك شاهد الدول المستقلة حديثاً وعاين قادتها، فحذر من المصير السيء الذي تمشي إليه هذه الدول المستقلة إذا لم تتدارك الأمر. ففي فصل من كتاب معذبو الأرض تحت عنوان مغامرات الوعي القومي البائسة نجده يحذر من البرجوازية الوطنية التي تستلم السلطة من الاستعمار، لأنه لا قوة اقتصادية لها ولا خبرة لها بإدارة شؤون البلاد فهي ليست برجوازية منتجة. يقول فانون: إن البرجوازية الوطنية في البلدان المتخلفة ليست متجهة نحو الإنتاج، والابتكار والبناء، والعمل، وإنما هي تنفق نشاطها كله في أعمال من نوع الوساطة. إن نفسية البرجوازية الوطنية هي نفسية رجال أعمال، لا رواد صناعة. ويجب أن نعترف أن جشع المستوطنين ونظام الحجر الذي أوجده الاستعمار لم يدعا للبرجوازية حرية الاختيار كثيراً. إنه ليستحيل علي برجوازية أن تراكم رأسمالاً في ظل النظام الاستعماري. والرسالة التاريخية التي يبدو أن البرجوازية الوطنية الحقيقية في البلد المتخلف قد خلقت للنهوض بها هي أن تنكر نفسها كبرجوازية، هي أن تنكر نفسها كأداة لرأس المال، وأن تضع نفسها وضعاً كاملاً في خدمة رأس المال الثوري الذي هو الشعب. إن علي البرجوازية الوطنية الحقيقية في البلد المتخلف أن تفرض علي نفسها خيانة المهمة التي كانت ميسرة لها، أن تدخل مدرسة الشعب، أي أن تضع تحت تصرف الشعب الرأسمال الثقافي والتقني الذي استطاعت أن تنتزعه حين مرورها بجامعات الاستعمار . لا تستمع لنصائح فانونلكن البرجوازية الوطنية لا تستمع لنصائح فانون التي طبقها علي نفسه عندما التحق هو ورفاقه المثقفون بثورة الشعب حين يقول: وإذا كنا نريد لأنفسنا أن نكون جزائريين فقد بدا لنا جميعاً أن واجبنا هو إما الالتحاق بالمقاومة وإما إعداد أنفسنا لنكون الكوادر المقبلة للدولة . تندفع البرجوازية في طريق مناقض لمصالح الأمة فتندمج برأس المال العالمي وتعجز عن
التصنيع لذلك تمجد الحرف اليدوية، فتظل البلاد مصدرة للمواد الأولية وملتحقة بالسوق العالمية كتابع. وعندما تمارس هذه الطبقة عملية التأميم لا تفعل ذلك من أجل وضع مجموع الاقتصاد في خدمة الأمة لتحقيق حاجات الأمة إنما لنقل الامتيازات الموروثة من عهد الاستعمار إليها كطبقة فيصير الوكلاء وممثلو الشركات الأجنبية من أبناء البلد. يقول فانون: إن البرجوازية الوطنية تكتشف لنفسها هذه المهمة التاريخية وهي أن تكون وسيطاً. وهكذا لا تكون رسالتها تغيير أحوال الأمة، بل جعل نفسها وسيطاً بين البلاد وبين رأسمالية مضطرة للتخفي، رأسمالية تضع علي وجهها اليوم قناع الاستعمار الجديد فتتجه هذه البرجوازية الوليدة إلي التشبه بالبرجوازية الأوروبية الهرمة من ناحية البذخ والاستمتاع بالملذات، دون أن تمر بأطوار المغامرة والاستكشاف والبناء التي مرت بها الأوروبية. وهكذا تشبه البرجوازية الوطنية في أول عهدها البرجوازية الغربية في آخر عهدها . وأمام عجز هذه البرجوازية عن تلبية مطالب الجماهير، التي لم تشعر أن وضعها قد تحسن مع زوال الاستعمار، تلجأ إلي حيل مختلفة منها تأجيج الشعور القومي ضد قوميات مجاورة بأية حجة كانت. أو نري نفخاً في الدعوات الإقليمية والانفصالية بسبب تفاوت التطور بين الأقاليم لأن اقتصاد الدول المستقلة حديثاً ليس متكاملاً علي المستوي الوطني بل هو مرتبط باقتصاد المستعمر السابق. فالمناطق الغنية بالمواد الأولية تجد أن من مصلحتها الاستئثار بثرواتها وبيعها للمستعمر السابق مباشرة. وهذا يُظهر عجز البرجوازية الوطنية عن بناء الأمة. يقول فانون: وهذا الصراع القومي الذي يقوم بين القبائل، وهذا الحرص العنيف علي احتلال المراكز التي أصبحت شاغرة برحيل الأجنبي سيولدان تنافسات دينية. ففي الأرياف والبراري نجد الطوائف الدينية الصغيرة، وجماعات الطرق الصوفية، تستعيد نشاطها وحيويتها، وتستأنف لجوءها إلي تكفير غيرها، وفي المدن الكبري، علي مستوي الوظائف الإدارية، نجد صراعاً يقوم بين الديانتين المنزلتين الكبيرتين: الإسلام والكاثوليكية . وهكذا يصبح إفلاس البرجوازية الوطنية شاملاً علي كل المستويات الاقتصادية، والأخلاقية، والسياسية، والدستورية، فالنظام البرلماني الذي أشادته فاسد فساداً عميقاً. وهنا تختار هذه البرجوازية الحل الأسهل وهو اللجوء إلي نظام الحزب الواحد. يقول فانون: إنها لا تملك راحة البال والطمأنينة التي يمكن أن تؤمنه لها القوة الاقتصادية والهيمنة علي نظام الدولة. إنها لا تخلق دولة تطمئن المواطن بل تقيم دولة تبث القلق في نفس المواطن. إن الدولة التي تؤهلها متانتها ويؤهلها تخفيها في الوقت نفسه، لأن تهب للناس الثقة، وأن تفل سلاحهم وأن تنومهم، تصبح دولة تفرض نفسها فرضاً صارخاً، وتعرض قواها، وتضرب وتقسو، وتفهم المواطن بذلك أنه في خطر دائم. إن نظام الحزب الواحد هو الشكل الحديث للدكتاتورية البرجوازية التي لا تتقنع ولا تتزين ولا يوزعها وازع ولا يردعها حياء . ومن هذه النقطة يصبح الطريق مفتوحاً لبروز ظاهرة الزعيم الأوحد لضمان استقرار العهد وضمان استمرار سيطرتها كطبقة. يقول فانون: فالدكتاتورية والبرجوازية في البلاد المتخلفة إنما تستمد متانتها من وجود زعيم. إن البرجوازية الدكتاتورية في البلاد المتطورة هي، كما تعلمون، نتاج القوة الاقتصادية التي تتمتع بها البرجوازية. أما في البلاد المتخلفة فإن الزعيم هو القوة المعنوية التي تريد البرجوازية، الهزيلة الفقيرة، أن تغتني في ظلها وتحت حمايتها. والشعب الذي ظل سنين طويلة يري الزعيم ويسمع خطبه، ويتابع من بعيد، وهو فيما يشبه الحلم، ما يقوم بين الزعيم وبين السلطات الاستعمارية من مشاجرات، يمحض هذا الزعيم ثقة من تلقاء ذاته. لقد كان الزعيم قبل الاستقلال يجسد آمال الشعب بوجه عام : الاستقلال، الحريات السياسية، العزة القومية، ولكنه بعد الاستقلال تراه يكشف عن وظيفته الصميمية ألا وهي أن يكون الرئيس العام لشركة المنتفعين المسرعين إلي التمتع، أعني البرجوازية الوطنية . وتصبح وظيفة الزعيم لجم وعي الشعب وتضليل الجماهير عبر تذكير الشعب بالمعارك التي خاضها باسمهم والانتصارات التي حققها. لقد صارت وظيفته تخدير الشعب عبر تذكيره بالماضي. ويتحول الحزب إلي نقابة تضامن لأصحاب المصالح ولا عمل له سوي توصيل الأوامر من القمة إلي القاعدة فيصبح حاجزاً بين الجماهير وبين القيادة بعد أن ينقطع طريق التوصيل من القاعدة إلي القمة. يقول فانون: إن الحزب الذي جذب إليه أثناء معركة الكفاح مجموع الأمة يتحلل الآن. والمثقفون الذين انضموا إلي الحزب عشية الاستقلال يؤكدون بسلوكهم أن انضمامهم ذاك لم يكن له من هدف إلا الاشتراك في المائدة التي جاء بها الاستقلال. لقد أصبح الاستقلال وسيلة نجاح فردي . وقد شاهدنا بأم أعيننا كيف حدث هذا في أماكن كثيرة من العالم الثالث. ويتابع فانون: إن سلوك البرجوازية الوطنية في بعض البلدان المتخلفة يذكر بسلوك أفراد عصابة من اللصوص الذين ما ان يفرغوا من القيام بعملية من العمليات حتي يخفوا حصصهم عن شركائهم، ويستعدوا للانسحاب بحكمة وتعقل . ويخلص فانون إلي أن البرجوازية في البلاد المتخلفة لا يمكن أن تحقق تقدماً ولا تصنيعاً لذلك يجب القفز فوقها إلا إذا كانت تمتلك قوة اقتصادية وتكتيكاً يكفيان لبناء مجتمع برجوازي، وهذا أمر غير موجود في أغلب الحالات لذلك يجب تجاوزها فهي لا يمكن أن تنتج أفكاراً بل تتذكر ما درسته في الكتب المدرسية الغربية. يقول: فإذ هي تستحيل شيئاً فشيئاً لا إلي نسخة عن اوروبا، بل إلي كاريكاتور لاوروبا ويؤكد فانون مراراً وتكراراً أن هذه البرجوازية تافهة لا تفيد بشيء. فيقول: إن هذه البرجوازية التافهة في أرباحها وفي أعمالها وفي فكرها تحاول أن تحجب هذه التفاهة بأقنعة شتي: بأبنية فخمة علي المستوي الفردي، بسيارات أمريكية لماعة، بإجازات تقضيها علي شواطئ الريفيرا، بعطل أسبوعية في الكباريهات المتوهجة بأضواء النيون. ذلك كل شأنها . فانون والعنف لا يبدأ العالم الكولونيالي بالانهيار حسب فانون إلا عندما يتحرر المستعمر (بفتح الميم) نفسياً وثقافياً من قيم المستعمر (بكسر الميم) وهنا يلاحظ فانون أن العنف يلعب دوراً بالغ الأهمية في تحرر المستعمر (بفتح الميم)، لأن العالم الكولونيالي بني أساساً علي العنف وليس ثمرة تفاهم ودي. يقول فانون: محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائماً لأن ذلك يبدل الكون تبديلاً تاماً. لذلك لا يمكن أن يكون ثمرة تفاهم ودي .ويقول: تغيير المستعمر (بفتح الميم) للعالم الاستعماري ليس معركة عقلية بين وجهتي نظر، ليس خطاباً في المساواة بين البشر، وإنما هو تأكيد عنيف للأصالة تفرض مطلقة . المستعمر (بالكسر) هو سبب العنف، وهو خالقه، وكل عنف يصدر عن أهل البلاد ومن حركتهم الثورية مهما بلغت شدته هو رد فعل علي العنف الأصلي. يقول فانون: في المستعمرات وسيلة التواصل بين المستعمر والسكان الأصليين هو الشرطي والدركي وبالتالي هي لغة عنف صرف.. . ويلاحظ فانون إن الاستعمار ليس آلة مفكرة، ليس جسماً مزوداً بعقل، إنما هو عنف هائج لا يمكن أن يخضع إلا لعنف أقوي..... .وقد رأينا بأم أعيننا كيف يتم بناء العالم الكولونيالي في العراق عبر الغزو، وشاهدنا كيف تعمل أمريكا علي إدامته بواسطة المارينز والمرتزقة، أي بالقوة العارية، بعد أن تحولت أمريكا إلي مجرد آلة لإنتاج العنف، فماذا ينفع مع هذا العنف سوي عنف مواز له بالقوة ومعاكس له بالاتجاه، أي عنف المستضعفين الساعين إلي حريتهم. ويلاحظ فانون أنه عندما يبلغ المستعمر (بالفتح) نقطة اللاعودة يكون قد اقترب من الانتصار، يقول فانون: (إن في الكفاح المسلح شيئا يصح أن نسميه النقطة التي لا عودة بعدها . وهذا تحققه أعمال القمع الواسعة. إن الإنسان يتحرر في العنف وبالعنف. ففي الجزائر جميع الرجال، تقريباً، الذين دعوا الشعب إلي الكفاح الوطني محكومون بالإعدام. وهنا نلاحظ أن الثقة تتناسب مع مقدار ما في كل حالة من يأس). ولا يكتفي فانون بالعرض النظري للعنف إنما يعرض حالات سريرية تشير إلي أن العنف المكبوت في نفس الإنسان المستعمر (بالفتح) نتيجة العنف الممارس عليه منذ قرون يطيح بشخصيته أو يخرب مجتمعه إن لم يستطع أن يخرجه عبر الكفاح المسلح ضد المستعمر، لذلك يضع فصلاً كاملاً في كتاب معذبو الأرض بعنوان من الاندفاع إلي الإجرام لدي أهل شمال أفريقيا إلي حرب التحرير الوطني ، ويستنتج أن الكفاح المسلح نظم العنف الذي كان ينفلت عشوائياً. فانون والمثقف أما المثقفون من أبناء المستعمرات فقد صب فانون جام غضبه عليهم منذ البداية وحتي النهاية، فالمستعمر (بكسر الميم) قد خرب عقولهم عبر حشوهم بالثقافة الغربية والروح الفردية. يقول فانون : وتأتي الفردية في طليعة هذه القيم. لقد أخذ المثقف المستعمر (بالفتح) عن أساتذته أن علي الفرد أن يؤكد ذاته. لقد غرزت البرجوازية الاستعمارية في ذهن المستعمر (بالفتح) فكرة مجتمع الأفراد حيث ينزوي كل فرد في ذاتيته وحيث الغني هو غني الفكر . ولا منجي للمثقف المستعمر من هذا العالم الغربي الذي استلبه إلا بالتحاقه بشعبه. يتابع فانون : إن كلمات الأخ والأخت والرفيق كلمات نبذتها البرجوازية، فالأخ عندنا هو محفظة النقود، والرفيق عندنا هو الصفقة الرابحة. وهكذا يشهد المثقف المستعمر (بالفتح ) فناء جميع أصنافه احتراقاً بالنار : الأنانية، والانتقاد المتكبر، والغباء الغر الذي يحمل صاحبه علي أن يريد أن يكون له القول الفصل. وسيكتشف هذا المثقف المستعمر (بالفتح) الذي خربته الثقافة الغربية، سيكتشف أيضاً أن للمجالس التي تشكل في القري قوة كبيرة، وأن للجان التي تتألف من أفراد الشعب متانة هائلة، وأن للاجتماعات التي تمتد للحي او للخلية خصوبة ما بعدها خصوبة .........إن نجاة الفرد بنفسه وهو شكل كافر من أشكال السلامة، هي في الميدان أمر مرفوض . و يحدث أن لا يتوفر الوقت الكافي للمثقف كي يتطهر بنار الشعب لأن الاستعمار زال بسرعة في مناطق لم يهزها الكفاح المسلح هزاً كافياً، وهنا تحدث الكارثة. يقول فانون في وصف ما يفعله المثقفون في تلك الأوضاع : لقد كانوا للمستعمرين أبناءه المدللين، وهم للسلطة أبناؤها المدللون أيضاً، ينهبون الموارد الوطنية نهباً، ويندفعون إلي الإثراء بالصفقات المشبوهة والسرقات (القانونية) اندفاعا لا يعرف الرحمة، عن طريق الاستيراد والتصدير، والشركات المغفلة... . كما أنهم فاقدو الثقة بنتيجة العنف الذي تمارسه الجماهير. يقول فانون: قبل المفاوضات تكتفي أكثر الأحزاب، في أحسن الأحوال بأن تلتمس المعاذير (لهذه الوحشية) انها لا تطالب بالكفاح الشعبي. وليس نادراً أن نراها تنتقد، في حلقات مغلقة، تلك الأعمال التي تصفها صحافة البلد المستعمر ويصفها رأيه العام بأنها منكرة كريهة. وهذه السياسة التجميدية تعلل بالحرص علي رواية الأمور رواية موضوعية. وهذا الموقف ليس موضوعياً. إنما هؤلاء الناس ليسوا علي ثقة بأن هذا العنف الجامح الذي تعمد إليه الجماهير هو السبيل الأجدي للدفاع عن مصالحهم الخاصة. ثم إنهم غير مقتنعين بجدوي الأساليب العنيفة. وعندهم أن كل محاولة لتحطيم الاضطهاد الاستعماري بالقوة إنما هو سلوك يأس، سلوك انتحار. ذلك أن دبابات المعمرين والطائرات المقاتلة تحتل في أدمغتهم مكاناً كبيراً، فمتي قلت لهم يجب أن نعمل رأوا القنابل تتساقط فوق رؤوسهم ورأوا الدبابات تزحف علي طول الطريق ورأوا الرشاشات والشرطة فظلوا قاعدين لا يتحركون. إن عجزهم عن الانتصار بالعنف أمر لا حاجة للرهان عليه. إنهم يبرهنون علي هذا العجز في حياتهم اليومية وفي مناوراتهم............هؤلاء يتصورون أن للعنف شروطه التحضيرية والواقعية وأن له أدوات يجب إنتاجها. وزبدة القول هم يعتقدون أن انتصار العنف يقوم علي إنتاج الأسلحة وهذا يستند علي القوة الاقتصادية، علي الدولة الاقتصادية وعلي الوسائل المادية التي توضع تحت تصرف العنف، الواقع إن الإصلاحيين لا يقولون شيئاً آخر: بأي شيء تريدون أن تحاربوا المستعمرين؟ بسكاكينكم؟ ببنادق الصيد التي عندكم ؟ اما الشعب فله رأي آخر في العنف: إن حيازة بندقية أو عضوية جبهة التحرير الوطني، هي الفرصة الوحيدة المتبقية أمام الشخص الجزائري، لكي يعطي معني لموته. ذلك أن الحياة في ظل السيطرة قد غدت منذ زمن طويل
خالية من المعني . نتغير ونحن نغيّر العالم هذه الفكرة الفلسفية البسيطة كرس لها فانون كتاباً كاملاً هو كتاب خمس سنوات علي الثورة الجزائرية وقد ترجمه إلي العربية ذوقان قرقوط، وصدر عن دار الطليعة عام 1970 تحت اسم غير موفق علي الإطلاق هو سوسيولوجيا الثورة . لكن الطبعة الجديدة الصادرة عن دار الفارابي وهي لنفس المترجم السابق أعادت للكتاب اسمه الأصلي. اعتمد هذا الكتاب علي منهجية وصفية للمجتمع الجزائري ليتبصر المرء ماذا حل بالمجتمع الجزائري خلال خمس سنوات من الثورة بين عامي 1954 و1959، وما هي التغيرات التي طرأت علي بنيته بفعل الثورة. لقد رصد الكاتب أغلب جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية في هذا المجتمع قبل وبعد اندلاع الثورة وبيّن حجم التغيرات داخل الأسرة والقرية، كما درس تبدل الموقف من الحجاب، ومن المرأة، ومن التكنولوجيا الحديثة، ومن اللغة الفرنسية...الخ. قسم المؤلف الكتاب إلي قسمين غير متساويين حجماً، القسم الأول وهو الأكبر خصصه لعالم المستعمر (بفتح الميم)، والثاني الأصغر خصصه لعالم المستعمر (بكسرها). إن عدم التساوي بالحجم هو منطقي تماماً فالفعل الثوري غيّر جذرياً عالم المستعمرين (بفتح الميم) في حين أنه فقط نزع الطمأنينة من عالم المستعمرين (بالكسر)، فكتب أربعة فصول تعالج التبدلات التي طرأت علي المجتمع الجزائري بفعل الثورة التي أعادت إنتاجه من جديد وضخت به حيوية ودماء جديدة وأما الفصل الخامس فخص به الأقلية الأوروبية في الجزائر. يعالج الكتاب فكرة شهيرة تقول: إن البشر ليسوا كتل حجارة صلبة ينهون مشوارهم كما بدأوه، بل هم كائنات حية تتفاعل مع الكون، لذلك تراهم وهم يقومون بفعل تغيير الكون يتغيرون هم أيضاً. فالثورة هي ولادة إنسان جديد ومجتمع جديد. يقول فانون: إن الثورة من حيث أنها ثورة في الأعماق، الثورة الحقيقية، تكون متقدمة جداً لأنها تبدل الإنسان وتجدد المجتمع، فهذا الأكسجين الذي يبدع إنسانية جديدة ويعدها، إنه هو كذلك الثورة الجزائرية .ويقول:إن الفكرة التي تتطلب من الناس أن يتبدلوا في ذات الوقت الذي يبدلون فيه العالم، لم تكن أبداً ظاهرة علي هذا النحو الواضح إلا في الجزائر . في الفصل الأول من الكتاب وعنوانه الجزائر تلقي الحجاب يسرد فانون قصة الحجاب في الجزائر، فقصة الحجاب في الجزائر بدأت عام 1930 1935 وذلك لتحطيم أصالة الشعب الجزائري. يقول :ذلك أن المسؤولين عن الإدارة الفرنسية في الجزائر، وقد أوكل إليهم تحطيم أصالة الشعب مهما كان الثمن وزودوا بالسلطات لممارسة تفتيت أشكال الوجود المؤهلة لإبراز حقيقة وطنية من قريب أو من بعيد، سوف يعملون علي بذل أقصي مجهوداتهم ضد ارتداء الحجاب علي اعتباره في الحالة الراهنة، رمزا لتمثال المرأة الجزائرية. ولم يكن موقف كهذا نتيجة لحدس طارئ. إلا أن الأخصائيين في المسائل التي تدعي مسائل السكان الأصليين والمسؤولين في الدوائر المختصة بالعرب قد نسقوا أعمالهم بالاستناد علي تحليلات علماء الاجتماع............ ..إلي الصيغة المشهورة : لنعمل علي أن تكون النساء معنا وسائر الشعب سوف يتبع . ہ كاتب عراقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.