إن المواطنة كمرجعية دستورية وسياسية تعني العضوية الكاملة في الدولة من خلال الانخراط المسؤول في تدبير الشأن العام، بحيث تنطلق من أصغر الممارسات المواطناتية إلى أكبرها، كالانخراط في الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات وتقديم العرائض والملتمسات، كما تعني المشاركة المكثفة والمسؤولة في الاستفتاءات والاستحقاقات الانتخابية، على اعتبار أن التغيير الحقيقي تحدده صناديق الاقتراع، ذلك أن الوسيط العملي والفعلي بين المواطن والمؤسسات السياسية هي صناديق الاقتراع؛ فهذه الأخيرة ما هي في واقع الأمر سوى إعمال لمبدأ السيادة الشعبية؛ بحيث أن الممارس الحقيقي للسلطة السياسية يستمد شرعيته من الاقتراع الشعبي من المؤكد أن ورقة التصويت المنفردة لا تؤثر على نتائج الانتخابات، لكن بذهاب عدد مكثف من المواطنين إلى صناديق الاقتراع يحدث الفرق بين فوز أو خسارة هذا المرشح أو ذاك، بل أكثر من ذلك فإن هناك فائدة كبيرة تدفع كثيرا من الناخبين إلى التصويت، فما يهم ليس أثر التصويت على النتيجة التي يحصل عليها الناخب، بل ما يترتب على فعل التصويت نفسه من فوائد مباشرة على المواطن والمجتمع على حد سواء. إن للناخب مكانة أساسية في العملية الانتخابية؛ فوعيه السياسي بأهمية صوته له تأثير كبير على الأحزاب السياسية؛ فكلما أحست هذه الأخيرة بوجود ناخبين واعين بأهمية أصواتهم إلا واضطرت إلى بذل مجهود مضاعف على مستوى وضع برامج واقعية واختيار المرشحين الأكفاء حتى تستجيب لتطلعاتهم وانتظاراتهم وتخليق التدبير الحزبي؛ والعكس صحيح.
بيد أن هذا الوعي السياسي لا يتولد فجأة، بل يتحدد من خلال التنشئة الإجتماعية والتأطير؛ فالوسط الاجتماعي ومستوى التعليم ودور الأحزاب السياسة والمجتمع المدني في إشاعة ثقافة المواطنة الحقة والتحسيس بأهمية العمل السياسي، وتأهيل الفرد سياسيا وجمعويا كلها عوامل تساهم في بلورة وعي سياسي عميق لدى المواطن؛ إذ تمكنه من الإدراك بأن الانتخابات ليست لحظة سياسية عابرة، بل خيار استراتيجي يرهن مستقبله الاجتماعي والاقتصادي. فالارتكان إلى موقف المقاطعة من الانتخابات أو اللجوء إلى التردد في انتخاب الأشخاص الأكفاء له تأثيرات سلبية على المعيش اليومي للمواطن وعلى التنمية، يشعر بها انطلاقا من جماعته، مرورا بجهته، وصولا إلى المستوى الوطني، لذلك لم يتردد جلالة الملك محمد السادس في الإفصاح صراحة على مسؤولية المواطن في اختيار الأصلح لتدبير الشأن العام، مشيرا في هذا الصدد :" فإن جعلتم على رؤوسكم فاسدين في مدنكم وقراكم، فلا تقبل منكم الشكايات، فأنتم المسؤولون عن تدهور حقوقكم وحقوق بلدكم ." والواقع أن الحديث عن مجتمع المواطنة لا يمكنه أن يتم إلا في ظل نظام ديمقراطي يرتكز على إعمال الديمقراطية المواطنة، وهو الاختيار الذي اختطه المغرب حينما أقر في الفصل الأول من دستوره "أن النظام الدستوري للمملكة المغربية يقوم على أساس فصل السلط وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية"، مثلما أقر في فصله الثاني أن السيادة للأمة، تمارسها مباشرة بالاستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليه، على أساس أن تختار الأمة ممثليها". إن "الديمقراطية المتضامنة" هي تلك الديمقراطية المتضمنة لحقوق التصويت في إطار انتخابات حرة وعادلة أو الترشيح لوظيفة تشغل بالانتخاب، وهو ما تضمنه دستور 2011 في فصله الحادي عشر حينما شدد على "أن الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة هي أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي" مثلما تعني الديمقراطية المتضامنة أن الفرص السياسية مفتوحة للجميع على قدم المساواة بدون أي تمييز ديني أو عرقي أو لغوي أو جهوي، وهو ما نلاحظه حاليا من كثافة ملحوظة في حجم الترشيحات المقدمة لاستحقاقات 2021 خصوصا من قبل الشباب المغربي، فالمجال فتح أمام جميع مكونات المجتمع المغربي، وهذه ظاهرة صحية لأن هذه الكثافة تمثل مظهرا أساسيا من مظاهر المشاركة السياسية الاعتيادية. إن ما يجعل صوت المواطن هو العنصر الحاسم كون هذه الانتخابات مؤطرة بكافة الضمانات القانونية والسياسية قصد إجراء انتخابات حرة ونزيهة، بحيث أن صوت المواطن يجسد الفرق الأساسي من خلال اختياره السليم والواعي والمسؤول لمن سيدبر شؤونه على امتداد خمس سنوات، فإما أن يحسن الاختيار أو يخطأ الاختيار. لذلك فإن المسؤولية هنا مسؤولية وطنية وأخلاقية قبل أن تكون مسؤولية قانونية وسياسية، فعدم الذهاب إلى صناديق الاقتراع أو التردد في الاختيار معناه رهن مستقبلك ومستقبل ابنائك، فليس هناك من خيار سوى الذهاب لصناديق الاقتراع لأن هذه هي الديمقراطية، وقد سبق لرئيس الوزراء البريطاني ترتشل أن قال :" إن الديمقراطية أسوأ نظام أعرفه، لكني لا أعرف احسن منه ." كما أنه لإعمال المواطنة الحقة ينبغي للحكومة أن تعمل على نهج استراتيجية تشاركية فعلية مع كل مكونات المجتمع المدني، فليس هناك من خطر على المجتمع سوى أن يظل أفراده في موقف المتفرج أو في حالة انتظارية قاتلة، ذلك أن المشاركة اليوم تتجاوز المجال العمومي إلى المجال السوسيو عمومي : الجمعيات؛ والمقاولات والجامعات. إن توفر هذه الشروط ليس ترفا فكريا، بل ضرورة استراتيجية يتطلبها مجتمع المواطنة؛ فإذا كانت الديمقراطية تعني في أبسط معانيها حكم الشعب للشعب بواسطة الشعب؛ فإن المواطنة تعني تمكين أفراد هذا الشعب من حقوقهم والاستبطان في نفوسهم أهمية الإدراك بواجباتهم تجاه مجتمعهم، بشكل يجعل من العلاقة بين مفهومي الديمقراطية والمواطنة علاقة جدلية يصعب معها تصور إحداهما في غياب الأخرى. وعلى الصعيد الواقعي لا يمكن لمفهوم المواطنة أن يكتمل إلا بنشوء الدولة الحاضنة للجميع؛ تلك الدولة التي تمارس الحياد الايجابي تجاه قناعات ومعتقدات مواطنيها؛ بحيث لا تحشر نفسها في قلب هذا الخضم، بقدر ما تتحول إلى صمام أمان يؤطر ويضمن لمواطنيها جميع حقوقهم؛ فلا تمارس الإقصاء أو التهميش أو التمييز تجاه مواطن بسبب معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية؛ كما أنها لا تمنح الحظوة لمواطن بفضل معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية؛ فهي بوتقة جامعة لكل المواطنين، ومن تم تصبح ممثلة لمجموع إراداتهم؛ كما أن مجتمع المواطنة لا تتوقف فقط على القواعد والإجراءات التي يتبناها ويكفلها المجتمع، بل أيضا على طريقة استخدام المواطنين للفرص على قدم المساواة. وهذا ما نلاحظه اليوم من خلال هذه الاستحقاقات، حيث تمارس الدولة حيادا قانونيا وسياسيا اتجاه جميع الفرقاء السياسيين دون تمييز فيما بينهم. لقد حددت الدولة اليوم أهدافها بدقة لما بعد 8 شتنبر 2021 بما يمكن من افراز نخب سياسية قادرة على تنزيل النموذج التنموي وتسريع ورش الجهوية المتقدمة وتبني جيل جديد من السياسات العمومية تجعل من الحماية الاجتماعية مرتكزا جوهريا. ومثلما حددت الدولة أهدافها من هذه الاستحقاقات ينبغي كذلك للمواطن تحديد أهدافه منها، لذلك فإن انتخابات 8 شتنبر2021 فرصة سانحة لجميع المواطنات والمواطنين لإظهار أصواتهم بقوة في هذا اليوم قصد تحقيق انتظاراتهم المشروعة من ضمان للشغل وتحقيق لمنظومة صحية جيدة وتعليم ناجع.... ، وتزداد أهمية هذه الفرصة حينما نتحدث عن تدبير الشأن العام المحلي، فقضايا القرب التي يتخبط فيها المواطن المغربي راجعة بالأساس لعدم ممارسة حقوقه الدستورية، ليس فقط في اختيار من يمثله في الجماعات الترابية، بل أيضا في تتبع ومراقبة ومحاسبة هؤلاء المنتخبين على امتداد ولايتهم الانتدابية.