تنظم الانتخابات التشريعية الحالية على إثر أول تجربة جرت في إطار دستور 2011 والقوانين التنظيمية للسنة نفسها المتعلقة بكل من مجلس النواب والأحزاب السياسية. وهي مناسبة لمعالجة موضوع المشاركة السياسية انطلاقا من التذكير بأهم المقتضيات القانونية والآليات التي تنظم هذا الاقتراع، مع الإشارة إلى ما هو مستجد فيها. ومن هذا المنطلق، نرى أن هناك على الأقل خمسة أسباب وجيهة للمشاركة في الاقتراع، باعتبار هذه المشاركة واجبا وطنيا، ولكن هي أيضا حق لا يمكن التفريط فيه، ويعتبرها الدستور وسيلة لممارسة سيادة الأمة بواسطة اختيار ممثليها. 1. الانتخاب مناسبة لتطوير الخيار الديمقراطي يقوم النظام السياسي المغربي، منذ صدور دستور 2011، على ثوابت جامعة، من بينها الاختيار الديمقراطي للأمة، وهو من بين الأسس التي لا يمكن أن تتناولها المراجعة، بالإضافة إلى ما يصاحبها من عدم إمكان مراجعة المكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور. يعتبر الدستور أيضا أن الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة هي أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي. وتعتبر الانتخابات التشريعية أساسا مناسبة لتأليف مجلس النواب الذي تنبثق عنه الحكومة. ويحيل النص الدستوري إلى قوانين تنظيمية وعادية من أجل تثبيت هذا الخيار على أرض الواقع. ومهما كانت المبادئ والقوانين المتعلقة بالانتخاب جيدة، فإن الممارسة على أرض الواقع من طرف الفاعلين، وهم الأحزاب والناخبون، هي وحدها الكفيلة بتنفيذها، بل وحتى تعديلها لتتناسب مع هذا الواقع. هناك علاقة جدلية بين النصوص وبين هؤلاء الفاعلين؛ بحيث يؤثر القانون على الفاعلين السياسيين وعموم المواطنين، ويؤثر سلوك الفاعلين في النصوص القانونية، ليصب كل هذا التفاعل في تطوير الواقع الذي هو تجسيد للخيار الديمقراطي المنصوص عليه في الدستور المبني على المشاركة السياسية. ومما يؤكد ذلك، إدخال تعديلات أو إصدار قوانين جديدة كلما اقترب تاريخ الانتخابات التشريعية بصفة خاصة، سنتناول بعضها في الفقرات الموالية. إن بناء الديمقراطية هو مسلسل لا ينتهي، بل مستمر في الزمان، ومن ثم، لا يمكن القول بتطوير الخيار الديمقراطي وتثبيته إلا من خلال مشاركة الأحزاب، من جهة، ومن جهة ثانية مشاركة الناخبات والناخبين في الاقتراع. 2. رئيس الحكومة يعين من الحزب الذي يتصدر نتائج الاقتراع يقوم النظام السياسي المغربي على الديمقراطية التمثيلية التي تعني اختيار الناخبات والناخبين لممثليهم في المؤسسة التشريعية، التي هي مجلس النواب، مرة كل خمس سنوات. ومع دستور 2011، تم أيضا تكريس الديمقراطية التشاركية التي تعتبر مكملة ومدعمة للديمقراطية التمثيلية وتتميز بكونها تستمر في الزمان ولا ترتبط ممارستها باستحقاق معين. غير أن الديمقراطية التمثيلية تبقى أساسية من زوايا عدة. فهي تتجلى في انتخاب أعضاء مجلس النواب، ولكن لا تقف عند هذا الحد، بل تمتد بمقتضى النص الدستوري الجديد إلى أنها تشكل أساسا لتعيين رئيس الحكومة، لكون رئيس الحكومة يعين من الحزب الذي يتصدر نتائج الاقتراع، وتؤثر بذلك بصفة شبه مباشرة في تأليف الحكومة من خلال التحالفات التي يبنيها الحزب المتصدر لنتائج الاقتراع. هناك إذن تأثير جد مهم على الحياة السياسية من خلال الانتخاب، ولا يمكن ادعاء أن أمر الانتخاب لا يهم، لأن له نتائج مباشرة على الحياة اليومية للمواطن من خلال العمل الذي تقوم به الحكومة طيلة ولايتها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مناسبة الانتخاب هي أيضا فرصة لتقييم السياسة الحكومية التي تدوم خمس سنوات، مع ما يتضمن هذا التقييم من حكم على سياستها واتخاذ موقف منها، والتعبير بكل حرية عن هذا الموقف من خلال الاقتراع. 3. الاقتراع فرصة لتقييم السياسة الحكومية يعتبر التصويت لانتخاب مجلس نواب جديد أداة لتقييم سياسة الحكومة بعد انتهاء مدة ولايتها، وتتخذ ممارسة الحق في التصويت أحد معانيه الكبرى؛ حيث يسمح التقييم بإصدار حكم على سياسة الحكومة واتخاذ موقف منها؛ أي من الأحزاب المكونة لها التي توفر لها الأغلبية اللازمة في مجلس النواب، من أجل التصويت على القوانين التي تصدر الغالبية العظمى منها عن الحكومة على شكل مشاريع قوانين. وإذا كانت الرقابة الشعبية على العمل الحكومي تتم خلال مدة الانتداب وفق أشكال عدة كالتعبير عن المواقف في وسائل الإعلام أو تقديم عرائض أو الاحتجاج والتظاهر، فإن الشكل الحاسم يبقى هو التصويت لأنه وحده يمكن أن يبقي على الأغلبية الحاكمة أو تغييرها بأغلبية أخرى، وهذا هو جوهر الديمقراطية التي تتأسس على التداول في ممارسة السلطة؛ فالأحزاب تقدم بمناسبة الانتخابات التشريعية برامج ولوائح للترشيح تضم أشخاصا، والاختيار قد يبدو صعبا في بعض الأحيان، لكن لا يمكن التذرع بهذه الصعوبة وعدم إيلاء الاهتمام بالشأن العام واعتبار السياسة بعيدة عنا، لأنها في معناها المباشر والبسيط تعني كل ما يهم المواطن ويؤثر عليه في حياته اليومية، ولاسيما ما يتعلق بالخدمات العمومية الأساسية كالصحة والتعليم والسكن والشغل، وغير ذلك. ولهذه الأسباب كلها، على الناخبين والناخبات ألا يفوتوا فرصة التصويت للتعبير عن موقفهم بكل حرية، بناء على قناعاتهم وحاجياتهم وما يتطلعون إليه من إصلاح، لأن ذلك هو السبيل للتأثير في السياسات الحكومية. 4. تخفيض عتبة القابلية للانتخاب إلى 3 % يحد من ضياع أصوات الناخبات والناخبين بمقتضى تعديل للفقرة الثانية من المادة 84 من القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب، صدر في 10 غشت 2016، لا تشارك في عملية توزيع المقاعد لوائح الترشيح التي حصلت على أقل من 3 % من الأصوات المعبر عنها في الدائرة الانتخابية المعنية؛ أي إنه تم تخفيض هذه النسبة التي طبقت في 2011 من 6 % إلى 3 %. في بعض الأحيان، يتم المناداة برفع هذه النسبة ويقترح تطبيق عدد ما بين 7 % و10 % بدعوى ترشيد المشهد الحزبي وبروز عدد قليل من الأحزاب القوية، لكن إذا علمنا أن المغرب هو في حالة انتقال ديمقراطي، فإن المنطق يقتضي عدم إقصاء عدد من القوى السياسية الحية، مهما كان حجمها الانتخابي، والتي تعتبر مشاركتها وإشراكها أداة لتطوير الديمقراطية. هذا التعديل الذي كان محل مطلب من بعض الأحزاب السياسية ليس بسيطا، بل هو في غاية الأهمية ويتعين الوقوف عليه وعلى نتائجه بالنسبة للعملية الانتخابية وتمثيل القوى السياسية، وتعبئة الناخبين والناخبات، ليتبين لنا أنه يشكل عاملا إضافيا يدعو إلى المشاركة في الانتخاب. ما ذا يقع عندما تطبق هذه النسبة التي تسمى عتبة القابلية للانتخاب؟ يتم إحصاء الأصوات على صعيد الدائرة الانتخابية، ويحتفظ فقط بالصحيحة منها، ثم يضرب هذا العدد في النسبة فتكون النتيجة عدد معين من الأصوات الذي يجب الحصول عليه كحد أدنى لمشاركة اللوائح في توزيع المقاعد، وتقصى من المشاركة في توزيع المقاعد اللوائح التي لم تحقق هذا العدد من الأصوات، وتخصم الأصوات التي حصلت عليها أيضا من مجموع الأصوات المعبر عنها بالدائرة الانتخابية، وبعد ذلك فقط يتم استخراج القاسم الانتخابي الذي على أساسه توزع المقاعد على باقي لوائح الترشيح. وبمعنى آخر، هناك عدد مهم من الأصوات التي تضيع لأنها لا تحتسب ولا يكون لها أدنى أثر. وكلما كانت نسبة العتبة مرتفعة، يكون عدد الأصوات الضائعة كبيرا، وتقصى لوائح ترشيح، سواء للأحزاب أو المستقلين، من المشاركة في توزيع المقاعد والحصول على عدد منها؛ أي إن هناك ضياع للأصوات وإقصاء لبعض للوائح. لهذا السبب، يعتبر تخفيض العتبة مسألة إيجابية تسمح باحتساب عدد أكبر من الأصوات وإشراك عدد أكبر من اللوائح في توزيع المقاعد وولوج مجلس النواب. 5. تأطير أفضل للحملات الانتخابية يدعم نزاهة الاقتراع: الملاحظة المستقلة والمحايدة للانتخابات بالإضافة إلى القواعد الصارمة المنظمة لتمويل الحملات الانتخابية بمناسبة الانتخابات التشريعية، سواء من قبل الأحزاب أو من قبل المترشحات والمترشحين، يتعين الالتفات إلى موضوع الملاحظة المستقلة والمحايدة للانتخابات، وهي التي كانت تمارس بدون نص، إلى أن جاء دستور 2011 ونص عليها الفصل 11 منه؛ حيث جاء فيه: "يحدد القانون شروط وكيفيات الملاحظة المستقلة والمحايدة للانتخابات، طبقا للمعايير المتعارف عليها دوليا". ويضيف الفصل نفسه أن كل شخص خالف المقتضيات والقواعد المتعلقة بنزاهة وصدق وشفافية العمليات الانتخابية، يعاقب على ذلك بمقتضى القانون. وقد صدر تبعا لذلك القانون 30.11 المحدد لشروط وكيفيات الملاحظة المستقلة والمحايدة للانتخابات. تندرج الملاحظة الانتخابية في ضمان سلامة الاقتراع والرفع من مصداقيته عن طريق إشراك المجتمع المدني الذي يوفر ويؤطر الملاحظات والملاحظين، وهي بذلك تعبير من بين التعابير الأخرى للمشاركة المواطنة. ومن مزايا هذه الملاحظة أنها منظمة بالشكل الذي يجعلها ممأسسة تتم عن طريق مسطرة الاعتماد. ويوفر القانون للمشاركين فيها حقوقا وينص على واجبات تسمح لهم بالقيام بدورهم. فمن جهة، يملك الملاحظون حق ولوج مكاتب التصويت ولجان الإحصاء، والتواصل مع مختلف وسائل الإعلام بعد الإعلان عن نتائج الاقتراع، وإعداد تقارير لتقييم سير العمليات الانتخابية وإحالتها على الجهة المعتمدة، على أن يتم الالتزام بالموضوعية والاستقلالية والحياد في تتبع سير العمليات الانتخابية وتقييم نتائجها. ومن جهة أخرى، تكون هذه التقارير مصدرا موثوقا للمعلومات؛ بحيث يتم القطع مع الأنباء أو الشائعات التي قد تمس بمصداقية الاقتراع، الشيء الذي لا يمكن إلا أن يشجع الناخبين والناخبات على المشاركة في الاقتراع؛ حيث ترفع نسبة الثقة لدى المواطنين والمواطنات وتجعلهم أكثر اطمئنانا على أصواتهم التي يدلون بها. *أستاذ بكلية الحقوق بفاس