يكتسي موضوع نزاهة الانتخابات وحريتها أهمية بالغة في ظل الدستور الجديد الذي جعل من الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي. إن مسألة نزاهة الانتخابات وحريتها وشفافيتها هي في الحقيقة أحد مظاهر تخليق الحياة العامة، وأحد المبادئ القوية التي يقوم عليها الخيار الديمقراطي. لذلك كانت دائما في صلب الخطابات الملكية. وطبيعي أن تعطى لهذا الموضوع هذا الحجم من الأهمية لأنه يشكل المدخل الصحيح للحياة السياسية السليمة وللبناء الديمقراطي القوي المتين. وقد أرسى المشرع سواء على مستوى الدستور أو على مستوى النصوص التشريعية أو التنظيمية الكثير من القواعد والضوابط التي من شأنها أن تجعل من الانتخابات حرة ونزيهة. فعلى مستوى الوثيقة الدستورية الجديدة نجد الفصول التالية: الفصل الثاني ينص على أن «السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها. تختار الأمة ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر والنزيه والمنتظم». الفصل الحادي عشر ينص على «أن الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة هي أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي. السلطات العمومية ملزمة بالحياد التام إزاء المترشحين، وبعدم التمييز بينهم. ... يحدد القانون شروط وكيفيات الملاحظة المستقلة والمحايدة للانتخابات، طبقا للمعايير المتعارف عليها دوليا. كل شخص خالف المقتضيات والقواعد المتعلقة بنزاهة وصدق وشفافية العمليات الانتخابية، يعاقب على ذلك بمقتضى القانون. تتخذ السلطات العمومية الوسائل الكفيلة بالنهوض بمشاركة المواطنات والمواطنين في الانتخابات». ومما له دلالته في هذا الصدد أن نشير إلى أن ضمان نزاهة الانتخابات وشفافيتها يرتبط ارتباطا وثيقا بمبدأ أسال الكثير من الحبر، وكان مطلب الجميع أثناء المشاورات التي واكبت إعداد دستور 2011، وهو مبدأ استقلال القضاء الذي عمل الدستور الحالي على التنصيص عليه في الباب السابع. هذا، وقد جعل الدستور النظام الانتخابي ومبادئ التقطيع الانتخابي من اختصاص البرلمان طبقا للفصل71 منه. وجعل جوانب كثيرة في ما يتعلق بالجماعات الترابية من حيث عدد الأعضاء والنظام الانتخابي ومبادئ التقسيم الانتخابي وشروط القابلية للانتخاب، وحالات التنافي وقواعد الجمع بين الانتدابات، ونظام المنازعات الانتخابية، من اختصاص قانون تنظيمي. وفي هذا الإطار صدر القانون رقم 57.11 المتعلق باللوائح الانتخابية العامة وعمليات الاستفتاء واستعمال وسائل الاتصال السمعي البصري العمومية خلال الحملات الانتخابية والاستفتائية بتاريخ 28 أكتوبر 2011 الذي تضمن الكثير من القواعد التي من شأنها أن تضمن حرية ونزاهة الانتخابات في مرحلة القيد في اللوائح الانتخابية أي في المراحل التمهيدية للعملية الانتخابية حتى يضمن المشرع بذلك انطلاقة صحيحة لهذه العملية تحت مراقبة القضاء. كما صدر القانون التنظيمي رقم 59.11 المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية بتاريخ 21 نوفمبر2011 ، والذي تضمن بدوره العديد من المقتضيات الضامنة لحرية ونزاهة الانتخابات، في مرحلتي الترشيح والعملية الانتخابية. وفي مرحلة الحملة الانتخابية أقر المشرع العديد من الضوابط لتحقيق النزاهة الانتخابية. فمنع على أي موظف عمومي أو مأمور من مأموري الإدارة أو جماعة ترابية أن يقوم خلال الحملة الانتخابية، أثناء مزاولة عمله، بتوزيع منشورات المترشحين أو برامجهم أو غير ذلك من وثائقهم الانتخابية. وعلى أي شخص أن يقوم، بنفسه أو بواسطة غيره، بتوزيع برامج أو منشورات أو غير ذلك من الوثائق الانتخابية يوم الاقتراع. كما منع تسخير الوسائل أو الأدوات المملوكة للهيئات العامة والجماعات الترابية والشركات والمقاولات العمومية وشبه العمومية، في الحملة الانتخابية للمترشحين. وكل ذلك تحت طائلة التعرض للعقوبات الجنائية المقررة لهذه المخالفات. وفي مجال تمويل الحملة الانتخابية ولضمان شفافيتها عاقب القانون كل منتخب بإبطال انتخابه إذا تجاوز السقف المحدد للمصاريف الانتخابية أو لم يبين مصادر تمويل حملته الانتخابية أو لم يقم بتبرير المصاريف المذكورة. علما أن المرسوم رقم 2.15.452 الصادر بتاريخ فاتح يوليو 2015 المتعلق بتحديد سقف المصاريف الانتخابية للمترشحين بمناسبة الحملات الانتخابية برسم انتخاب أعضاء مجلس المستشارين وأعضاء مجالس الجهات وأعضاء مجالس العمالات والأقاليم وأعضاء مجالس الجماعات والمقاطعات، عمل على تحديد بدقة المقصود بالمصاريف الانتخابية حتى لا يقع صرف مساهمات الدولة في غايات غير تلك المخصصة لها. والمصاريف الانتخابية هي النفقات التي ينجزها المترشحون للقيام بما يلي: - تغطية مصاريف طبع الإعلانات والوثائق الانتخابية وتعليقها وتوزيعها؛ - عقد الاجتماعات الانتخابية ودفع الأجور المستحقة لمقدمي الخدمات التي تستلزمها الاجتماعات المذكورة وجميع اللوازم المرتبطة بهذه الاجتماعات بما في ذلك مصاريف التنقل؛ - تغطية المصاريف الأخرى المرتبطة باقتناء لوازم الدعاية الانتخابية؛ - تغطية مصاريف إنجاز وبث وصلات إشهارية لها صلة بالحملة الانتخابية عبر الأنترنت؛ - تغطية المصاريف عن النفقات المنجزة يوم الاقتراع المرتبطة بممثلي لوائح الترشيح أو المترشحين في مكاتب التصويت والمكتب المركزي ولجان الإحصاء؛ - تغطية المصاريف التي تؤدى بعد انتهاء الحملة الانتخابية المرتبطة باستئجار أماكن لتعليق الإعلانات الانتخابية أو بمصاريف انتخابية أخرى مرتبطة بالحملة الانتخابية؛ - تغطية مصاريف إزالة الإعلانات الانتخابية التي تم تعليقها. وألزم المشرع وكيل كل لائحة أو كل مترشح بأن يضع بيانا مفصلا لمصادر تمويل حملته الانتخابية؛ وجردا للمبالغ التي صرفها أثناء حملته الانتخابية. وذلك كله تحت إشراف المجلس الأعلى للحسابات الذي يراقب تمويل الحملات الانتخابية للمترشحين بمناسبة انتخابات الجماعات الترابية. كما يقوم المجلس الأعلى للحسابات طبقا للمرسوم رقم 2.15.451 الصادر في فاتح يوليو 2015 المتعلق بتحديد الآجال والشكليات المتعلقة باستعمال مساهمة الدولة في تمويل الحملات الانتخابية التي تقوم بها الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات العامة الجماعية والانتخابات العامة الجهوية وكذا في تمويل الحملات الانتخابية التي تقوم بها الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية المشاركة في انتخاب أعضاء مجلس المستشارين، بإطلاع وزير العدل على جميع الإخلالات الملاحظة في الالتزام باستعمال مساهمة الدولة للغايات التي منحت من أجلها. وذلك لاتخاذ الإجراءات التي يقتضيها القانون. هذا، وقد وضع القانون رقابة قضائية في جميع المراحل التي يمر بها الانتخاب من بداية مراحله التمهيدية إلى عملية التصويت وفرز الأصوات وإحصائها والإعلان عن النتائج. فأوكل هذه المراقبة للمحاكم الإدارية كأصل عام واستثناء إلى المحاكم الابتدائية لاسيما في مجال القيد في اللوائح الانتخابية والترشيح. وعلى مستوى العمليات الانتخابية وضع المشرع الكثير من القواعد القانونية التي تتوخى حرية ونزاهة الانتخابات، وهكذا نص على التصويت بواسطة ورقة فريدة التي أقرها لمحاربة الفساد الانتخابي. وتتضمن هذه الورقة جميع البيانات التي تساعد الناخب على التعرف على لوائح الترشيح أو المترشحين المعروضين على اختياره. واشترط في أعضاء مكتب التصويت الذين يتم تعيينهم من قبل العامل من بين الموظفين أو الأعوان بالإدارة العمومية أو الجماعات الترابية أو من بين مستخدمي المؤسسات العمومية أو الناخبين غير المترشحين الذين يحسنون القراءة والكتابة، أن تتوفر فيهم شروط النزاهة والحياد. وأعطى المشرع لممثلي اللوائح أو المترشحين الحق في التوفر في كل مكتب تصويت على ممثل ناخب مؤهل ليراقب بصفة مستمرة عمليات التصويت، وفرز الأصوات وإحصائها التي يقوم بها مكتب التصويت. وأعطاه الحق أيضا لكي يطلب تضمين محضر مكتب التصويت جميع الملاحظات التي قد يدلي بها في شأن العمليات المذكورة. كما يحق لممثلي اللوائح أو المترشحين حضور أشغال المكتب المركزي. وقد تطلب القانون أن يكون التصويت سريا، وأن يتم داخل معزل بوضع الناخب علامة تصويته في المكان المخصص للائحة أو للمترشح الذي يختاره في ورقة التصويت الفريدة الحاملة لطابع السلطة الإدارية المحلية. ويقوم رئيس مكتب التصويت بإحصاء أوراق التصويت المسلمة له قبل الإعلان عن الشروع في الاقتراع. ويعاين في الساعة المحددة للشروع في الاقتراع أمام الناخبين الحاضرين أن الصندوق لا يحتوي على أية ورقة ثم يسده بقفلين أو مغلاقين متباينين يحتفظ بأحد مفتاحيهما، ويسلم الآخر إلى عضو مكتب التصويت الأكبر سنا. وجعل القانون عملية التصويت تتم في إطار من الحرية والشفافية المطلقة بدون أي تدخل من أعضاء مكتب التصويت أو أيا كان بحيث تتم عملية التصويت كالتالي: - يسلم الناخب، عند دخوله قاعة التصويت، إلى كاتب مكتب التصويت بطاقته الوطنية للتعريف؛ - يعلن الكاتب بصوت مسموع الاسم الكامل والرقم الترتيبي للناخب؛ - يأمر الرئيس بالتحقق من وجود اسم الناخب في لائحة الناخبين ومن هويته؛ - يأخذ الناخب بنفسه من فوق طاولة معدة لهذا الغرض ورقة تصويت واحدة. ويحرص رئيس مكتب التصويت على احترام هذا المقتضى. - يدخل الناخب وبيده ورقة التصويت إلى المعزل ويضع، حسب اختياره، علامة أو علامتي تصويته، في حالة الانتخاب على مستوى دائرتين انتخابيتين، في المكان المخصص للائحة أو للمترشح. و يقوم بطي ورقة التصويت قبل الخروج من المعزل؛ - يودع الناخب بنفسه ورقة تصويته مطوية في صندوق الاقتراع؛ - يضع الرئيس على يد المصوت علامة بمداد غير قابل للمحو بسرعة. ويضع إذاك عضوا المكتب في طرة لائحة الناخبين إشارة أمام اسم المصوت؛ - يعيد الكاتب للناخب بطاقته الوطنية للتعريف، ثم يغادر الناخب قاعة التصويت في الحين. ويمكن لكل ناخب به إعاقة ظاهرة تمنعه من وضع علامة تصويته على ورقة التصويت أو إدخال هذه الورقة في صندوق الاقتراع، أن يستعين بناخب من اختياره، يكون متوفرا على البطاقة الوطنية للتعريف. ويشار إلى هذه الحالة في محضر العمليات الانتخابية. غير أنه لا يمكن لأي شخص أن يقدم المساعدة لأكثر من ناخب معاق واحد. وعلى مستوى فرز الأصوات وإحصائها عمل المشرع على إحاطتها بكل الضمانات التي تكفل نزاهتها وشفافيتها وصحتها. لذلك أوكل إلى مكتب التصويت مهمة فرز الأصوات بمساعدة فاحصين يحسنون القراءة والكتابة يختارهم الرئيس من بين الناخبين الحاضرين غير المترشحين. وسمح للمترشحين بتعيين فاحصين يوزعون قدر الإمكان بالتساوي على مختلف طاولات الفرز. لكن إذا كان مكتب التصويت يشتمل على أقل من مائتي ناخب مقيد فإنه أجاز للرئيس وأعضاء المكتب أن يقوموا بأنفسهم بفرز الأصوات دون مساعدة هؤلاء الفاحصين. كما وضع المشرع قواعد لتحرير المحاضر وإعلان النتائج. وهي قواعد وضوابط واضحة ومحددة لا يمكن الحيد عنها أو مخالفتها وإلا تعرضت العملية الانتخابية للإبطال لأنها تتوخى الحرص على نزاهة وشفافية الانتخابات فاعتبرت من قبل القضاء بأنها من مشتملات النظام العام ومستلزماته. وحرص المشرع على وضع الإطار القانوني للملاحظة المستقلة والمحايدة للانتخابات بمقتضى القانون رقم 30.11 القاضي بتحديد شروط وكيفيات الملاحظة المستقلة والمحايدة للانتخابات، والذي جاء تنفيذا لما نص عليه الدستور في الفصل 11 في فقرته الرابعة. وذلك قصد إتاحة المجال للملاحظين الدوليين والمحليين للرصد والتتبع الميداني لسير العمليات الانتخابية وتجميع معطياتها بموضوعية وتجرد وحياد، وتقييم ظروف تنظيمها وإجرائها ومدى احترامها للقواعد الدستورية والنصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالانتخابات والمعايير الدولية. وإعداد تقارير بشأنها تتضمن ملاحظات وتوصيات الملاحظين وترفع إلى السلطات المعنية. ويمكن أن يقوم بمهام الملاحظة المستقلة والمحايدة للانتخابات: - المؤسسات الوطنية المؤهلة بحكم القانون للقيام بمهام ملاحظة الانتخابات؛ - جمعيات المجتمع المدني الفاعلة المشهود لها بالعمل الجاد في مجال حقوق الإنسان، ونشر قيم المواطنة والديمقراطية، المؤسسة بصفة قانونية والمسيرة وفق أنظمتها الأساسية؛ - المنظمات غير الحكومية الأجنبية المؤسسة بصفة قانونية طبقا لتشريعاتها الوطنية والمشهود لها بالاستقلالية والموضوعية والمهتمة بمجال ملاحظة الانتخابات. وعموما نعتبر أن السهر على نزاهة الانتخابات وشفافيتها هي بالدرجة الأولى مسؤولية السلطات العمومية التي تحتكر وسائل الإكراه. لكنها تبقى كذلك مسؤولية باقي الجهات والأطراف الأخرى المعنية بهذه الانتخابات من أحزاب سياسية، ومجتمع مدني، وناخبين، ومترشحين حتى يتم ترسيخ مناخ الثقة في الانتخابات ونتائجها وفي المؤسسات المنبثقة عنها، وكل ذلك من أجل بناء حياة سياسية وإدارية سليمة وديمقراطية حقيقية.