تعتبر الانتخابات مظهرا أساسيا من مظاهر المشاركة السياسية الاعتيادية التي تمكن الناخب من التعبير عن اختياراته السياسية باختيار مرشحا أو مجموعة من المرشحين يستهدفون الوصول إلى المجالس التمثيلية ، كما أن الانتخابات غدت مصدرا أساسيا لضمان شرعية الحكومات ، مثلما تعد الوسيلة الديمقراطية التي تمكن المواطن من أن يؤثر على بلورة وتنفيذ مختلف السياسات العمومية.، وذلك باختيار من سيصوغ له هذه السياسات. تحيلنا هذه التوطئة إلى طرح سؤال محوري ألا وهو: ماذا سيستفيد الناخب من الذهاب إلى صناديق الاقتراع؟ إن صوت المواطن محدد أساسي لاختيار من سيدبرون الشأن العام على امتداد ولاية تشريعية برمتها، صحيح أن ورقة التصويت الواحدة لا تؤثر على نتائج الانتخابات، إلا أنه في واقع الأمر هناك فوائد متعددة تدفع العديد من الناخبين إلى التصويت، فما يهم ليس أثر التصويت على النتيجة التي يحصل عليها الناخب، بل ما يترتب على فعل التصويت نفسه من فائدة مباشرة على الناخب، فالتصويت له فوائد تعبيرية أكثر منها آلية ؛ حيث يتضمن إحساسا عاطفيا يشعر به المواطن حينما يقوم بواجبه الوطني، إما نحو حزب معين، أو جماعة معينة ، أو اتجاه نفسه من خلال اختيار الحزب الذي ينسجم مع مبادئه ، ويحقق تطلعاته عبر برنامج سياسي قابل للتطبيق ، كما أن من أبرز العوامل التي تدفع جانبا كبيرا من الناخبين إلى المصالحة مع صناديق الاقتراع اختيارهم التصويت العقابي الذي يتحول إلى رد فعل يمارسه الناخب في علاقته مع من دبروا الشأن العام خلال الولاية التشريعية السابقة ، فقد تدفع بعض القرارات اللاشعبية التي أقدم عليها الحزب الحاكم جانبا كبيرا من الناخبين الذين دأبوا على مقاطعة الانتخابات إلى الذهاب بكثافة لقطع الطريق على الحزب الحاكم حتى لا يعود مرة أخرى إلى تقلد الشأن العام في إطار تصويت عقابي، وقد تكون العودة إلى صناديق الاقتراع من قبل طبقة اجتماعية شعرت بأنه تم الإجهاز على مكاسبها الاجتماعية أو الاقتصادية ، وهنا يتحول التصويت إلى نوع من محاسبة المحكومين للحاكمين على كيفية تدبيرهم للشأن العام ، وذلك بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وليس هناك من طريقة أخرى للمحاسبة سوى لجوء الناخب لصناديق الاقتراع لإعمال هذه المحاسبة. من جانب آخر، فإننا حينما نذهب إلى صناديق الاقتراع لا يمكننا تفادي الاختلافات الواضحة على الإقبال بين مختلف الأنواع من الناخبين، فبينما نجد لدى بعض الفئات حرصا على رغبتهم في التصويت، نجد جانبا آخر متردد من هذه العملية ، وآخرون عازفون عن هذه العملية لأسباب متعددة. إن هذه الاختلافات لا تكمن فقط في الخصائص الديمغرافية كالسن والدخل ومكان الإقامة...، بل أيضا ترتبط بمختلف المتغيرات المواكبة للعملية الانتخابية، وهنا يطرح سؤال النزاهة والشفافية وتكلفة التصويت من أبرز المحددات التي تفضي بالناخب إما إلى الذهاب أو مقاطعة صناديق الاقتراع. إن التصويت يرتبط بعوامل متعددة، ذلك أن ميل المواطن لأن يصوت هو تعبير مباشر ليس فقط عن وجود حافز للتصويت، بل مرتبط أيضا بمدى إحساسه بوجود انتخابات نزيهة وشفافة ، تلعب فيها السلطة المشرفة دورا مركزيا في إقرار حياد إيجابي صارم ، مثلما يستحضر الناخب تكاليف للتصويت نفسه ، فكلما سهلت الدولة على الناخب شروط الإدلاء بصوته كلما ازداد احتمال أن يصوت، وكلما كانت تكلفة التصويت عالية كابتعاد الناخب عن مقر التصويت أو اختيار توقيت غير مناسب له كلما قلت احتمالية التصويت... في المقابل فإن للناخب مسؤولية جسيمة في اختيار من سيمثله ، فينبغي اختيار من يقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ومن يكون قادرا على المساهمة في التشريع ومراقبة عمل الحكومة ، مثلما تكون له القدرة على نقل مطالب من انتخبوه ، قريبا من اهتماماتهم، وقادرا على حل مشاكلهم. إن يوم التصويت هو فرصة حقيقية للمواطن للتعبير عن انتظاراته الحقيقية ، وفي نفس الوقت محاسبة من أخلوا بالتزاماتهم اتجاهه، لكن مقاطعة صناديق الاقتراع تنعكس على المواطن والمجتمع على امتداد الولاية التشريعية برمتها ، لأنه إذا لم يشارك الناخب سيترك المجال للآخرين ليختاروا عوضا عنه ، والنتيجة هي صعود كائنات انتخابية تقرر بدلا عنه، وهذه هي كلفة السياسة ، فإذا لم تمارسها ستمارس عنك ، بدءا بأصغر القرارات ، مرورا بالمساس بمعيشك اليومي، وصولا إلى الحد من اختيارك لطبيعة المشروع المجتمعي الذي تتطلع إليه، فحينما يقاطع المواطن العملية الانتخابية فإنه يفتح المجال على مصراعيه لمحترفي الانتخابات الذين يحولون اللحظة الانتخابية إلى سوق انتخابية ترتفع فيها أسهم الرشوة والمحسوبية والزبونية والعلاقات المشبوهة وشراء الذمم... ، وهي تمظهرات لا يمكن محاربتها بالمقاطعة، بل بالانخراط الواعي والمسؤول لفضحها، أما الارتكان إلى منطق المقاطعة فإنه لا يخدم في الواقع سوى مفسدي الانتخابات، لأنه يترك لهم ولوحدهم الفضاء الانتخابي ليعيثوا فيه فسادا.