تفتخر الأجيال الماضية بذاكرة مدرسية غنية بصور بالأبيض والأسود، لكن طافحة بالسعادة والحيوية والانضباط ، على خلاف جيل “الظمأ” هذا الذي يحرق المراحل تباعا دون إدراك سليم لماهية الحياة والمدرسة والتربية. لقد اعتدنا في كل نقاش حول واقع التعليم ببلادنا، أن تتراشق الأطراف بالتهم وتحمل أوزار المسؤولية لجهات معينة، تكون تارة سياسة الوزارة الوصية وتارة هيأة التعليم بالميدان وتارة أخرى المنظومة التربوية برمتها، بما فيها مناهج التعليم غير المنسجمة مع الأهداف التربوية المنشودة راهنا. إلا أنه بالرغم من تباعد الرؤى وتنافر وجهات النظر لدى المهتمين بالشأن التعليمي والتربوي، فإنه يتفق الجميع على بعض الثوابت التي تفرض ذاتها بقوة التجربة وسلطة النتائج ، أهمها كون مدرسة الأمس نجحت ميدانيا في مهمة التكوين رغم شح الإمكانيات وتواضع المناهج وعسر التواصل، وكون مدرسة اليوم باتت مخيبة للآمال رغم التوفر النسبي للبنى التحتية وتنوع المقاربات المنهجية وتعدد الوسائط البيداغوجية وكفاءة طاقم التدريس. فهناك من يفسر هذه المفارقة الصاخبة بعوامل خارجية متصلة بمحيط المتمدرسين ، وأخرى داخلية مرتبطة بتراجع نسبة الاهتمام والانضباط لدى المكونين وبتقليص مساحة الصلاحيات المنوطة بهم أو بالفصل بين التربية والتعليم- على الأقل واقعيا- والمفروض فيهما التلازم لضمان استمرارية التوعية والتحسيس وتخليق الممارسة التربوية وإعادة الاعتبار للمعلم الذي سحبت منه بطاقة الثقة ، إذ لا يصح أن تتم العملية التربوية بشكل سليم دون أن يرى التلميذ في مدرسه القدوة الحسنة والنموذج الأمثل الجدير بالتقدير والاحترام، ولا يمكن للتلميذ الانصياع والامتثال لمعلمه إن لم ير فيه “رسولا” من خلال أفعاله وأقواله وحسن تقديره للمسؤولية الكاملة أمام ضميره، المتوقع أن يحتم عليه ليس القيام بالواجب الوظيفي فحسب ، بل أداء الرسالة الإنسانية النبيلة غير الخاضعة لسلطة التنقيط والترقية والتحفيز المادي. لا جدال في أن العنصر البشري أساسي في المعادلة التربوية، وأنه يتعين الحرص على دراسة المطالب المشروعة للشغيلة التعليمية وتوفير لها الأجواء المناسبة لمزاولة وظيفتها، لكن لا يمكن لأحد الادعاء أن وضعية الجيل السابق كانت الأفضل. ولا داعي لاستعراض صور المقارنة، بل تكفي الإشارة إلى أن شخصية المعلم كانت تضاهي كبير القبيلة أو قائد القرية في” كاريزميته” ونفوذه داخل الفصل وخارجه، مما كان يعطي لنا الانطباع –نحن الأطفال آنذاك- أن معلمنا ليس إنسانا عاديا بل مخلوقا ملائكيا قادرا على الإتيان بما يشبه المعجزات، فكنا نشعر بالاستغراب حين نلمح المعلم يتسوق أو يأكل” ساندويتشا ” أو يدخن سيجارة في مقهى أو يضحك ضحكا مشبوها أو يلبس لباسا غير بذلته المعهودة . كنا نحاول تقليده في كل سلوكا ته وحركاته وتصرفاته من تسريحة شعره وطريقة لباسه وتنظيمه لمكتبه ومحفظته وسبورة التوزيع السنوي للحصص الدراسية... كان يقوم بكل مافي وسعه حتى لا يظهر لنا في شكل غير لائق. أما اليوم فقد تغيرت الأدوار نسبيا، فلم يعد المعلم كما ألفناه ولا التلميذ كما كناه، لقد صارت المدرسة شبيهة بخشبة مسرح يحاول كل طرف أداء دوره دون الاكتراث بالآخر، ربما يرجع ذلك إلى كون العملية التقويمية للكفايات و الأداء المهني صارت تقتصر على الحضور فقط وليس كيفية الحضور ومرد وديته، ولأن العلاقة التي تجمع المعلم بالتلميذ –وبالأحرى والديه- تطبعها قطيعة لا تخدم الوظيفة البيداغوجية للمدرسة . فيلاحظ في أغلب الحالات أن أواصر التجاوب الاجتماعي منعدمة بينهما ، إلى حد أن الأستاذ ينادي تلميذه برقمه ويتجاهل وضعه النفسي والاجتماعي والعائلي، مما يزيد من تعميق هذا التصدع اللاإرادي ، فتجد أن التلميذ لا يعرف اسم معلمه حتى، وبالأحرى أن يقاسمه همومه لتبادل الثقة والاعتبار اللازمين في العملية التربوية. فبالأمس القريب كان المدرس يرافق التلميذ في مراحل تكوينه ونشأته وتربيته وانفتاحه حتى خارج القسم، فكان يسهر على دعمه بالتعليمات والارشادات والنصائح كأنه يهيئه لمعركة أو مهمة قتالية ، فتجده يجتهد لتمكينه من السلاح المناسب لمواجهة الاختبارات المقبلة وتحديات الحياة. بالفعل إن الشحنات المعرفية التي اكتسبناها في الطور الابتدائي كانت الأساس وحجر الزاوية خلال المرحلة الإعدادية والثانوية، بل إن بعض أسس التربية الأولى شكلت قاعدة صلبة لمرحلة الجامعة . وكمثال على هذا الترابط هو اعتراف الجيل القديم بإيجابيات “مدرستي الحلوة” والتحسر على مآل التعليم الراهن، الذي تشوبه عدة نواقص لا يمكن للأسف معالجتها بالترقية وتحسين الوضعية المادية فقط ، وإنما يجب مراعاة جوانب أخرى مع إشراك كل مكونات الحقل التربوي في عملية التشخيص ، دون تهويل المسألة إلى حد استيراد النماذخ التعليمية من الصين أو اليابان ، ولا تهوينها إلى مستوى الارتجال وتجريب بعض السياسات العقيمة في مختبر التعليم الذي لم يعد يحتمل التضحية بأجيال أخرى. ليس بالضرورة أن تكون من هيئة المدرسين وأن تكون ملما بمطبخ قطاع التعليم من الداخل لكي تتضح لك عوراته و نواقصه ، فكل المؤشرات تشير إلى أن تعليمنا يمر بأزمة مبهمة ونفق معتم لا نعرف معه إن كنا على مشارف ابتلاع آخر السلبيات، أم نحن وسط بؤرة من المتاهات المرشحة للتفاقم. حيث ينعت البعض نظام تعليمنا الحالي بكونه عبارة عن سلسلة من العطل والاجتماعات والتراخيص والإضرابات التي تتخللها بعض الحصص الدراسية غير المتواصلة. والنتيجة المباشرة لذلك هو تسجيل تدني ملحوظ للمستوى التعليمي بالثانويات والكليات والمعاهد ، وهذا بشهادة رجال التعليم أنفسهم. مما يجعل أولياء التلاميذ يستنجدون ب ” نظام” دروس الدعم الخصوصية أو الالتجاء- مكرهين أحيانا- إلى التعليم الخاص، وهي حلول غير ميسرة للجميع ماديا وغير مقبولة منطقيا، مادامت المدارس الخاصة –وهي تجارية- تشتغل بهيئة -متعاقد معها- قد تكون اقل مستوى وتجربة من نظيرتها في القطاع العام ،اللهم إذا استثنينا بعض الحرص الإضافي عند الخواص بحكم المنافسة السائدة أو بحكم إخضاع أدائهم للتقويم والتتبع والمحاسبة من طرف أولياء التلاميذ المؤدين للفواتير الثقيلة. إن هذا المقال مجرد رأي شخصي وليس بدراسة مستفيضة لواقع التعليم ، و يبقى المراد منه- على الأقل – هو الاعتراف بالجميل لصفوة من رجال التعليم الذين حلوا بالمداشر والقرى النائية حاملين مشعل العلم وقبس التربية ، فاستطاعوا التوفيق بين مهام المعلم والمربي في ظل اكراهات طبيعية محتومة وشروط تواصلية خاصة وظروف مادية قاسية ، ومع ذلك توفقوا في طبع عقولنا ببصمات لا تمحى واستطاعوا ختم قلوبنا بأحاسيس لا تنسى أبدا . عمر الصديقي