السوق البراني غرب الحيز العتيق والأعلى من مدينتك العزيزة يمنحك نغما ملتبسا لكنه يشي بالكثير الغامض حول الناس ..تقصد عموم الناس وليس من يتفيقه ويتمعلم عليهم ويظن نفسه سابحا في يخته المخملي الخاص المخوصص ، وعبرسحر حافظة أوراقه وبنطلونه شبه البوهيمي وهو في الحقيقة لا يقيم إلا منولوجا داخليا عتيقا مع هواجسه وعقده المرضية ، ولست ( أنت ) ضامنا أن لا تكون واحدا من هؤلاء الذين يتحذلقون في اللغة والمصطلحات والكلمات الكبيرة والمفاهيم الغليظة الممفهمة التي لا تساوي بعر طفل صغير، ويؤدون أدوارهم المزيفة في صالونات أكثر زيفا ، وتستعيذ بالله العلي العظيم لتلهج إلى السماء أن تحشرك مع البسطاء …. شيء ما ينطق خلال ذرات التراب المتطاير وركام الخضروات والفواكه والتوابل والعطوروالعربات والنداءات والسحنات المتعبة التي هدها صبر السنين والحساب ونذالة الوقت…شيء غامض لا تستطيع فك لغزه أو تسميته تحت سفح تومزيت …قبيل لقاء جمعنا بالمبدع أحمد بوزفور في رحاب تازة البهية بناسها وجمالها وبؤسها ، سألته عن الحال في العاصمة الاقتصادية للمملكة أجابني السي أحمد بتلقائيته المعهودة : ما هو الشارع ؟ …وهم كبير… العمارات من أكبر حماقات البشر …ضحكت وضحكنا ، وكنت متيقنا من أن المبدع الحقيقي هو المتلفع ببساطته ، لا أقصد بساطة الأسلوب أو التناول الفني ، بل حضور الشخص ذاته ….حواره مع الآخر كيفما كان نوعه .. تناغمه مع الناس ..عموم الناس… ببساطة أن يكون هو هو …ومؤخرا سجل السي أحمد إعجابه بمرور بسيط للعبد الضعيف في الموقع الاجتماعي حينما هاجني الزمان والمكان أمام صورة فاتنة نشرها أحد الأصدقاء لجماعة " باب مرزوقة " القروية المحسوبة على " بلاد تازا " بتعبير مؤرخي العصر الوسيط ، ليس سحر الصورة وتقنيتها ما يجذب بالضبط بل أشياء الصورة وما تحيل عليها : السوق الأسبوعي وخلق الله يتبضع ويمارس همه اليومي …البساط الأخضر الممتد حتى قعر الوادي يخاطبك من هجير الزمن بأنك ومن عند عودته من السوق البراني حاملا ما تيسر من خضر الأسبوع وفواكهه لم يدر كيف أنه لم ينس فتى القاص يحيى حقي في " قنديل أم هاشم " وهو يناجي أطياف الناس في حيه " أنتم مني وأنا منكم …لقد جار عليكم الزمان وكلما جار واستبد كان إعزازي بكم أقوى وأشد "…. يشبهك من الكائنات ….صغير..صغير جدا وربما …لاشيء… وعلى بعد أمتار قليلة إلى الشمال ، هناك الخط السككي الشهيرالرابط بين فاس ووجدة عبر تازة ( غير المكهرب طبعا ، بل تذرعه قاطرات قيل إنها من صنع أمريكي تتحمل ثقل القطار بعرباته وبشره ….ونتفكه منها بنعت " التران بوخنفورة اللي كايجي دايما روتار/ متأخرا على غرار " بوسنطيحة " وهو من صنع فرنسي يقطر القوافل نحو الناضوروكلاهما تنتهي مهمتهما ذهابا أو غربا بمحطة فاس لتتمها القاطرات الكهربائية ) ولا تنس العناق البرزخي بين الريف والأطلس المتوسط إذ تتقارب المسافة هنا على نحو عجيب لا يفصل بينهما إلا نهر ايناون أي نعم ، هنا بؤرة التوتر بتعبير كمال أبي ديب أو إن شئت محور ومركز ما أطلق عليه جغرافيا وتاريخيا " ممر تازة " ولطالما تمنينا أن لا يتعطل القطار كثيرا وأن يحث الخطى في نفق الطواهرالذي خلفه لنا الإفرنج المستعمرون ( الأكبر على صعيد شمال افريقيا ) فالعتمة منفرة بطبعها…والظلمة ترعب الصغار و معهم الكبار أحيانا …تعود إلى بدءك ، ليس بالضرورة أن يتوفر المرء على كارتون ما ( والفاهم يفهم ) كي يبدع ويصبح خلاقا لكنها الواجهة ( الفيترينة ) وما أدراك ما الواجهة وقد أشار الصديق أحمد شراك أستاذ علم الاجتماع بجامعة فاس مؤخرا في ندوة فكرية بالحسيمة أن الشهادات لا تخلق المجتمع القارئ ولا تفرز المبدعين ولا المنتجين ( مع الاحترام لحامليها طبعا ) كما إن واحدا من أيها الناس يمكن أن تجد لديه ما يشفي الغليل من حكم الدنيا ومقالب البشرومتاهات الحياة ، وقد تلتقي أيضا من لا يفرق بين خطبة الملك ونشرة الأخبار ولله في خلقه شؤون ، وقديما سأل أحدهم آخر: ما نراك تذم بشرا ؟ فأجاب " لست راضيا على نفسي حتى أذم أحدا من الناس "…صحيح ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان لكن الوحلة الكبيرة في هذا البلد السعيد أن الكائن إذا تحول من البيولوجيا إلى الكلمة عليه أن ينتظر نفاق المنافقين وشماتة الشامتين وحقد الحاقدين …على ماذا ؟ على الزلط ربما ، وقد تؤدي به كلمة أو صورة في غير سياقها إلى النيابة العامة والتحقيقات والجرجرة أمام المحاكم في إطار تكييف فصول المتابعة وربما السجن لا قدر الله أو تجويع أبنائك في أحسن الأحوال وأكمل من عندك … قد يفهم البعض هذا الهيام بالبساطة أنه تغزل ما بالفقرودفاع ضمني عنه وهذا غير صحيح بالطبع، فما من أحد ضد الرفع من المستوى المعيش للناس ، سوى فئات قليلة من المغاربة آخر هم لديهم هو شيء اسمه المصلحة العامة أو روح المواطنة …ومع الفقرنعوذ بالله من الجهل والتجهيل وبديهي أن الشعب البسيط ليس مسؤولا عن وضعه حين لم تعد الشهادات نفسها معيارا للارتقاء الاجتماعي وحتى الثقافي ، وصحيح أن الأغلبية الساحقة منا لا تبتغي من هذه الدنيا سوى الستروماذا يعني ياترى هذا " الستر" العجيب ؟ هنا يقف حمار الشيخ في العقبة…. هل هو الصحة والعافية وضوء البصر؟ أم النجاة من شر الخلق ؟ أم التخلص من حلقات الديون المفرغة ؟ أم احتساب الراتب الشهري على أيامه المعلومة ؟ أم …أم … أجدك ياصاحبي عاجزا عن فهم أي شيء في أي شيء سوى أن القوم قد تحولوا أو حولوا ( للمجهول ) إلى كائنات بيولوجية شعارها الظاهر والباطن " سبق ما ترتاح " " كل واشرب وبلع فمك " " سرف عليهم لدواير الزمان " الله ينجيك من ثلاثة : النار والمخزن والبحر .." والبلاد التي لم يعد وضعها يسر عدوا أو صديقا ؟ والفواتيرالتي تصفعنا كل شهر ؟ وغلاء البنزين والخبز والبوطا ؟ هذه أشياء لها أصحابها ( عندها مواليها ) وتعود إلى السوق البراني وتفهم بعض الذي استعصى عليك فهمه : السحنات الكئيبة ، المشاجرات التافهة ، المرأة التي صدمتها عربة خضرعن غير قصد فشدت بخناق الفتى حتى تدخل الناس لإنقاذه ، والشحاذ الذي يمسك بك و يطالبك بدريهمات / حق مشروع …والآخر البعيد والذي أعطى الناس ظهره و مد احد أعضائه الحساسة ببرود وهدوء ليقضي الحاجة الملحة أمام السور الأثري ….ويخاطبك نداء داخلي : وأنت هل هبطت من المريخ ؟…فقط حظوظ وأزمنة وظروف وشهادة لم تك قد انتهت صلاحيتها بعد …وما قيمة هذا الغثاء وأفضل كتاب في البلد لا يغطي نفقة طباعته ؟ وأفضل جريدة ورقية لا تبيع مقدار ما يساوي مقاطعة حضرية بالدار البيضاء …وحتى من ابتلوا بالشبكة لا يقرؤون ….إلا من رحم ربك ، كيف تتحول إلى كائن بيولوجي دون مضادات حيوية ؟…وكيف تستحيل البساطة إلى حلم جميل..؟.( قال له :" كحز" قالو: " ظهر الحمار قصير" )… * كاتب / فاعل مدني