جميلة هي أغاني المطرب المبدع سامي يوسف، ومؤثرة، تبعث في النفس الشعور بالاطمئنان والراحة.. الكلمات بسيطة سهلة مفهومة، واللحن هادئ رائع يتناغم مع وقع الكلمات ومعانيها، والصوت الرخيم يمزج بين جمال الكلمة وهدوء اللحن فينتج فنا يطرب الأذن ويشجيها. "" "مناجاة" التي يتحدث فيها عن الإنسان الذي يستيقظ ليلا ليربط نفسه بالسماء، ويدعو ربه في سكون الليل حين تنام الكائنات، تثير في النفس الرهبة والحب في الوقت نفسه، لهذا الخالق العظيم، الذي لا يجد الإنسان غيره وسط ظلمة الليل الحالك للجوء إليه والتضرع إلى جلاله خيفة وطمعا في رحمته التي وسعت كل شيء.. و"المعلم" التي يشرح فيها بأسلوب بسيط يفهمه الصغار والكبار كيف عاش نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، والتي تجعل المرء يرحل بمخيلته ألفا وأربعمائة عام إلى الوراء، فيتابع خطوات النبي وهو يكافح ويعاني مشقات عنت الجاحدين حتى يصل هذا الدين إلى الجميع ويرتفع لواؤه بين العالمين.. بينما تجبر أغنية "الأم" سامعيها على ذرف دموع قد تقل وقد تكثر بحسب الظروف، كيف لا وهي تتحدث بكلمات عذبة رائعة ولحن أروع وصوت هادئ عن السيدة التي تحملتنا في صغرنا وكبرنا على حد سواء، فلا تكاد ترتاح من متاعب الأبناء حتى تستقبل أخرى وابتسامة الرضى لا تغادر شفتيها، وكل أملها أن ترى أبناءها وبناتها أناسا ناجحين فائزين دوما... وهذا مجرد غيض من فيض، ويكفي الاستماع لكل أغاني هذا الفنان المبدع للتأكد من أن للفن الجميل الراقي رهبة لا ينكرها إلا ذو سمع ثقيل.. وإذا كان سامي يوسف قد اختط لنفسه هذا الأسلوب المتميز، فإن مبدعا متمردا آخر ظهر في الجزائر قبل حوالي عقدين من الزمن، وهو "باعزيز"، الذي نجح في إيصال "فنه الثائر" عبر قيثارته ببساطته وجماليته إلى أبناء الجزائر وأبناء المنطقة العربية والجاليات العربية في فرنسا وكندا بشكل خاص.. باعزيز أرخ بأغانيه الطروبة لتاريخ الجزائر الحديث منذ الانفتاح الذي ظهر مع الشاذلي بنجديد، ثم دخول الجزائر دوامة العشرية الحمراء الإرهابية التي اختلط فيها الحابل بالنابل وكان الشعب الجزائري البسيط هو الضحية.. لتنتهي بعد ذلك البلاد ومعها باعزيز بعهد بوتفليقة، وظهور طبقة مستفيدين في العسكر والأحزاب ورجال السلطة والإعلام، فلم يجد غير قيثارته لإعلان التمرد والثورة من جديد.. ولم ينس الفنان الجزائري معاناة أبناء جلدته من الجاليات المسلمة بفرنسا والدول الأوروبية، وأهدى لهم بعض أشهر أغانيه.. وبين "ديموكراسي"، و"أنا اليوم جو مونفو، كلشي يكذب كلشي فو، قول لي وين لافيرتي"، و"يا الدزاير يا الهجالة، ما عندك زهر مع الرجالة، اللي يجي يدير فيك حالة، آه يا بلادي"، و"كلشي ولاد الحرام، بصح بالبورسونتاج"، و"ما ليبرتي"، يتوزع عشق باعزيز الواضح لبلده، ولقضايا الجاليات المسلمة بالخارج، والعنصرية المقيتة التي ما تلبث تزداد وتيرتها يوما عن يوما مهددة أمن واستقرار تلك الجاليات.. أما في مصر، فحكاية الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم أشهر من نار على علم، وما يزال المرء يستمتع ب"شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الووتر غيت، عملو لك قيمة وسيمة سلاطين الفول والزيت"، و"فاليري جيسكار ديستان، والست بتاعو كمان، حيجيب الديب من ديلو، ويشبع كل جيعان"، والتي أصدرها بمناسبة زيارة الرئيس الفرنسي الأسبق إلى القاهرة والتي صورها إعلام أنور السادات على أنها الزيارة التي ستقلب كل شيء في مصر إلى الأحسن.. وعلى ذكر السادات، فلقد كان حظه عاثرا مع الثنائي المبدع، وخصصا له عددا كبيرا من إنتاجهما الفني، من بينه مثلا "إحنا معاك رئيسنا يا أنور، إحنا معاك تخرب تعمر"... وحينما كنت أستمع كباقي المواطنين لتصريح أحمد حرزني خلال برنامج حوار وقوله بأنه "يخجل من الصحافة المغربية"، فقط لأنها تحدثت عن خبر خطإ وقع في الأوراق الرسمية لمؤتمر في الدوحة فتحدثوا عن "الجمهورية المغربية" عوض "المملكة المغربية"، تذكرت تاريخ هذا "المناضل" وغيره ممن تصدق فيهم أغنية إمام ونجم ".. يا بتوع نضال آخر زمن في العوامات"، أو "يعيش المثقف على مقهى ريش، محفلظ مزفلط كثير الكلام، عديم الممارسة عدو الزحام"... وحول موضوع نهب المال العام الذي تأسست له جمعيات في بلدنا والبلدان العربية، تبقى رائعة "بقرة حاحة النواحة" خير تعبير عن هذا الموضوع الشائك، فعلى بساطة كلماتها ولحنها، خلدت اسم المبدعين في قلوب الشعوب، وما تزال تسمع الصغار والكبار والمثقفين والأميين يترنمون بهذه الأغنية الجميلة "ناح النواح والنواحة، على بقرة حاحا النطاحة، والبقرة حلوب، حاحا، تحلب قنطار، حاحا، لكن مسلوب، حاحا، من أهل الدار...". ومن المستحيل الحديث عن الفن الجميل الثائر في فلسطين أو لبنان في مقال صغير، فهو يستلزم صفحات وصفحات... وعندنا في المغرب، كانت مدرسة "الغيوان" وجيل جيلالة ولمشاهب وباقي المجموعات أقرب تعبير عن الفن الشعبي الوطني، وملأت شهرت هذه المدرسة الآفاق عربيا ودوليا، لأن الكلمة كانت صادقة وبسيطة ومرتبطة بأفراح وأتراح المواطن المغربي البسيط.. فمن "مهمومة"، و"الصينية"، إلى "لله يا سفينة فين غادية بينا"، و"حب الرمان" و"رسامي"، و"عودي الأزرق" ارتبطت هذه المدرسة بالشعب وعبرت عنه وعن آماله وآلامه... وهكذا كانت أغاني "الشيوخ" المجموعات الشعبية شرق المغرب بوسائلها التقليدية الجميلة من "القصبة" و"الكلال" تصدح بما يعتلج داخل نفوس أهل الشرق، فأنتج المرحوم "اليونسي" رائعته "الباسبور الأخضر" التي عبرت بشكل واضح ومباشر عن فترة بدء انتشار جوازات السفر وبدء هجرة الجيل الأول الذي كان أغلبه أميا إلى فرنسا وباقي الديار الأوروبية بحثا عن عمل مريح.... وبالرغم من أن بلادنا تزخر بالمواضيع التي لو وجدت شاعرا مرهفا أو كاتب كلمات ملتصق بهموم الشعب وملحن قادر على النزول من برجه العاجي واستيعاب الكلمات ومعانيها لتواصلت مدرسة "الغيوان" و"المشيخة" بشكل متجدد، فإن الموجود حاليا في الساحة وبكل صراحة أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه فن طبقة محدودة ترى في سروال "الجينز" و"البودي" (الذي بالمناسبة يعادل راتب موظف بكامله) الشكل الجديد للأغنية التي تعبر عن الشعب! ... ودون الدخول في تفاصيل ما نسمع ونشاهد وتتكفل القناة الأولى والثانية بتذكيرنا به كلما نسيناه أو نحاول أن ننساه من فن "أنا بحر عليا وانتيا لا"، "الزين زينة والعقلية خاسرة"، و"سبابي الكاس"، و"خليوني نشطح على كيتو"، فيمكن أن نقول إننا نعيش فترة "ماما طيني ماما طيني، الليلة بايتين في الرميني، الليلة بايتين في الرميني حبيبتي باغا تسطيني".. وهي أغنية تعود لمغن مغربي كان سبب شهرته حمار! .. وأخشى ما أخشاه أن نكون فعلا نعيش زمن "الماما طيني".. [email protected] * صحافي بشبكة إسلام أونلاين.نت