” لم تخضع لنا أية مدينة ولا أية قبيلة إلا بعد مقاومة عنيدة وبعض القبائل لم تستسلم إلا حينما استنفذت كل وسائل المقاومة أو فقدت آخر رجالها “ هذا الكلام لم يأت على لسان أحد رجالات الحركة الوطنية أو المقاومة المسلحة بل هو اعتراف صريح من الجنرال غيوم Guillaume أحد دهاقنة الحماية الفرنسية ومن أشهر المقيمين العامين بالمغرب إقرارا منه برفض الشعب المغربي للاستعمار الأجنبي ثم مدى عنف المقاومة التي جوبه بها . إذا كان المخزن قد ارتضى الاستسلام نهائيا بتوقيع معاهدة الحماية في 30 مارس 1912 بين السلطان عبد الحفيظ وممثل فرنسا السفير رينيو Regnault، فان الشعب المغربي لم يستسلم ، حيث استمرت المقاومة المسلحة رغم الاختلال في موازين القوى إلى سنة 1933 في السهول والهضاب والجبال ثم الصحراء لتنطلق المقاومة السياسية بعد ذلك وتتوجها بدورها المقاومة المسلحة الثانية التي اندلعت عقب نفي الملك الوطني محمد الخامس عن عرشه (أعمال الفداء ثم انطلاق عمليات جيش التحرير في الشمال وسيأتي الحديث عنها لاحقا ) . بعد أن احتلت الجيوش الفرنسية وجدة والدار البيضاء والعاصمة فاس ( 1911) و مناطق الشاوية والمغرب الشرقي وتوغلت في السهول ، اندلعت في نفس الوقت مقاومة الأطلس المتوسط بقيادة البطل الشهيد موحا وحمو الزياني ، احتل الجيش الفرنسي جرسيف سنة 1912 واعتبارا من 1913 بدأت القوات الفرنسية زحفها شرقا وغربا في وقت واحد وفق خطة الكماشة باتجاه ممر تازة الاستراتيجي الرابط بين شرق البلاد وغربها ومن ثمة بين الجزائر الفرنسية والأمبراطورية الشريفة ، وذلك بعد القضاء على ثورة القبائل التي حاصرت فاس بزعامة بني مطيرومشاركة الشراردة والحياينة وبني وراين وغياثة وقد أكد الجنرال ليوطي آنذاك على الأهمية العسكرية لتازة والأحواز بقوله ” تازة أولا “ Taza d'abord ثم اعترافه ثانيا بأن معركة تازة كانت من أخطر المعارك التي خاضتها فرنسا بالمغرب ( عبد الحق لمريني - اسية بنعدادة - فوانو- مذكرات ليوطي وآخرون ) وفي هذا الصدد يقول أغوستان برنارAugustin Bernard :” تكمن نقطة قوتنا الأساس ومنطقة دعمنا الحاسم في تازة ، سنلقى بدون شك أقل الصعوبات في باقي البلاد ، ما دام هذا المسلك لم يقع بين أيدي قواتنا ، فان وحدة امبراطوريتنا الإفريقية ستظل هشة في نفس الوقت الذي يهددنا التمرد الخطيرالموجه ضدنا ( المقاومة المسلحة ) تبعا للأهمية الاستراتيجية التي يكتسيها هذا الموقع …لنفتح إذن ممر تازة وفي أسرع وقت ممكن وعبره الخط السككي نحو الرباط العاصمة الإدارية للحماية قصد التغلب على الوضع الحالي (الصعب ) بالمغرب “( الحوليات الجغرافية سنة 1913 ص 3) اجتمع وجوه وشيوخ وزعماء قبائل التسول وغياثة والبرانس بامسون لدراسة سبل المقاومة والتصدي للجيش الغازي الذي كان يخوض ما سمي بحرب التهدئة ( guerre de pacification ) باسم السلطان م يوسف وهي القصبة ( أي امسون ) التي احتلتها القوات الفرنسية في 11ماي 1913 وسرعان ما جوبهت هذه القوات بمقاومة عنيفة من طرف قبائل غياثة وولاد بوريمة ثم بني وراين بما تيسر لديهم من عتاد بسيط وعدة شبه بدائية ممتلئين فقط بروح الجهاد والدفاع عن الوطن والدين والحمى مما أجبر الفرنسيين على قصف قصبة ” عين الأربعاء ” بواسطة المدفعية الشيء الذي روع السكان الآمنين ففروا زرافات ووحدانا نحو تازة ، وفي المقابل تمكن الجيش الفرنسي المدعوم من طرف مجندين أطلق عليهم ” الكوم المغاربة ” (؟؟؟) من احتلال تيسة إلى الغرب ثم منطقة ازرارقة وبعد تجميع القوات وانجاز الاستعدادات الكافية في متم أبريل 1914 أصدر الجنرال ليوطي ( قبل أن يرقى إلى ماريشال ) أمره للوحدات الغازية بالتحرك نحو تازة في ذات الوقت ، أي وحدات المغرب الشرقي بقيادة الجنرال بومغارطنBoumgarten مع الكوم المجندين من جهة ووحدات المغرب الغربي بقيادة الجنرال غوروGourraud القادمة من موقع تيسة غربا من جهة أخرى وبهذه الخطة المحكمة وضعت المدينة بين فكي كماشة لتطبق قوات بومغارطن عليها ليلة 10ماي غير أن اللقاء الشهير jonction بين القوتين (القوات القادمة من الشرق والأخرى من الغرب ، الأخيرة عدت لوحدها 6000 جنديا وضابطا مجهزين بمختلف أنواع الأسلحة بما في ذلك المدفعية مع تعزيزات من الطيران )… هذا اللقاء بين القوتين تم بباب حمامة ( مكناسة التحتية ) يوم 16 ماي ثم دخلت القوات الفرنسية إلى تازة دخولا رسميا زوال يوم 17 ماي 1914 بقيادة ليوطي الذي حرص على فتح المدينة شخصيا صحبة الجنرالين المذكورين ، وكان قد وصف غياثة ب” عدونا اللدود الذي يبسط سيطرته على الضفة اليسرى لنهر ايناون وعلى فج الطواهر بالضفة اليمنى ” ( نفس المراجع السابقة ) . حسب الصحافة الفرنسية الصادرة خلال هذه الفترة فقد احتفلت فرنسا رسميا بهذا الحدث أي احتلال مدينة تازة لأنه أتاح لقواتها وصل الجزائر الفرنسية بالامبراطورية الشريفة ومكن لأول مرة من توحيد ما سموه ب ” شمال إفريقيا الفرنسية ” ويذكر أن المدينة كانت شبه خربة بفعل ما عرفته من أحداث وفتن ، قبل الاحتلال الفرنسي ، كما أن بعض الأعيان استقبلوا الغزاة بالطبل والغيطة احتفاء بهم (….) وعلى رأس هؤلاء الباشا والقايد ويعترف فوانوأن عملية احتلال تازةالمدينة لوحدها كلفت القوات الاستعمارية 17 جنديا وضابطا بين قتيل وجريح فيما بقيت العديد من المناطق حول المدينة منفلتة عن قوات الاحتلال ولم تستطع هذه القوات السيطرة على موقع ” بوكربة ” جنوبتازة مثلا إلا بعد ثلاث سنوات ( قطعت غياثة المياه من منابع الموقع عن المدينة كشكل من أشكال المقاومة….) أي 1917 ومن جهتها واجهت قوات الغرب بقيادة غورو قبل الدخول إلى تازة مقاومة مستميتة حيث اعترف الضابط فوانو بعنف المعركة ما بين 10 و13 ماي 1914 وسقوط47 قتيلا وجريحا ( بينهم ضابطان ) في صفوف الفرنسيين عند مواجهة قبيلة التسول ….أما على واجهة البرانس فسقط من الفرنسيين 39 جنديا وضابطا بين قتيل وجريح مقابل ما يزيد عن 200 شهيد في صفوف القبيلتين المذكورتين وكانت المقاومة أيضا عنيفة عند محور ” متركات ” شرق تازة بحيث اضطرت القوات الفرنسية إلى استعمال المدفعية مرة أخرى وقصف قرية ” جبلة ” كما تجددت المعارك اثر الهجومات التي قامت بها قبائل غياثة والتسول والبرانس وصنهاجة أيام 24 إلى 27 ماي من نفس السنة وخلال الشهر الموالي أي يونيو استمرت المناوشات والاشتباكات ومعها مقاومة قبائل الأحواز ففي يوم 20 يونيو وقعت معركة عنيفة بمنطقة ” الطواهر” اعترف بعنفها الضابط فوانو غير أنه لم يحص خسائر الجيش الفرنسي التي يبدو أنها كانت كبيرة ومعتبرة . الواقع أن تقديم ملاحم المقاومة الشعبية التلقائية في مواجهة التغلغل الاستعماري وتقتيل الشعب المجاهد المدافع عن أرضه ووطنه وحرق المحاصيل وتجويع القبائل واستخدام الطيران والمدفعية وكل الأساليب الوحشية من طرف الجيش الغازي إضافة إلى الأنشطة التجسسية ، كل ذلك يمكن أن يستغرق بحوثا أكاديمية بكاملها دون مبالغة ولنختصر في القول بأن سياسة ليوطي ذهبت في اتجاه استعراض القوة من اجل عدم استخدامها خاصة بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى ، وسحب العديد من قطاعات الجيش الفرنسي إلى الجبهة الأوربية وفي المقابل استغلت القبائل هذا الوضع من اجل إعادة تنظيم نفسها وتجميع قواها لاستئناف المقاومة فكان من أهم أطوارها بحوض ايناون وممر تازة مقاومة عبد المالك الجزائري الذي جند 1600مجاهد واستقر بقبيلة غياثة حيث شن حرب عصابات متقطعة ضد الجيش الفرنسي وحسب باحثين مغاربة فقد نسق مع حركة المقاومة بقيادة البطل موحا وحمو الذي التفت حوله قبائل زمور وزيان برسم الجهاد المقدس ، كما تلقى دعما عسكريا من ألمانيا عدوة فرنسا خلال الحرب لكن فرنسا تمكنت من القضاء على حركته سنة 1918 مباشرة بعد ما هزمت ألمانيا في الحرب العالمية الأولى ، كما قاد الشنقيطي منذ 1913 مقاومة عنيفة ضد الفرنسيين وسط قبائل غياثة وبني وراين والبرانس ، ولقيت مقاومته دعما من الزاوية الدرقاوية ، ويذكر نفس الباحثين أن حملة كبيرة قادها العقيد بيلو Bulleux ضد قبيلة البرانس باءت بالفشل حيث استمرت فروع القبيلة في مهاجمتها لمراكز وتجمعات القوات الفرنسية وقوافل تموينها ، وعلى اثر معركة دموية بسيدي أحمد زروق يوم 5 ماي 1915 التجأ المجاهدون البرانس إلى الجبال حيث استمروا في مقاومتهم وبعدما تعرضت محاصيلهم الزراعية للإحراق بشكل همجي اضطرت القبيلة إلى طلب الأمان ، لكن فروعا أخرى واصلت طريق الجهاد دون كلل أو تعب وكبدت الفرنسيين المزيد من الخسائر كما انضم البرانس إلى مقاومة عبد المالك الجزائري وفي أجواء وحدة المصير هذه جمع الكفاح الوطني كلا من رجال التسول والبرانس مرة أخرى حيث اضطر الجيش الفرنسي إلى استخدام المدفعية من أجل القضاء على مقاومتهما وأخيرا سلمت التسول سلاحها وتلتها قبيلة البرانس في باب المروج بتاريخ 20 غشت 1926 بسبب استنفاذ وسائل المقاومة والاختلال الفظيع في موازين القوى…. وقبيل هذا التاريخ بقليل استسلمت غياثة الشرقية وتلتها غياثة الغربية بعد مقاومة يائسة بواد ايناون وتم تجريد الجميع من السلاح …. كما فوتت أراضيهما مع أراضي بني وراين إلى المعمرين الفرنسيين ورجال الكوم ورموز الإقطاع المغاربة ( الخونة )… في نفس التاريخ أي 1926سلمت قبائل بني وراين السلاح بعد مقاومة مجيدة كان من أهم أطوارها معركة بوهدلي التي استمرت يومين في ماي 1923 حشدت فيها فرنسا كل أنواع الأسلحة وخيرة القوات التي تكبدت خسائر فادحة في الرجال والعتاد …وكان أخشى ما تخشاه فرنسا أن يقع التنسيق المحكم بين القبائل الثائرة بأحواز تازة وحوض ايناون والأطلس من جهة وثورة الريف التحررية بقيادة الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي من جهة أخرى ، خاصة بعد انضمام قبائل البرانس إلى الثورة الريفية التي حققت العديد من الانتصارات على الفرنسيين في أبريل 1925قبل أن يتم التحالف الاستعماري مع اسبانيا ….الثورة الريفية التي أطاحت أيضا بالماريشال ليوطي ليعوض بالماريشال بيتان على رأس ما يزيد عن 200000جندي وضابط ولذلك سارعت فرنسا الاستعمارية إلى إخضاع قبائل أحواز تازة بأي ثمن … طبعا لم يكتب النجاح والانتصارلهذه الملاحم البطولية بالنسبة لتازة وقبائلها وأحوازها ( كما لم يكتب لغيرها في سائر البلاد ) بسبب عدة عوامل أهمها : فقدان قيادة وطنية للمقاومة موحدة المشارب وواضحة الأهداف السياسية تدبر طرق وأساليب النضال الوطني التحرري ( مثلما ذهب إلى ذلك الزعيم علال الفاسي في كتابه ” الحركات الاستقلالية في المغرب العربي ” ) كما أن كل قبيلة كانت غالبا تدافع عن كيانها الخاص، مما سهل على القوات الاستعمارية الاستفراد بكل واحدة منها وهذا ما لوحظ على صعيد مقاومة تازة والأحواز إضافة إلى استقطاب القواد وبعض شيوخ القبائل للتعامل مع الفرنسيين ، ويتجلى العامل الحاسم في الأسلحة الفتاكة بما فيها الطيران والمدفعية والغازات السامة أمام شعب أعزل تقريبا إلا من روحه النضالية التحررية وتشبثه بالدفاع عن أرضه ووطنه ، فمن باب العته حقا مقارنة موازين القوى بين الطرفين ….