أدت عدد من العوامل الداخلية والخارجية إلى تدهور السلطة المخزنية في مختلف أنحاء البلاد اعتبارا من وفاة السلطان الحسن الأول 1894 وعبر الفوضى التي ضربت العديد من المناطق المحسوبة على " بلاد السيبة "، ومست المدن والحواضر أيضا ، وكنموذج على ذلك ، صراع أهل تازة مع عمالها وتوسط المخزن في الأمر، دون إغفال لحظات من العنف هنا وهناك في عهد الحسن الأول نفسه ، حيث يورد الباحثون عددا من حالات القتل ثم الثأر، قام بها بني بوقيطون من غياثة ، وكان السلطان الحسن قد حاول في بدء أمره أن يخضع أحواز تازة والجزء الأكبر من حوض ايناون لنفوذه ، ولكن سوء تدبير وعدم معرفة وزير الحرب – كما يقول الحجوي – بطرق تحريك العساكر ، وحرب الأوعار وقعت عليه كرة واحدة ، أفلت السلطان عنها بشق الأنفس ( إشارة إلى هزيمته في حركته الفاشلة أمام غياثة / يوليوز 1876 )، فرأى أن يتركها على فسادها طيلة أيامه ، ويجعلها حصنا بينه وبين الحدود الجزائرية ، هكذا اتسع الخرق على الراقع ووجد الفتان الجيلالي بن ادريس المعروف ب " بوحمارة " التربة ممهدة لإعلان دعوته بعد عودته من تونس والجزائروادعائه أنه الابن الأكبر للسلطان الحسن الأول ، فاعتبر نفسه الأحق بالعرش ، سنتان فقط على وفاة الحاجب با حماد وتولي السلطان مولاي عبد العزيز أي 1902.. علما بأن الوزير ابا احماد هو الذي أخذ البيعة لمولاي عبد العزيز مستغلا صغر سنه للحجر عليه ومع ذلك فقد حاول ابا حماد الحفاظ على هيبة الدولة والوحدة الترابية للبلاد أمام مؤامرات الأجانب والفتن الداخلية إلى حين وفاته .
...بصرف النظر عن الأسباب الشخصية الخاصة بهذا المهندس الطبوغرافي ( بوحمارة ) الذي عمل في قصر مولاي عمرأخ السلطان مولاي عبد العزيز ، إضافة إلى التنافس والاحتكاك الذي وقع له مع نده القائد ثم الوزيرالشهير ، المهدي المنبهي الذي أصبح صدرا أعظم ووزيرا للدفاع (وزير الحرب )، فان هناك أسبابا أخرى تضافرت مجتمعة لتأليب قبائل حوض ايناون ضد السلطان المتهم ببيع البلد للنصارى ومن ثمة ، إعلان العصيان باسم مولاي امحمد ولي العهد الشرعي والذي نفاه أخوه مولاي عبد العزيز إلى تافيلالت في ظروف غامضة ويقال انه كانت به لوثة ...
من الأسباب الأخرى غير تلك ، أن الفتان استغل ضريبة الترتيب التي سنها مولاي عبد العزيزوقد عدها العلماء المحافظون بدعة وخروجا عن الزكوات الشرعية أي عن الإسلام ،لأنها أي الزكوات حذفت وعوضها الترتيب دون تهييء أواستئناس مسبقين ، كما أن الوجود المكثف للأجانب في البلاط السلطاني بفاس وخاصة الانجليز منهم ( ما كلين رئيس البعثة العسكرية الانجليزية ومن على شاكلته ) أثار حفيظة السكان فالتقطها الروغي ببراعة ، كلها عوامل تضاف إلى ما قيل من رقة في الدين لدى السلطان نفسه رغم أنه كتب إشهادا من علماء فاس على انه صوام قوام ومسلم حسن الإيمان ( ولع مولاي عبد العزيز بالمخترعات الغربية كالقطار والدراجة الهوائية وبعض الملاهي معروف عند المؤرخين وعموم الباحثين وهو الشيء الذي استغله الأوربيون في جشعهم الاستعماري ) و قد تضاعفت أخطاء المخزن العزيزي بإعدام العلمي الإدريسي على نحو متسرع وهو الذي قتل مبشرا انجليزيا تحرش بجامع القرويين وكان على السلطان أن يأخذ الأمربالمرونة والروية اللازمتين في مثل هذا الموقف الخطير، لكنه لم يفعل للأسف الشديد ، رغم لجوء العلمي إلى الحرم الإدريسي الشيء الذي صب مزيدا من الزيت في أوار فتنة بوحمارة وباقي الفتانين بعدد من مناطق البلاد كبوعمامة ومولاي الزين والريسوني .
بعدمبايعة غياثة وباقي قبائل تازة للروغي باسم مولاي امحمد في صيف 1902 ( نذكر إضافة إلى غياثة فقد بايعت أيضا قبائل التسول والبرانس وبني وراين والحياينة ) ، دخل الى تازة اثر انتصاراته الأولى على جيش المخزن في 25 أكتوبر 1902 حيث خصصت ل " جلالته الشريفة " دار عائلة الحجوي بقصد الإقامة قبالة الجامع الكبيرقلب الدرب الذي ما زال يحمل اسم" درب الحجوي " ، فأم الناس في أول صلاة جمعة بالجامع الأعظم عند حلوله بالمدينة ثم أمر ونهى ورفع ووضع وولى وعزل ، بعد فرار عامل المخزن على تازة ، كما يؤكد مؤرخو الفترة ، انتقل بعدها إلى داره المعروفة بالمشور وهي المدرسة المرينية سابقا ...ومن طرائفه أنه أصدر ظهيرا شريفا في توقير الزاوية اليجبشية بتازة أورده البوخصيبي في الأضواء تميز فيما تميز بالأخطاء في النحو والصرف والتعبير والإملاء (.... )
ثمة إلحاح غريب من قبل مؤرخي الفترة على أهمية المسألة الأمنية ، إذ تمتعت تازة منذ حلول الفتان بأمن شامل ، وهذا يدل على تعطش السكان لسلطة مركزية قوية تحميهم من بطش القبائل الذي عانوا منه الأمرين خلال الفترات السابقة ، الأسر التازية انقسمت بين العزيزيين والرواغا ، كما أن قبائل غياثة رأت في الروغي بوحمارة وفي سلوكاته ولي العهد الحقيقي ومحاربا للكفر والفساد بل واعتبرته العاهل الشرعي للبلاد .... طالت أطوار الفتنة 7 سنوات كاملة هدد خلالها الروغي فاس غير ما مرة وكان من لحظاتها التراجيدية سيطرة الجيش المخزني بشكل مفاجئ على مدينة تازة في7 يوليوز سنة 1903 بعد تكبده العديد من الهزائم وتحت قيادة المنبهي بالذات وزير الدفاع وغريمه السابق ، مستغلا انشغال الفتان بأنشطته ودعايته في بني يزناسن شرقا ، فعاث جنود المخزن فسادا وظلما في أهل تازة الأبرياء المسالمين حيث لم يتم التفريق بين مذنب وبريء ، وأكد المؤرخ عبد الوهاب بن منصور أن أهل تازةاضطروا لرمي بناتهم في الآبار مفضلين هذا المصير على عار يلحق العائلة....
بينما هتكت أعراض الفتيات اليهوديات بالملاح مما جعل العديد من اليهود يهاجرون إلى مليلية وتلمسان كما يورد الحجوي الرواية التالية من المصدر المشار إليه سابقا "....لكن الجيش غير النظامي (يقصد الفوضوي غير المنظم ) لا يأتي بخير ، فقد هتك الحرم ، وفتك بالضعفاء ، الذين كانوا بدورهم لا يخوضون فتنة ، ونهب كل ما وجد وهدم وحرق ، وسبى النساء المحجبات ...ونهب حتى كتب الخزانة العلمية الحبسية من المسجد الأعظم ...وأخرج المساكين من المنازل ففروا إلى ما أبقاه من دور خراب إلى غير ذلك من الأفعال الوحشية التي تقشعر لها الجمادات ، ولم ينج من وقاحتهم حتى قاضي البلد السيد عبد السلام الجائي على علمه وشيبته ، فقد انتهكوا حرمة داره وساقوه أسيرا مجردا عن ثيابه حتى كساه المنبهي ، وكانت هذه الشنيعة موجبة لامتعاض قلوب المغاربة قاطبة من هذا الجيش الذي هو حيوان مفترس " ( ص42 )..
في هذه الظروف العصيبة والفتن الرهيبة ، كاتب المنبهي السلطان من تازة يحذره ويطلب منه الحضور إلى المدينة والمنطقة لطمأنة رعاياه ووأد أسباب الفتنة ، الشيء الذي لم يتم ، إذ اكتفى السلطان بإيفاد عامل معين إلى تازة بموازاة مع الاستعداد العسكري لدحر الفتان على رأس محلة كبيرة يقودها السلطان نفسه ، بل لجأ مولاي عبد العزيز حتى إلى محاولة فاشلة لاغتيال بوحمارة وفي هذه الفترة المتأزمة قطعت غياثة المياه عن تازة التي كانت تحت سيطرة الجيش المخزني مما اضطر السكان إلى حفر الاباروالاستعانة بالصهاريج ومخازن المياه...وكان هذا من أبرز مظاهر المعاناة إضافة إلى ما سبق من نهب وسلب وقتل وهتك حرمات ، وأمام الخطر الجدي لقوات الروغي المتجهة نحو المدينة من جديد تمارض المنبهي واختلق الأعذار من أجل العودة إلى فاس تاركا قيادة الجيش المخزني للقائد عمر اليوسي أماجيوش السلطان فانسحبت بدورها من تازة في اتجاه الشرق ثم انتهىمولاي عبد العزيز أخيرا إلى فاس دون أن يحقق نتيجة تذكرفي سياق الصراع مع الفتان .
تمكن الروغي من استرجاع مقر ملكه مرة أخرى أي مدينة تازة أواسط أكتوبر 1903 وكان آنذاك في أوج قوته بعد أسابع فقط من سيطرة الجيش المخزني عليها مما مثل طورا محزنا آخر من أطوار تلك الحرب الأهلية القاسية الضروس ، اتهم بوحمارة تجمع مكناسة بأنهم كانوا سبب احتلال المخزن لتازة بسبب الثغرة التي فتحوها أمام قوات المنبهي فهدم فصبتهيما وسواهما بالأرض ، وكان أغلب العزيزيين (الموالين للمخزن العزيزي ) قد فروا من تازة إلى امسون ومكناسة، والمعروف أن نفوذ الروغي بوحمارة امتد إلى شواطئ البحر المتوسط ثم حاصروجدة من جديد ، لكن بقي حيزها الشرقي الهام تحت سيطرة المخزن العزيزي الذي عانى الأمرين بسبب الهزائم المنكرة المتتالية ولا سيما المحلات والحركات التي كان يقودها أخ السلطان مولاي الكبير فكان من اللازم اللجوء إلى الأساليب السياسية والإيقاع بين القبائل بالوعود والأموال ، ثم عرض السلطان م عبد العزيز أمام العلماء والساكنة مولاي امحمد الحقيقي بعد أن أخرجه من سجنه بمكناس وعينه عاملا على فاس مفندا أباطيل الفتان ، الشيء الذي اضعف موقفه كما أن قبائل أحواز تازة بدأت تتحررمن قبضته شيئا فشيئا.
ولكن لا يجب أن يذهب الوهم بنا بعيدا فنتصور أن القبائل كانت دائمة الولاء للمخزن أو للفتان فقد تميزت علاقاتها مع هذا أو ذاك بالتقلب في واقع الأمر (باستثناء المحيط والحرس المخلص طبعا ) تبعا لموازين القوى ولمصالحها الخاصة وفي أحيان كثيرة تؤيد من يدفع أكثر، وزاد من تراجع موقف الفتان بوحمارة الاتفاق الذي عقده مع الاسبان لاستغلال مناجم الريف مقابل مده بالسلاح والعتاد الشيء الذي جعل قبائل المنطقة تنقلب عليه وهكذا وبعد هزيمته أمام مولاي عبد الحفيظ في 11غشت 1909 على بعد 60 كيلومترا من فاس التجأ إلى إحدى الزوايا في قبة مولاي عمران بالريف فسلمته ببساطة إلى أعوان السلطان مع ما تبقى من أنصاره بتاريخ 22 غشت سنة 1909 حيث أعدمه مولاي عبد الحفيظ في فاس يوم 12 شتنبر 1909 بطريقة بشعة وصفتها الصحافة الفرنسية بالمنافية لأبسط الحقوق الإنسانية ، إذ ذهبت هذه الصحافة إلى أن السلطان بعد أن شهر به في قفصه أمام الخاصة و العامة ومتع ضيوفه من رعاياه مع السلك الديبلوماسي بمشهد الفتان المهزوم وهو داخل القفص ، عرضه وأصحابه على السباع التي نهشته لكنها لم تفترسه تماما فأمر بصب البنزين عليه وإحراقه حيا ... وبذلك تخلص المخزن من أخطر دعي ومناوئ فتان ...خلاصة القول أن الجيلالي بن ادريس الزرهوني كان يختزل في شخصيته وفتنته أزمات البلاد وأزمة المخزن خاصة والتي أدت به في الأخير إلى الاستسلام أمام الأجانب وتسليم البلاد في إطار عقد الحماية مع فرنسا ....
بعد هزيمة الروغي قدم ساكنة تازة البيعة للمولى عبد الحفيظ رغم استمرارمناوشات ودعوات بقايا الرواغا بالاحواز، ودور مولاي الكبير أخ مولاي عبد الحفيظ الذي كان يطالب بالعرش هو الآخر مما يؤكد تماما أن الأزمة / الأصل نبعت من دار المخزن بالذات وتضافرت معها باقي العوامل الأخرى ، ولم يضع المغرب حدا لأزمة الطامعين في العرش إلا مع تجربة التناوب التوافقي 1998 ( للحقيقة والتاريخ ) لما أحس وأشعر ( للمجهول ) الملك الراحل الحسن الثاني بدنو اجله ...
خلال سنوات الثورة أو الفتنة هجر الكثير من أهل تازة مدينتهم ولا سيما بين الطائفة اليهودية وذلك نحو دبدو ومليلية وتلمسان ، باستثناء أقلية ضئيلة واظبت على الإقامة بها رغم الأخطار المحدقة ، ولما دخل الجيش الفرنسي إلى تازة زوال يوم 17 ماي 1914 بقيادة الجنرالات ليوطي بومغارتن وغورو كانت المدينة العتيقة في حالة شبه خربة ولا يتعدى سكانها 2000الى 5000 نسمة .
لقد وشمت فتنة الروغي بوحمارة المنطقة ورأسمالها الرمزي إلى درجة أن اسم مولاي امحمد ( أي الجيلالي الزرهوني ) ما زال يذكر وسط مناطق غياثة لحد الآن ونفس الشيء يصدق على حي المشوربتازة الذي ارتبط به ( رغم مرور أزيد من قرن على الفتنة ) قلت يذكر بهالة من الإجلال والاحترام ولم يسبق لزعيم أو فتان آخر أن حاز على مثلهما ، لكن استغلال الفتنة وأحداث أخرى شهدتها المنطقة من طرف جهات مخزنية ومصلحية معينة وأدلجتها أو تحريفها لتهميش المنطقة أمر آخر مختلف تماما ولا علاقة له بالبحث في التاريخ والمسار الموضوعي ، إذ يمكن في المقابل إبراز صور مناقضة تماما قوامها أدوار تاريخية مشهودة منذ تقديم غياثة ومكناسة تازة البيعة للمولى إدريس الأول وانطلاق الدولة الموحدية من تازة لفتح المغربين الأدنى والأوسط وبروزها كعاصمة أولى للمرينيين قبل فاس وعاصمة ثانية خلال عهد بني وطاس ثم مساندتها للمولى الرشيد في المراحل الأولى والحرجة لتأسيس الدولة العلوية الحالية ودون ان نغفل دور أبناء تازة والإقليم في المسيرة الخضراء والدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة خلال نهاية القرن الماضي ، الشيء الذي فند ويفند تماما مغالطات ومبالغات من لهم مصلحة في استمرار تهميش وإقصاء تازة والأحواز عن كل دينامية تنموية حقيقية .