لم يكن الشخص الأجنبي الغامض الذي أطلق على نفسه اسم ”علي باي العباسي ” وحل بالمغرب في مستهل القرن التاسع عشر على أساس أنه أمير مشرقي ، لم يكن سوى جاسوس اسباني يعمل لحساب نابليون بونابرت ( ع المودن المرجع السابق ص 109 ) وقد سبق أن ذكرنا أنه نزل بتازة معززا مكرما وهو في صفته المتنكرة تلك ، فسجل ما سجل من معلومات وحقائق إلى أن اكتشفه جيش السلطان م سليمان على حقيقته فوقع إجلاؤه عن البلاد في صمت ( ….) الشيء الذي لم يرق له … ولما نفض يديه من المغرب ، توجه نجو المشرق لنفس الأغراض …..وفي كل الأحوال ، منذ هذه الفترة تقريبا جاب البلاد كثير من الأجانب : انجليز اسبان فرنسيون وألمان ، من أجل التعرف على طبيعة الحياة والمجتمع المغربيين ، ولا ينجو من الرصد حاكم ولا محكوم ، فوصفوا المدن والقرى وأماكن تجمع السكان كالأسواق والاحتفالات ومواكب السلطان وحاشيته والحالة العامة للمجتمع المغربي ، من حيث طرائق العيش والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى غير ذلك من المظاهر التي لم تفت هؤلاء ..... لقد كان أكثرهم من الجواسيس المتنكرين أو التجار أو هواة الرحلات والاكتشافات ، وسنرى أن منهم من مر بتازة أو زارها خصيصا ، كالجاسوس والراهب الفرنسي شارل دو فوكو والرحالة الألماني جيرهار روبيليف ، ولم تكد فرنسا تضع أول موطئ قدم لها بالجزائر ، حتى كانت لقادتها وجنرالاتها وساستها معرفة شاملة بالبلاد المغربية ( ومنها ممر تازة وحوض ايناون ) أو ما كانوا يسمونه ب ” الأمبراطورية الشريفة ” تمهيدا للمخططات الاستعمارية القادمة … .. شكلت سنة 1830 بداية انطلاق فعلي جديد لمدينة تازة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، وهي السنة التي شهدت احتلال فرنسا للحزائر وكان عامل تازة المعين خلال هذه الفترة من قبل السلطان عبد الرحمان بن هشام هو بوزيان الشاوي من عرب الأحلاف …وفي هذا الإطار قبل السلطان بيعة أهل تلمسان لكن جيشه انسحب منها في أبريل 1831 تحت ضغط الفرنسيين …وهكذا شهد ممر تازة وحوض ايناون حركة كثيفة للجيوش السلطانية ، بسبب أوضاع جديدة لا قبل للمنطقة بها وباعتبار أن الأتراك كانوا ينتمون إلى ” دار الإسلام ” في كل الأحوال وذلك بخلاف الفرنسيين ، إذ سيتخذ الصراع أشكالا أخرى ، شدا وجدبا …سلما وحربا ، في ظل حالة الاختلال العام لموازين القوى بين الطرفين واستمرار المخزن في نفس مسلكياته العتيقة تجاه المناطق المختلفة والتخوم وأطراف البلاد ، وهنا لابد من توضيح وإزالة اللبس حول بعض الحقائق التاريخية التي أصبحت عند البعض ( المرحوم عبد الوهاب بن منصور في مرجعه المذكور آنفا على سبيل المثال ) بمثابة مسلمات بديهية ، أدت إلى استنتاجات ظالمة وغير تاريخية …. لقد نفي إلى تازة وسجن بها فعلا عدد من المعارضين ( أسرة الحجوي الثعالبي في عهد م اسماعيل – زعماء زاوية درقاوة في عهد المولى سليمان – القائد أبو العلا ادريس البخاري في عهد السلطان عبد الرحمان ) تماما مثلما حصل بالنسبة للعديد من المناطق بما فيها مدينتي فاس ومراكش علاوة على مكناس و الجديدة و تطوان وغيرها من المناطق المغربية ، حيث استقبلت بدورها المعارضين والأدعياء والثوار والخارجين عن الدولة والمتمردين على السلاطين والمجرمين أيضا وفي مختلف مراحل تاريخ البلاد …يكفي أن نذكر سجن الدكاكين بفاس ( سبق أن سجن المولى الرشيد أسرة آل النقسيس بفاس وهم الذين أسسوا امارة بالشمال ليعدمهم السلطان م اسماعيل بعد ذلك وهذا مثال فقط ) وسجون : بوركايز بمراكش والعاذر بالجديدة وقارة بمكناس ، لم تكن تازة وحدها مختصة بهذا ” الامتياز” الذي اعتبرمشينا نوعا ما ، فكثير من المناطق المغربية كانت عبارة عن سجون رهيبة ، كما أن العواصم ودور المخزن حفلت هي أيضا بالسجون وفضاءات النفي بالنسبة للثائرين والعصاة والمتمردين حتى بين صفوف الأسرة العلوية نفسها …والنتيجة أن الطرح مغلوط من أساسه ويفتقر إلى الحس التاريخي والتدقيق الموضوعي … فضلا عما يكتنفه من ظلم وحيف تجاه مدينة تازة سواء تم عن قصد أو لم يقصد إليه … عرفت تازة إذن مرحلة جديدة من تاريخها مع احتلال الجزائر ، لأن دخول تلمسان وغرب الجزائر في حكم المغرب أولا واهتمام السلطان عبد الرحمان بن هشام بالدفاع عن حدود مملكته ودعم المقاومة الجزائرية ثانيا ، جعلا تازة في مقدمة المشاغل وطليعة الأحداث ، فقد صارت مخزن ميرة ومركز تجمع هام للجيش المغربي ، عرفت المدينة بموازاة ذلك نهوضا اقتصاديا واجتماعيا بعد احتلال تلمسان من طرف فرنسا حيث هاجرت العديد من الأسر التلمسانية واستقرت بتازة حاملة معها بعض الحرف التقليدية والصناعات وأشكال الأنشطة الاقتصادية ( فوانو – بن منصور – تيراس )… ولا بأس أن نذكر بعض الأسر التازية المنحدرة من تلمسان : آل بنصاري وال القرموني وال بن عصمان وال المقري …. إن دراسة وتحليل تاريخ المغرب خلال القرن التاسع عشر، يعد المنطلق الأساس لفهم ملابسات وظروف التدهور التدريجي للمخزن والثورات والفتن الداخلية وأشكال الضعف و التفكك الاجتماعي والاقتصادي ، ثم الأطماع الأجنبية التي اتخذت مظاهر شتى ، أدت في الأخير إلى وضع المغرب تحت الحمايتين الفرنسية والاسبانية وإخضاع منطقة طنجة للنظام الدولي ، مما لا يتسع له المجال هنا للاستفاضة فيه …. وقد كان لحوض ايناون وممر تازة موقع حاسم في تطور الأحداث التي تعاقبت على البلاد ، خاصة في وضع التماس مع التخوم الشرقية حيث مناورات وتحرشات الجيش الاستعماري الفرنسي وكان من الطبيعي دعم المقاومة الجزائرية من طرف كل شرائح الشعب المغربي المسلم ، ثم موقف السلطان ومعه الهيئة المخزنية من سكان المدينة ( مبدئيا ظلت المدينة تابعة للمخزن بسبب وقوعها في قلب الممر الاستراتيجي المسمى باسمها لتصبح هذه التبعية شكلية بعد ذلك ) أوتجاه الأحواز التي عدت من بلاد السيبة كالجزء الجنوبي من غياثة أساسا ثم قبائل بني وراين وباقي القبائل الجبلية بالمنطقة ….. لقد كانت الغالبية من العلماء والفقهاء ورجال المخزن متحمسة لدعم المقاومة الجزائرية بقيادة الأمير عبد القادروكان على رأس هؤلاء العلماء علي بن عبد السلام التسولي ( المدعو امديدش المتوفى سنة 1842) قاضي فاس ثم تطوان الذي أجاب عن سؤال في هذا الصدد للأمير عبد القادر، وهكذا لجأ هذا الأخير إلى المغرب وسط نفير الجهاد ضد الفرنسيين في جميع أصقاع البلاد ، ونتيجة دعم المغرب للأمير عبد القادر ونظرا لتحرشات الجيش الفرنسي على الحدود واعتدائه الغادر بقصف طنجة وأصيلا والصويرة في مستهل غشت 1844 التحم الجيش المغربي بقيادة ولي عهد السلطان الأمير محمد بن عبد الرحمان مع الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال بيجو بمنطقة ايسلي قرب وجدة في 14 غشت 1844انتهت الموقعة بهزيمة سريعة للجيش المخزني ووقوع ما يزيد عن 500 شهيد في المعركة ، فيما تراجع محمد بن عبد الرحمان على وجه السرعة مع ما تبقى من الجيش إلى تازة ( فوانو” تازة وغياثة ” – الناصري ” الاستقصا “) … نجمت عن هذه الهزيمة العسكرية اثارخطيرة على صعيد المعنويات ووحدة البلاد والضغوط الاستعمارية ، حيث انكشف ضعف المغرب لأول مرة منذ وقعة وادي المخازن ، بعد أن ظل مهيب الجانب لدى كل الدول الأوربية ، كما تعقدت مشاكل الحدود باتفاقية للا مغنية سنة 1845، لكن هذا الوضع لم يكن يعني نهاية المقاومة فقد استمرت بشكل متقطع وتواصلت معها مناورات الجيش الفرنسي واعتداءاته على المناطق الحدودية …. ثم الصحراوية المغربية وزادت حدة سياسة العسف والاستبداد التي نهجها المخزن داخليا تجاه القبائل والجهات المتمردة ، مما أخرجها تماما عن سيطرة المخزن بالعصيان الصريح أورفض الضرائب وتكاليف الحركات السلطانية ، كما أصبحت بعض المدن والمناطق المحسوبة على المخزن نهبا للقبائل المجاورة ، ومنها تازة التي عانت من الفوضي والنهب والسلب مدة طويلة … (انظر جميع المراجع والمصادر المذكورة في هذه الورقات )، فهذا محمد بن الحسن الحجوي وهو من رجالات المخزن المتأخرين ( تقلد عدة مناصب هامة خلال العهدين العزيزي والحفيظي ) يقول في مذكراته ” …فمن ذلك الوقت ( يقصد معركة ايسلي سنة 1844) والمغرب الشرقي من فاس إلى وجدة …إلى الصحراء ، في حكم الفوضى ، لا نظام ، ولا أحكام ، ولا علم ، ولا دين ، ولا ضرائب ، ولا زكوات …ولا …ولا …”( من كتاب الجيش المغربي في القرن 19 مصطفى الشابي ج 1 ص107)…وقد ظلت العديد من المناطق على هذه الحالة حتى مع تولي السلطان محمد بن عبد الرحمان العرش خلفا لوالده سنة 1859 ويعلق الباحث مصطفى الشابي ( أستاذ التاريخ ،عميد كلية الآداب سابقا بوجدة وقيدوم جامعة القاضي عياض بمراكش ) بأن المخزن كان لا يحصل على طائل ، حين تجهيزه حملات عسكرية ضد بعض القبائل الجبلية والنائية كغياثة ( المحيطة بتازة ) وايت شخمان وبني مكيلد واداوتنان ، فوعورة جبالها وتشعب منعرجات أوديتها ، كانت تساعد هؤلاء الجبليين على الإفلات من قبضة الجند المخزني ، بل تسمح لهم بنصب كمائن كان يسقط في شباكها العديد منهم ( نفس المرجع السابق ص 107) … تمركزت بتازة خلال عهد السلطان م محمد بن عبد الرحمان قوة مخزنية متواضعة تقدر ب 500 مخزني كانت كافية بالكاد – كما يذهب إلى ذلك الرحالة الألماني جيرهار روبيليف – لضمان المواصلات ( في ذلك الوقت ) المهددة من طرف الحياينة غرب ايناون وكذا فروع من قبيلة غياثة وفي سنة 1864 واجهت فرنسا تمردا جديدا لقبائل الجنوب الوهراني وصل صداه إلى قبائل أحواز تازة التي تجاوبت معه ، ومن ثمة انبعثت روح الجهاد من جديد في صفوف هذه القبائل وعلى اثر اختراق القوات الفرنسية لمنطقة بني يزناسن…وكان واضحا أن فرنسا تستغل كل الذرائع للمزيد من المؤامرات والتدخلات من قبل جيشها المرابط على الحدودالشرقية للمملكة ( فوانو ” تازة وغياثة ” عبد الرحمان بن زيدان ” اتحاف أعلام الناس …” الناصري ” الاستقصا …” ) ولم يفت الرحالة الألماني التأكيد مع ذلك على استمرار أوضاع الاستقرار التي تحدثنا عنها بمدينة تازة ( دون الأحواز ) غير أنها لم تستمر طويلا فقد بلغت ساكنة تازة خلال هذه الفترة أزيد من 5000 نسمة منها حوالي 800 من اليهود الشيء الذي يدل على أهمية تلك الجالية التي احتفظت إلى عهد قريب بسوق لها بجانب الملاح ( سوق اليهود شرق تازة العتيقة ) وكان هناك تعايش سلمي مستمر بين هذه الجالية وبقية الساكنة المسلمة إلا في حالات نادرة كما وصف الرحالة المذكور المنازل التازية وارتباطها بالمستوى المعيشي الراقي لأصحابها … ولما تولى السلطان م الحسن ( الحسن الأول ) العرش سنة 1873 عاد إلى سياسة جده السلطان م اسماعيل في الميل إلى تكثيف الحركات وضبط مختلف المناطق المتمردة بالوسائل ” المباشرة ” في غالب الأحيان … مما أدى إلى العديد من الصدامات والمعارك الدامية شمال وشرق البلاد كان بعضها وبالا على الجيش المخزني بموازاة مع محاولات الإصلاح و أشكال المناورات والمعاهدات بين الدول الاستعمارية للاستفراد بالبلاد …