لقد أُحدثت مؤسسة جامعية بتازة لتكون سدا يحمي جارتها فاس من طلبة كانوا وما زالوا برأي أصحاب المقاربة الأمنية سببا في الكثير من الأحداث، وكانت الخطة هي أن يتم ضبط أبناء المنطقة (محاصرتهم) بمدينتهم، فكانت مؤسسة مركز الدراسات الجامعية الذي ما لبث أن تحول إلى كلية متعددة التخصصات. كلية سرعان ما كشفت لمن أرادوها أن تكون سدا، أنها المد والشهد ومركز إشعاعي لطلبة أكفاء، وجدوا في أطر الكلية الحافز، فداع صيتهم في الوطن (مراكز جهوية، مدارس عليا، دراسات عليا،...). وإذا كان البعض يحاول أن يوظف هذا الصيت ليبرر به حالة الاكتظاظ الحاصلة اليوم في الكلية، التي وصل عدد طلبتها إلى أزيد من 11 ألف طالب، فإن القراءة النافذة إلى الجوهر تعتبر أن الأسباب الحقيقية في بعض جوانبها لا ترجع إلى صيتها المعلن، بل ترجع إلى اعتبارات عدة، أهمها:
* لم تكن الرؤية الأمنية في يوم من الأيام حلا كليا، لأنها دلت دائما على العجلة والسرعة، وغياب التفكير والعجز عن امتلاك الأدوات الحقيقية لحل أية مشكلة. ولما كانت المقاربة الأمنية آخر الحل، مثلت في وطننا أول الحل وآخره، ولك أن تتصور من هو ذاك الذي يقرر بقرارات فوقية وهو عاجز إلا عن التنفيذ، هل له أن يفكر؟ والنتيجة لهذه المقاربة الأمنية غياب دراسة مستوفية عن عدد التلاميذ المتوقع حصولهم على شهادة الباكالوريا أولا، وتحديد الخريطة المدرسية الرافد المتوقع للكلية متعددة التخصصات تازة ثانيا، وتوقع عدد الطلبة الممكن تسجيلهم بالكلية لمدة ثلاثة سنوات من التكوين الجامعي في حده الأدنى وفق الإصلاح المعلن ثالثا...، كل هذا وغيره لتحديد الطاقة الاستيعابية للكلية، وعمر هذه الطاقة، ونوعية القاعات الممكن استيعابها للعدد المتوقع، وروافد الولوج إلى الكلية والخروج منها، حتى لا تتحول إلى جامعة مختزلة بتخصصاتها وعدد طلبتها.
* رغم مساحتها الشاسعة (5هكتارات)، إلا أن موضع الكلية وموقعها، لا يسمحان بمزيد من البناء على أرضيتها، والزيادة الحاصلة اليوم في عدد المدرجات (+3) ستكون الأخيرة في موضع كلية تازة، ليس لأن كلفتها كانت أضعف وباهرة، ولكن لأن مزيد من البناء بكلية تقع في محور طرقي رئيس، على كدية محاطة بروافد مائية، لن يزيد أصحاب المقاربة الأمنية إلا استنفارا، وهذا يعني أن الكلية ستعرف مزيدا من الاكتظاظ، لكنها في المقابل لن تعرف مزيدا من البناء والتوسع، مما يتطلب إعمال مقاربة جديدة لحل المشكل، وليس في إعمال المقاربة الأمنية من جديد في اختيار الموضع الذي قد تكون عليه بعض ملحقات الكلية سواء خارج المدار الحضري أو بمنطقة نائية معزولة عن المدينة، لأن أي تهور من ذلك سيكون أعظم من سابقه أمني وعلميا، وحيها سيكون الأمن أداة للاشتعال وليس أداة للحل.
* تزامُن إحداث كلية متعددة التخصصات مع الإصلاح الجامعي جعلها بحسب البعض بمثابة إعلان شهادة ميلاد لهذا الإصلاح، لكنها أصبحت فيما بعد (عشر سنوات) مظهرا من مظاهر إعلان وفاة هذا الإصلاح، نظرا لحالة الاكتظاظ التي وصلت إليها الكلية اليوم، ذلك أن نظام الوحدات بطبيعته يحتفظ بالعدد الكبير من الطلبة، مما يعني أن انتقال العدد من 3700 طالب كطاقة استيعابية للمؤسسة إلى أزيد من 11 ألف طالب أصبح أمرا طبيعيا وفي تزايد متوقع، لكن بتدخلات أخرى جانبية تتعلق بأثر الربيع الديمقراطي في المغرب على نتائج البكالوريا من جهة أولى، والنظام الجديد المعتمد في نتائج البكالوريا والمتعلق بالاحتفاظ بأعلى نقط للمواد المختبر فيها بين الدورة العادية والدورة الاستدراكية من جهة ثانية.
كل هذا وغيره هو في نظرنا كان في صالح مدينة تازة التي انقلب فيها السحر على الساحر، ولم تعد تازة اليوم في حاجة إلى كلية بل إلى كليات، وهو تحدي تتجلى مظاهره بشكل جلي في ساحة الكلية وعند مرافقها، ليس فقط في الحيز الزمني للحصة، والمقلص إلى 80 دقيقة بدل من 120 دقيقة، قصد استيعاب أكبر عدد من الحصص في اليوم، بالنتيجة الانتقال من 4 حصص في اليوم إلى 6 حصص، وهو ما جعل إدارة الكلية بهذا الاجراء رغم آثاره السلبية على الطلبة وتكوينهم، قادرة على تدبير العدد الكبير من المسالك بالكلية التي وصل عددها 12 مسلكا، وحصصهم المتعددة التي تصل في السداسي الواحد إلى أزيد من 288 حصة في الأسبوع، دون احتساب التفويج.
إن بسمة العمل ونسمة الأمل تظل حاضرة لفتح نافذة جديدة للقلم، لكن شريطة أن يستوعب أصحاب العمل مجريات واقعة الجمل. محمد البركة
راجع : هل أتاك حديث المقاعد المتنقلة بالكلية متعددة التخصصات رهان التحصيل وضمائر التقصير (1)