أثيرت في الآونة الأخيرة نقاش إعلامي بل ومؤسساتي بين وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية وغيرها من الفقهاء والإعلاميين والسياسيين حول الفتوى وعلاقتها بالمجتمع، بل وتأثير ذلك على مسار علاقة الدولة بالمجتمع وفق ما يسمى اليوم بضبط الحقل الديني وتنظيمه، مساهمة في النقاش يُسعد موقع "تازاسيتي" أن ينشر نص الحوار الذي أجري مع الدكتور محمد البركة أستاذ التاريخ والحضارة بالكلية متعددة التخصصات تازة.
1- مرحبا بكم أستاذ، كيف يمكنكم بداية أن تفسروا لنا طبيعة العلاقة التاريخية بين المغاربة والفتوى، أو بين المجتمع والفقه؟
ظرفية هذا السؤال تحيلنا في مقدمة جامعة إلى القول: إن الوعي بالعديد من القضايا التاريخية لا يتحقق إلا عند وقوع مثيلاتها في الراهن، وقتها فقط يكون البحث في التاريخ، وهذه إعاقة حضارية في الأمة إن وجدت، إذ التاريخ أزمنة ثلاث (ماضي وحاضر ومستقبل)، وليس زمنا ماضيا فقط، إذ الماضي لا يعود، والتاريخ يعود عند استدعائه أو دون استدعائه ليصنع المستقبل الذي يصير حاضرا عند انجازه وماضيا بعد انجازه.
لذلك فالحديث عن علاقة المجتمع بالفتوى، ما كان ليثار إعلاميا لولا بعض الفتوى الغريبة برأي المجتمع أو فئة منه، أو برأي النخبة أو بعض منها، أو برأي بعض المؤسسات أو بعض منها، فتوى غريبة صدرت عن بعض الفقهاء أو بعض الوعاظ ممن تصدروا للفتوى أو لم يتصدروا لها، لكن لما عرضت عليهم النوازل اضطروا للإجابة عنها لاعتبارات عديدة (اجتماعية ونفسية وسياسية..)، وهي شبيهة بتلك الفتاوى التي صدرت عن بعض الأقلام أو عن بعض الأصوات داخل بعض المؤسسات وخارجها،والتي اعتبرت نفسها وصية على الفتوى دون غيرها، مقابل أصوات اعتبرت الفتوى مجالا مشاعا بين الكل مادام الدين هو للكل.
إن اللازم معرفته من الموضوع هو أنه إذا كانت النوازل تعني الوقائع المستجدة والمسائل الحادثة والأقضية النازلة التي يجتهد فيها الفقهاء المجتهدون دون غيرهم طبقا للفقه الإسلامي تبيانا لحكمها الشرعي، فإن أجوبتهم عنها هي التي تسمى فتاوى، لكونها اجتهادا في النوازل، بحثا عن الحكم الشرعي استنادا على الدليل من الأصول، إذ النص الشرعي قد يدل على حكمها دلالة واضحة إما بمنطوقه أو عمومه أو مفهومه أو معقوله.
2- هل هذا ينعي أن الفتوى هي جواب النازلة وهي من اهتمام المؤرخ؟
نعم الفتوى إما أن تكون جوابا لنازلة مقدّرة مفترضة وهي لا تعني المؤرخ ولا اهتمام له بها، لأنها غير معبرة عن الواقع ومن ثم لا سياق واقعي لها، لكونها نازلة يستحيل وقوعها أو يبعد وقوعها، وهي تندرج ضمن ما يسمى بالفقه الافتراضي. وإما أن تكون جوابا لنازلة واقعة سابقا لها حكمها أو نازلة واقعة حديثا ملحة أو غير ملحة يتحرى لحكمها ويحتاج لفتوى تبينها.
لقد برزت ظاهرة الإفتاء في تاريخ المغرب، ونمت وتطورت حتى بلغت أوجها خلال القرنين الثامن والتاسع من الهجرة، لأسباب عديدة، منها رسوخ الفقه في تنظيم الحياة العامة ومرافقة تفاصيلها توجيها، سواء تعلق الأمر بالتطورات التاريخية والمستجدات الاجتماعية، حيث رفع الناس الكثير من نوازلهم إلى الفقهاء، فأجابوا عنها بما يوافق الشرع، وهذا دليل على حالة التلاحم بين المفتي والمستفتي، أي أن الإفتاء اجتهاد يأتي نتيجة للتفاعل بين الفقه والواقع، حيث يلجأ الفقيه إلى مصادر الإفتاء وأصول الفقه ليستنبط الحكم.
3- هل هذا يعني أن التفاعل بين الفقه والواقع هو الدافع للإفتاء؟ إذا كان كذلك فما هي السياقات التاريخية والاجتماعية التي تؤدي إلى ظهور الفتوى؟ ومن هو الأقدر على الإفتاء؟
ليس من السهل أن ينتصب امرؤ للإفتاء، أو أن يتوافد عليه الناس طلبا للفتوى عند استشكال أمر من أمور دينهم ودنياهم، إلا إذا كان المفتي عالما مجتهدا، فالمهمة الخطيرة التي يطلع بها، جعلت العلماء يدققون كثيرا في تعريفهم للمفتي والفتوى، وذلك باستحضار الجزئيات التي من اللازم التنبيه لها طلبا للصواب في التعريف، إذ المفتي برأيهم هو المخبر عن حكم شرعي في المسألة المساءل عنها لا على وجه الإلزام، أي أنه هو الناظر في النازلة والموضح لحكم الشرع فيها، والمبين والمجيب والحاكم في المسألة العارضة، وهو القائم في الأمة مقام النبي، ونائب عنه في تبليغ الأحكام كما قال الشاطبي، وهذا ما أعطى للمفتي مكانة وتعظيما ووقارا، أو لنقل ما أعطاه حقيقة معناه للخطورة التي يطلع بها، وتلك حقيقة أبلغ وأوضح عبر التاريخ، لأن من كان نائبا عن النبي في تبليغ الأحكام، سهل تصور طبيعة علاقته بالمجتمع، وتلمس حقيقة فزع الناس إليه، واطمئنانهم لرأيه، ومن ثم كانت خطورة الإفتاء، لذلك قيل: إن أعلم الناس بالفتوى أشدهم منها فرارا، وأجرأ الناس عليها أقلهم علما، إذ العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق، فكيف بمن نصب نفسه للفتوى دون علم، سواء كان واعظا أو أديبا أو كاتبا.
وبما أن المفتي هو نائب النبي المخبر بحكم الشرع في المسألة فهو لا يلزم الناس بالإكراه، بل يرغبهم ويرهبهم ليكون فعلهم الموافق لحكم الشرع نابعا من إرادتهم، فالمفتى عند إفتائه يكون ملزما بالتوضيح والبيان دون الإكراه في الإتيان، وتلك حقيقة معنى الاختيار والقبول عند المستفتي، وهي حاضرة ضمنا من البداية عند طلب الجواب عن السؤال، والتوجه إلى المفتي طوعا لا كرها.
فالناس يهرعون إلى المفتى وكلهم رغبة في سماع الجواب والحكم فيما اعترضهم أو نزل بهم، فهم طالبون للتفسير وراغبون للتبصر من أجل الكف والنهي أو الإصرار والأمر انصياعا من غير دليل لثقتهم بالمفتي ثقة لا تستلزم عندهم التوضيح لاقتناعهم بعلم المفتي، أو بالدليل للمقارنة بين ما عندهم وعند غيرهم، وهم في هذه الحالة من العلماء العارفين بالسؤال وببعض الجواب، فطلبهم عندئذ لا يكون إلا للتأكد والتثبت.
4- إذا كانت العلاقة قائمة بين المجتمع والفقه من خلال الفتوى، فكيف تساهم الفتوى في صناعة الثقافة المجتمعية؟ إن النظر في علاقة الفتاوى بالمجتمع، نظر في قيمة الفتاوى ودورها في صناعة الثقافة المجتمعية، بل في بناء المجتمع، ذلك أن المجتمعات المسلمة لا يمكن أن تسير بدون فقه شرعي موجه لحياتها، ولذلك كان المجتمع كثير الرجوع إلى الفقهاء والعلماء استفتاء، رغبة منه في عدم مخالفة الشرع، إذ الشرع عنده موجه لجميع أنشطته وحياته، وهذا ما يفسر تعلق المغاربة بالفتوى، وتدوينها لها عبر مؤلفات ومجامع خصصت لهذا الغرض.
فالفتوى إذن تعرض لجوانب مهمة من التراث الفقهي الإسلامي، تراث له خصوصه التاريخي والعلمي، إذ الفتوى بالإضافة إلى كونها تعرض للصناعة الفقهية في سيرورتها التاريخية المرتبطة بأسبابها وحيثياتها الاجتماعية والعمرانية بصورة متصلة بالحياة كما كانت، فهي أحكام شرعية مؤصلة تعكس طبيعة العلاقة بين تدين المجتمع وحركة التاريخ تأثرا وتأثيراً.
لقد أجمع أهل الاختصاص الشرعي على أن النظر في الفتاوى مفيد جدا في الكشف عن سر الصناعة الفقهية من حيث هي استنباط وتحقيق للمناط، وهو سر الخبرة العلمية في الدرس الفقهي، فإذا كان علم أصول الفقه هو الكفيل بتلقين المجتهد وتمكينه من قواعد الفهم والاستنباط على المستوى النظري، فإن إصدار الفتوى كفيل ببيان عمق هذا العلم وتمكن العالم المفتي منه، لأن الفتوى هي الصورة التطبيقية لهذا العلم، على مستوى الاجتهاد التطبيقي، المسمى عند الأصوليين ب"فقه تحقيق المناط"، أي تنزيل الأحكام على منازلها الواقعية، المرتبطة بالزمان والمكان، وما يعتريهما من نسبية وتغيرات، ومحاولة التوفيق بين ذلك كله وبين ما تقرر نظريا في الدرس الأصولي، وهذا يعني أن الفتوى من أدق مراتب الصناعة الفقهية على الإطلاق، لا ينتصب لها إلا العالم المجتهد المشهود له بالإسلام والعقل والبلوغ والعدالة والعلم الشرعي والكفاءة في الاجتهاد والورع...
إن حضور الوعي التاريخي والاجتماعي عند العالم المجتهد المفتي، من شأنه أن يجنبه -أثناء الافتاء- الوقوع في العديد من المنزلقات، ذلك بأن الفقيه العالم بتناقضات واقعه، البصير بزمانه، هو من يكون حاضرا بنظرته البعيدة المدى وبفقهه المآلي الراسخ. إذ الدارس الحصيف للفتاوى ونوازلها -كما عالجها العلماء الكبار مطلقا- يدرك طبيعة الاختيارات الفقهية والترجيحات المذهبية وما تراعيه من محذورات دقيقة في مجال المذهبيات الفقهية والعقدية المؤسسة للخلفيات التي يقوم عليها المجتمع.
وهكذا تصبح الفتوى المقياس الحقيقي لمعرفة عمق الرسوخ الذي يتمتع به العالم المجتهد في مجال الصناعة الفقهية اجتهادا أو تقليدا، أي إن الفتوى من شأنها أن تكشف عن نمط خاص من أنماط الفهم في الفقه في علاقته بالواقع الاجتماعي والعمراني العام، وكيفية معالجته بالأحكام الشرعية التكليفية منزلة على محلها في الزمان والمكان، وهو من أدق مراحل استنباط الحكم الشرعي ومن أعلى مراتب الاجتهاد كما يشير العلماء.
5- هذا يعني أن الأصل في الفتوى هو تحقيق الاستقرار والأمن والاطمئنان داخل المجتمع، فكيف إذا ساهمت الفتوى في نقيض ذلك؟
إن بعض ما يصدر اليوم عن الوعاظ أو الكتَّاب أو الأقلام... آراء شخصية لا تلزم غيرهم، لكونها ليست من الفتوى المبنية على أصول الاجتهاد، لكن من شأنها أن تثير فتنة بين الناس، إذ الفتوى قواعد علمية دقيقة، تصدر عن العالم المعتبر بعلمه، أو عن مجموع من العلماء، الشرط اللازم فيهم بالإضافة إلى المؤهلات العلمية الممكنة من استعمال كليات علم الفقه وتنزيلها على جزئيات الوقائع بين الناس،أن يطمئن المستفتي لعلمهم، فإن لم يطمئن لهم،فلن يقبل فتواهم، حتى ولو صدرت عن مؤسسة، إذ العالم المجتهد برأي الشرع هو من يراعي في الإفتاء مقاصد الشريعة،... فإن كان في مآلات الجواب ما قد يثير فتنة المجتمع أو يجلب عليه مفسدة، حُجبت الفتوى لمقصد عظيم هو أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وهذا أمر واجب يلزم أن يتساوى فيه الفقيه والعالم والمفكر والكاتب وغيرهم (فردا ومؤسسة)، لا أن يلزم به البعض دون الآخر.
إن حماية المجتمع من الفتنة ليست أمرا مقتصرا على الواعظ والفقيه فقط، بل يتجاوزهما، إذ العالم الحق في نظر الشرع هو من يراعي كل المقاصد ويعمل كل القواعد والموازنات قبل الإجابة عن السؤال، وتاريخ المغرب شاهد على العديد من العلماء ممن عرضت عليهم قضايا عديدة فلم يجبوا عنها، ورعا وخشية من الفتنة، وذلك قدوة بإمام دار الهجرة، إما لأن السؤال نازلة يحتمل وقوعها (أي أنها غير واقعة أثناء وضع السؤال)، أو لأن السؤال لا يترتب عليه عمل، وتلك ميزة علماء الغرب الإسلامي عبر التاريخ، إذ لم يكونوا ليصدروا فتاواهم إلا لمستجدات ووقائع لها خصائص عديدة منها :
- الوقوع بمعنى الحلول والحصول، كتعبير عن حراك اجتماعي مهما اختلفت دافعه سواء كان سياسيا أو اقتصاديا أو فكريا...، فهو يعبر عما جرى في جزئه أو عمومه، وبالتالي الكشف عن السياق الداعي لإصدار الفتوى؛ - الجدة بمعنى عدم الوقوع من قبل، إذ النازلة يتغير حكمها وفتواها باختلاف الزمان والمكان والحال، وهي عناصر كافية لتجعل لكل نازلة فتواها، بل لتجعل من النازلة في حالة تكرار وقوعها تعبير عن واقع اجتماعي وتاريخي مستمر؛ - الشدة بمعنى الإلحاح والحاجة في استدعاء الحكم الشرعي أي الفتوى، وهو ما يجعل النازلة المعروضة على الفقيه غير قابلة للتأخير أو الإهمال أو التأجيل حتى زمن آخر، لأنها تعبير عن زمانها ووقتها، بل وتعبير عن حال أصحابها، فيكون العالم مطالب بتقديم جواب عنها ومجتهد في تحري حكمها الشرعي، لجهل المستفتي بحكمها سواء كان هذا المستفتي فردا أو جماعة. لقد ظلت الفتوى في تاريخ المجتمع المغربي المسلم مرتبطة بشخصية العالم وما يسبقه وما يحيط به وما يخلفه من أخبار حميدة ترافق سيرته وعلمه...، بدليل أن الإفتاء لم ينقطع في تاريخ الأمة بل ظل مستمرا، سواء في لحظات الشدة أو الرخاء، بل لقد كان أقوى خلال فترات الضيق والضعف، حيث ظلت كل فئات المجتمع -كما الأمراء عبر التاريخ-يستفتون العلماء المجتهدين في كل نائبة تعرض لهم... 6- كيف برأيكم ضبط حالة التسيب في إصدار الفتوى؟ وماهي الإجراءات اللازم اتخاذها لذلك؟ إن الدعوات المعلنة اليوم لوقف حالة التسيب في إصدار الفتوى، لا يمكن أن يحالفها الصواب إلا إذا حصل: - التمييز في المفتي بين الواعظ والعالم وغيرهما، ذلك بأن كل عالم هو واعظ وليس العكس، والأحق بالإفتاء هو العالم، أما الواعظ فمهمته التذكير والإرشاد، - التمييز في الإفتاء بين التكليف الشرعي والتكليف الوظيفي، ذلك بأن كل مكلف شرعا بالإفتاء هو مكلف وظيفة حتى وإن لم ينصب لها وليس العكس ضرورة، - التمييز في الفتوى بين تلك الصادر عن العالم وغير العالم (...)، إذ كل فتوى صادرة عن غير العالم تحال إلى العالم المجتهد قبل مناقشتها والعكس ليس صحيحا. وقتها سيكون المجتمع أقوى على التمييز على من سيعرض أسئلته ونوازله، بل وأقدر على الأخذ ببعضها وترك بعضها الآخر، ليس لعلمه الشرعي الذي قد يكون لبعض أفراده، ولكن لعدم الاطمئنان للمفتي، حتى ولو كان المفتى مؤسسة وليس فردا، إذ المجتمعات اليوم أنبه وأقدر على التمييز، وأبعد من أن يستغفلها أحد سواء باسم الدين أو باسم الحداثة أو غيرهما.
إن الفتاوى الشرعية الصادرة عن العالم المجتهد مهما كانت مزعجة للبعض، يكتب لها القبول في الأرض، وإن لم يكن العالم المجتهد منتميا لمؤسسة، لأن فتواه إخبار عن الله كالنبي واجتهاده تكليف شرعي ليس له فيه اختيار سواء وافق رأي البعض أو عارضه، بل إن اجتهاده الشرعي عند عدم البوح به يعتبر شرعا آثم، لذلك فالأمر ليس اختيارا أو تباريا بين من سيكون له شرف الفتوى، أو ستكون فتواه أقرب إلى قلب المجتمع، بل الأمر أعمق من ذلك بكثير. إن الذي يمكنه أن يحد من ظاهرة الإفتاء الارتجالي، ليس المنع أو الزجر ولا التعسف في ممارسة سلطة ما، بل هو تشريف العلماء المجتهدين بعدم تقييدهم، بل بدعوتهم إلى أداء دورهم في الترشيد والنصح بوصفهم ورثة الأنبياء، وحماية مكانتهم بما يعينهم على القيام بتكليفهم الشرعي، بل وصيانة وضعهم الاعتباري كسلطة مستقلة عن كل إكراه أو وصاية نصحا للأمة والحكام. 7- هل من كلمة أخيرة أستاذ من فضلكم؟ إن الأمة لا تكون بخير إلا إذا كان لها علماء مجتهدون، من قبيل ما علم منهم عبر تاريخ المغرب، ليس لكونهم كانوا أكثر إفتاء وقولا، أو أكثر عددا وعدة، بل لأنهم كانوا الأدق دليلا وحجة، والأكثر ورعا وجِدة، والأحرص قسطا وشدة. لذلك فإن الإفتاء ليس مهنة يَنتصب لها أو يُنصب لها كل شارد أو وارد، بل هي تكليف شرعي بحكم حيازة العلم الشرعي وقدرة على الاجتهاد. وإذا علم هذا، علم وقتها أنه لا حاجة للقول (أن من لا يمتهن الإفتاء يجب أن لا يفتي)، وعلم كذلك أن الأقدر على إعطاء صفة الفتوى ووسام الإفتاء، ليس الإعلام ولا حتى الأشخاص المستفتون ولا الشواهد أو المؤسسات، بل إن الأقدر على إعطاء هذه الصفة هو الاجتهاد إجابة على نوازل مستجدة ووقائع طارئة بما يحمي وحدة الأمة ويصون أمنها وفقا للشرع عدلا وقسطا. إذ العلماء قرروا أنه لا يتعاطى للفتوى إلا الثقاة العدول، والفقهاء المدققون المستكملون لشروط التكوين، مما يعني أن الإفتاء مهمة خطيرة في الأمة وجب صيانتها بالعلم، لأن الفتوى مسؤولية وليس حرية.