ان جوهرَ المشكلةِ التعليميةِ في المغربِ، منذ الاستقلالِ الى الآن، هو غيابُ مشروعِ أمةٍ، يراعي خصوصيةَ المجالِ التداوليِّ المغربيِّ بعمقهِ التاريخيِّ وحاضرهِ المتنوعِ، لهذا كثرُ التخبطُ والارتجالُ واستيرادُ المناهجِ والبيداغوجياتِ والحلولِ الجاهزةِ من دول أخرى، وخاصةً فرنسا، فأصبحت سفينةُ التعليمِ بلا بوصلةٍ، وأصبحتْ معها المدرسةُ المغربيةُ كعقدٍ انقطعَ خيطُه. لقد نهبت فرنسا خيراتِ البلدِ وقتلتْ وشردتْ أبناءَه لأزيد من 44 سنةً، دون أن يطرفَ لها جفنٌ، ولم تشأْ أن توقعَ قرارَ الاستقلالِ على بياضٍ، بل عملتْ جهدَ المستطاعِ على حمايةِ مصالحها الاقتصاديةِ بالدرجة الأولى عبرَ المعاهداتِ والاتفاقياتِ الموقعةِ مع المغربِ، وعبر ترسيخِ ثقافتها عملاً بالنظريةِ الاستعماريةِ التي ترى أن "من تكلم لغتكَ استهلكَ منتاجاتك"، يشهدُ على ذلك الحضورُ المخيفُ للشركاتِ الفرنسيةِ في قطاعاتٍ حيويةٍ، أصبحتْ تهددُ السيادةَ الوطنيةَ، كقطاعِ الماءِ والكهرباءِ والاتصالاتِ والمواصلاتِ والحليبِ والنظافةِ والابناكِ... كما عملتْ على الهيمنةِ الثقافيةِ، وهي أشدُّ فتكا وخطراً لأنها تصنعُ مواطناً يتفاعلُ وجدانياً مع فرنسا، حتى اذا سقطتِ الأمطارُ في باريسُ فتحَ مظلتَه في الدارِالبيضاءِ كما يقال. هكذا ظلتْ فرنسا عبرَ النخبةِ التي كونتها في المدارسِ والجامعاتِ الفرنسيةِ، تملكُ نفوذاً قوياً على قطاعاتٍ حيويةٍ في المغربِ، منها القطاعُ الاقتصاديُّ والاداريُّ والتعليميُّ والاعلاميُّ. ورغمَ التنازلاتِ التي قدمتها هذهِ النخبةُ تحتَ ضغطِ النضالاتِ الشعبيةِ التي خاضها المغاربةُ في الستينياتِ والسبعينياتِ، الى أنها خرجتْ منتصرةً، بعد فرملتِها لمشاريعِ الاصلاحِ الوطنيةِ الكبرى، ومنها مشروعُ تعريبِ التعليمِ والادارةِ، كما حاصرتْ لغاتٍ أجنبيةً أخرى كالاسبانيةِ التي تكادُ تختفي من المغربِ، مع ما كبدنَا ذلك من خساراتٍ على المستوى الدبلوماسيِّ والثقافيِّ، مع العلمِ أنَّ الاسبانيةَ تحتلُ المرتبةَ الثالثةَ عالمياً، وتتنبأُ الدراساتُ المستقبليةُ بهيمنتِها في المستقبلِ القريبِ. ولم يقفِ الأمرُ عند هذا الحدِّ، بل عملتْ فرنسا بواسطةِ ذراعِها الاعلاميِّ في المغربِ على تهميشِ واحتقارِ تاريخِ المغربِ ولغاتِه وخلقِ صراعاتٍ جانبيةٍ بينَ اللغاتِ واللهجاتِ الوطنيةِ، وايهامِ الناسِ بأن لغاتِهم الوطنيةَ عاجزةٌ عن ولوجٍ عالمِ الحداثةِ والتكنولوجيا، واشترتْ من يروجُ لأطروحةِ "الفرنسية غنيمة حرب" ليخلو لها الجوُّ وتتربعَ على عرشِ اللغاتِ في المغربِ باعتبارها لغةً فوق وطنيةٍ. وفي هذا السياقِ جاء توقيعُ وزارةِ التربيةِ الوطنيةِ اتفاقيةَ التعاونِ مع وزارةِ التعليمِ الفرنسيةِ، وأهمهمُ بنودِها تعميمُ ما يسمى تدليساً ب"الباكالوريا الدولية" على جميعِ النياباتِ التعليميةِ. والنعتُ الحقيقيُّ الذي يمكنُ وصفُها بهِ هوَ "الباكلوريا الفرنسية" التي لاوجودَ لمثلِها حتى في فرنسا نفسِها، وكأنَّ هذه الباكالوريا هي مفتاحُ الفرجِ الذي سينقذُ المنظومةَ التعليميةَ المغربيةَ من أعطابِها، مع العلمِ أن الهدفَ منها، أولاً وأخيراً هو التفريقُ بين أبناءِ المغاربةِ، وتهيئةُ زبدةِ المدرسةِ المغربيةِ من التلاميذِ المتفوقينَ الى الالتحاقِ بالجامعاتِ الفرنسيةِ لاستكمالِ دراستِها، مع مخاطرِ استقرارِها الدائمِ هناكَ. والاحصاءاتُ تشيرُ الى أنُّ هناكَ حوالى32000 طالبٍ مغربيٍّ يتابعونَ دراستَهم في فرنسا، قلةٌ منهمْ هي التي تعودُ الى المغربِ. وهكذا يقدمُ المغربُ لفرنسا معادنَ نفيسةً بعدما سهرتِ الدولةُ لسنواتٍ على اعدادِها، مع حاجةِ الشعبْ المغربيِّ الماسةِ الى سواعدِ كلِ أبنائهِ، وكأن هذه الوزارةَ تعيشُ في جزيرةٍ منعزلةٍ عن حكومةٍ جاءت تحتَ ضغطِ الارادةِ الشعبيةِ التي كانت تنادي بمحاربةِ الفسادِ واعادةِ الاعتبارِ للهويةِ المغربيةِ المتعددةِ. ان الفرنسيةَ التي يبشرُ بها حواريو مولييرَ الجددِ لم تستطعْ أن تخرجَ أغلبَ الدولِ التي تبنتْها من أعماقِ التخلفِ، ولنذكر بأن هناكَ خمسَ عشرةَ دولةً في افريقيا تتبنى الفرنسيةَ لغةً رسميةً، منها بنين والنيجر ومالي وبروكينا فاسو والغونغو والغابون وغينيا والطوغو والسنغال وبروندي ورواندا ومدغشقر. في مقابلِ ذلكَ يقررُ اللسانيونَ الاجتماعيونَ من خلال دراساتِهم لعددٍ كبيرٍ من السياساتِ اللغويةِ عبرَ العالمِ أنَّ الدولَ التي استطاعتْ تحقيقَ نهضةٍ شاملةٍ هي تكلمُ الدولُ التي تبنتْ سياسةَ التفردِ اللغويِّ المنفتحِ منها اليابانُ وكوريا الجنوبيةُ وتركيا وكلُّ الدولِ الاوربيةِ. ويكفي أن أقدمَ مثالاً هو "ايسلاندا" لعلنا نتعلمُ من هؤلاءِ بعض ايجاياتِهم، لأننا للأسفِ الشديدِ لا نأخذُ منهم الا السلبياتِ. لا يتجاوزُ عددُ سكانِ ايسلاندا سنة 1998 أكثرَ من 277000 نسمةٍ. واللغةُ الايسلانديةُ من عائلةِ اللغاتِ الاسكندنافيةِ. ويعتبرُ نحوُها من أعقدِ الأنحاءِ في العالمِ. كما أنها من أكثرِ اللغاتِ التي حافظتْ على بنياتِها في أروبا لدرجةٍ أنها وصفتْ ب"متحف لغوي حي"musée linguistique vivant " .وتتميزُ اللغةُ الايسلنديةُ عن غيرِها من اللغاتِ الأوروبيةِ بالنقاءِ المعجميِّ، حيث تعملُ على وضعِ الكلماتِ والمصطلحاتِ الجديدةِ عن طريقِ الاشتقاقِ والقياسِ على كلماتٍ قديمةٍ في الايسلنديةِ. وقد تعرضتْ ايسلاندا للاستعمارِ الالمانيٍّ ثم الأمريكيِ. وبعد حصولِها على الاستقلالِ سنة1944 عملتْ الدولةُ على عصرنةِ اللغةِ الاسلنديةِ بترسيمِها وتطويرِ معجمِها البدائيِ الذي يعودُ الى القرونِ الوسطى، من أجلِ مواكبةِ التطوراتِ العلميةِ والتكنولوجيةِ. وفرضتْ على جميعِ المؤسساتِ التعليميةِ التدريسَ باللغةِ الايسلنديةِ من رياضِ الاطفالِ الى الجامعةِ، في جميعِ التخصصاتِ العلميةِ، كما فرضتْ على الادارةِ والاعلامِ ذلكَ. وتعملُ الجرائدُ الوطنيةُ على نشرِ لائحةٍ بكلِ المستجداتِ المعجميةِ التي تضعُها "لجنة اللغةِ الايسلانديةِ"la Commission de la langue islandaise والتي تسعى جاهدةً الى رفضِ كلِ المصطلحاتِ العلميةِ ذاتِ الأصولِ اللاتينيةِ واليونانيةِ، أو غيرهما من اللغاتِ المعاصرةِ. فهي من اللغاتِ القليلةِ في العالمِ التي تسمى الهاتفَ ب simi المشتقةِ من كلمةِ "أرسل" الايسلنديةِ، وتسمى الحاسوبَ ب tolva و الفاكسَ ب" sembref " بخلاف أغلبِ اللغاتِ الأوربيةِ. ومع كلِّ هذه الصعوباتِ استطاعتْ ايسلاندا أن تحققَ مراتبَ متقدمةً جداً في سلمِ التنميةِ البشريةِ، ويعدُ نظامُها التعليميُّ من أحسنِ النظمِ في العالمِ، كما تعتبرُ من الدولِ القليلةِ في العالمِ التي تصلُ فيها نسبةُ هجرةِ الأدمغةِ الى الصفرِ. نكررُ القولَ بأن غيابَ رؤيةٍ وطنيةٍ للمسألةِ التعليميةِ تعيدُ الاعتبارَ للغاتِ الوطنيةِ عربيةً وأمازيغيةً في كلِ مجالاتِ الحياةِ سيجعلنا ندورُ في حلقةٍ مفرغةٍ، والوقتُ لا يرحمُ، والأجيال تضيعُ، ولاحولَ ولاقوةَ الا باللهِ. *الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية