من المعلوم أنّ المجلس التنفيذي لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة كانَ قدْ قرّر إدراج اليوم العالمي للغة العربية، وهو »18 دجنبر من كل سنة«، ضمن الأيام الدولية التي تحتفل بها اليونسكو، وكان ذلك بطلب من المغرب والسعودية، خلال انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو قبل أسابيع. وقدْ ثمّنت المنظمة الأممية ما قدمته الدول العربية من عمل إيجابيّ، وتلك التي تتخذ من العربية لغة رسمية، ومن تأكيدات لحفْظ وصوْن اللغة العربية والاحتفاء بها. واعتبرت المذكّرة التوضيحية للمنظمة الأممية بهذا الخصوص، أنّ اللغة العربية أكثر اللغات السامية استخداما، وإحدى أكثر اللغات انتشارا في العالم، يتحدثها أكثر من 422 مليون نسمة. وقالت المذكرة أن انتشار الإسلام أثر في سمو مكانة اللغة العربية، وأصبحت لغة السياسة والعلم والأدب لقرون طويلة في الأراضي التي حكمها المسلمون، وأثرت العربية تأثيرا مباشرا أو غير مباشر على كثير من اللغات الأخرى في العالم الإسلامي. واعتبرت المذكرة أن اللغة ليست مجرد أداة للاتصال، فهي تمثل نسيج التعبيرات الثقافية وهي الحامل للهوية والقيم ورؤى العالم، وهي وعاء التنوع الثقافي والحوار بين الحضارات، وتمد الجسور لتوثيق العلاقة بين المجتمعات وإثراء تنوع أشكال التعبير والتفاعل وتبادل الدعم والتمكين، وتقع اللغة العربية في صميم هذا التوجه بما لديها من مخزون لفظي من اللغات الأخرى. وإذا كان عدد من المؤسسات الثقافية والتعليمية، داخل المغرب وخارجه، قد أعلنت عن عزمها تنظيم أنشطة احتفائية تخلّد هذا اليوم العالمي، فإنّ ذلك لا ينفي كوْن اللغة العربية لا تحتل المكانة اللائقة بها، أو على الأقلّ تعيش ضمن سياق من المفارقات. ذلك أنّ المجتمع الدولي بدا كما لو قام ب»جَبْر خاطر» البلدان العربية بتخصيص يوم احتفاليّ قد يكون شكليا فقط. ففي كثير من اللقاءات السياسية والثقافية والاقتصادية، لا تكون لغة رسمية في التخاطب، بل في بعض الأحيان لا تجشّم بعض البلدان الغربية نفسها عناء استقدام مترجمين فوريين وتفرض على «الضيوف العرب» القيام بمجهود لفهم ما يجري. بلْ إنّ حتى بعض الأشقاء العرب يفرضون الحديث بالإنجليزية رغم وجود أغلبية عربية في لقاءاتها. ومن المفارقات كذلك أنّها، رغم كونها لغة رسمية، فإنّ وضعها مأساويّ في المؤسسات التعليمية التي تُلقى فيها دروس العربية بالدارجة، ولا تكاد تجدها ضمْن دروس التقوية المنتشرة في البلاد، قياسا إلى اللغات الأخرى. والطّامّة الكبرى أنّه إذا تأمّل المرء اللوحات الإشهارية في مختلف شوارعنا، سيدرك مدى مأساوية، بلْ وسخرية المشهد اللغوي الذي تتحرّك فيه العربية: ذلك أنّ الإشهار المكتوب باللغة الفرنسية من المستحيل أنْ تجد فيه خطأ لغويا، ولا يخاطبون إلا بالشكل الرسمي للغة، رغم أننا في المغرب، في حين أنّ المُخاطَب العربي في المغربي يكتبون له بالدارجة المغربية. قدْ يكون الأمر مفهوما إلى حدّ ما بالنسبة للراديو، لأنّ بعض المواطنين لا يفهمون العربية، وبالخصوص في صفوف الكبار والمسنّين وساكني القرى النائية، أمّا اللوحات الإشهارية، فإنّ مَنْ لا يستطيع القراءة، لا يقرأ لا بالدارجة ولا بالعربية، ولستُ أدري مَن هو المخاطب. بلْ لقد حدث لي شخصيّا أنْ عجزتُ عن فهم رسالة إشهارية اعتقادا منّي أنني أقرأ لغة عربية، ولمْ أَعِ بسذاجتي حتى قرأتهاُ بالدارجة المغربي. وفي الكثير من الندوات واللقاءات التي يحاول أنْ يتحدّث فيها الأجنبيّ باللغة العربية، يضحك الحضور متسامحا من الأخطاء التي يرتكبها، وتمرّ مرور الكرام، في حين إذا ارتكب عربيّ أبسط خطأ في التعريف أو التذكير أو الجمع، فإنه يُنظر إليه نظرة عدائية. صحيح أنّ العقود الأخيرة شهدتْ حضورا مكثّفا للغة العربية على شبكة الأنترنيت، وفي الفضائيات العربية، لكنّك لا تكاد تجد مكْنَزا لغويا، أو قاعدة معطيات لغوية ومعجمية حقيقية، كما هو الشأن في الفرنسية والإنجليزية، ولا تكاد تجد موقعا تركيبيا ومعجميا تفاعليا، ولا تكاد تجد معاجم علمية في مختلف التخصصات، على الأقلّ بالسهولة التي تجدها في لغة أخرى بما فيها الأقلّ استعمالا في العالم. بلْ حتى الموسوعة الإلكترونية «ويكيبيديا» لا توجد فيها العربية في بعض الموضوعات. أما مشكل المصطلح وكيف يُنحت ويُدرج ليسّهل البحث على القارئ العربي، فلا مجال للحديث عنه، لكونه بكلّ بساطة يعرف فوضى لا مثيل لها. إلى حدّ يمكن القوْل معه بأنّ اللغة العربية واحدة من أكثر اللغات تسيُّبا في العالم: كلّ واحد، من الأدب إلى العلوم، يمكنه أنْ يترجم كيف شاء وينحت كيف شاء، معجميا وتركيبيا، ولا أحد يحاسبه، في حين أنّ لغة مثل الفرنسية مثلا لا يمكن تغيير شكل الحرف أو العائد أو المذكّر الخ دون موافقة الأكاديمية الفرنسية. ولا زلنا نذكر النقاش القويّ الذي عرفته فرنسا، في التسعينيات، حوْل إحداث تعديل في الربط النّحوي، في الماضي المركّب، حين يتقدّم المفعول به على الفاعل. وهي الصعوبة التي يجدها التلميذ في تعلّم هذه القاعدة....ومع ذلك لمْ يجْرِ هذا التعديل. إنّ العربية تحتاج إلى مؤسسات حقيقية تخدمها وتراقبها وتطوّرها بشكل حقيقيّ، خلافا للمجاميع العربية «القومية» التي تُجُوِّزتْ. اللغة العربية لا تحتاج إلى شعارات واحتفالات فقط، مهما كانتْ نيّتها الطيبة، بقدر ما تحتاج إلى عمل حقيقيّ وقويّ يقوم به المتخصّصون واللسانيون، وتحتاج أكثر إلى نيّة حقيقية لتطويرها، بعيدا عن النزعة المحافظة والنظرة الدينية للغة.