لا شك أن ميزان حضارة الأمم بقيمة المعارف التي تختزنها، وتسعى جاهدة إلى إبرازها من خلال الاجتهاد في الطلب والتحصيل، ورعاية مراكز البحث والإنتاج، ومتابعة الناشئة من المهد إلى ما بعد ذلك من مراحل تُقاس فيها درجات الاستيعاب والتطوير، والقدرة على مواكبة المستجدّ، والإلمام بما يصلح للحال والمآل، ومدى الاستفادة من التطورات الحاصلة في كل زمان ومكان، والنبوغ في ابتكار الرؤى الهادفة التي يتوقف عليها بين الحين والآخر مسار التغير والتطور في الأنفس والآفاق. وهذا يشمل على كل حال قيمة ما نقرأ وما نكتب، لأنه لا خروج في تحصيل المعارف وتداولها عن مسلكين: مسلك التحمّل ومسلك الأداء. فالأول يُعنى بالمادّة التي يتزود بها الباحث والمُطّلع بحسب ما يُناسب قدراته الذاتية والمكتسبة، وأقصد بالأول: المواهب التي حباهُ الله تعالى بها من عقل وبلاغة منطق وفصاحة وكياسة، والثاني: الطرائق المعتمدة في البحث والدراسة والتلقي والاستفادة من المناهج في الارتقاء بالذات والمكتسبات. أما المسلك الثاني وهو الذي إليه المُنتهى: ويتعلق بنَتاج تحمّلك وثمرة تحصيلك، وبم تنفع؟ وكيف تنفع؟ أي كيف تُسهم في الارتقاء بمعارف الناس؟؟ والنظر فيه من وجوه: قيمة المعرفة بالنسبة للناس بقيمة الثوابت الضرورية لاستقامة معاشهم وصلاح معادهم، وهذا لا يحتاج إلى تأصيل، بل قد يخطيء من يظن أنها بمثابة الزوائد والتتمات، والدليل على ذلك ما يفخَرُ به كل مسلم بما تمثله لديه الحاجة إلى المعرفة جبلّة وفطرة واعتقادا وعبادة ومعاملة. إذا كان جوهر الموازنة بين الناس قائما في الميزان العام على تقديم العارف على الجاهل، فمن هنا تأخذ المعرفة بُعدا أساسيا في تحديد أولوية القيمة المعرفية على مستوى الوجود ووظائف الموجود. إنه مما ينبغي ألا يستهان به ألا نبتذل الناس بابتذال معارفهم، وألا نلقي التافه من الرأي والشاذّ من الكَلِم ونخوض به مع الخائضين وقد أربى ذلك على المعتاد، وكلُّه على حساب ركاكة العبارة وابتذال العربية متذرعين في ذلك بثقافة القرب والتواصل المعرفي. إذا كان هنالك من وسائط للتواصل فالأولى المحافظة على اللفظ العربي المكون لأصالة الإنسان العربي، والمثبت لهويته، ومن ثم لا تُرتضى المعارف التي تلقن للناس بلسان العاميّة والتي لا تنبيء إلا بنزول المستوى العلمي والمعرفي لشريحة من الناس. ضوابط المعرفة التي لا يخلو منها كل مجتمع واع تلقي بالمسؤولية واللائمة على كل من يتقلد لحمل لواء الكتابة والبحث وهو لم يتزود بعد بالزاد المعرفي اللائق بلغة التواصل وسياق مخاطبة الناس ومراعاة مستوياتهم. الأولويات في التداول المعرفي ينبغي أن تلقي بظلالها على كتابات أهل المعرفة وخطاباتهم، حتى يحصل التماهي والانسجام بين نتائج الأفكار وحاجة الواقع ، ومن ثم ينبغي مراعاة الحال والمآل، في تداول أي خطاب معرفي دونه النأي عن حاجات الناس وإيثار ما لا يصلح للواقع ولا المتوقع.