بعد مسار طويل و مضطرب، تحول الإسلاميون العاملون في الحقل السياسي، من أنبياء مبشرين إلى حكماء و أساتذة في الواقعية، يرسخون أسس المحافظة على سير الأمور كما هي، يدعمون الجمود و قيم الركود، و يحافظون على استقرار النسق السياسي الذي كانوا يحلمون بتغييره. مناسبة هذا الكلام هو الخرجة التي خرج بها بنكيران زعيم الإسلاميين، ليبشر الناس بالزيادة في أسعار المحروقات و تصفية صندوق المقاصة عن قريب، و إطلاق العنان لمنطق الاقتصاد الليبرالي و عدوانية الرأسمالية و أنياب الرأسمال لتكشر عن نفسها في بلد تابع للاقتصاد العالمي و فقراءه تابعون لمشيئة الخالق و حده. خطوط بنكيران التي استعرضها أمام الشعب هي نفسها التي سمعها الرأي العام ممن مروا قبله في نفس المنصب لا جديد إذن. فالاختيارات العامة لا يستطيع لا هو و لا غيره المس بها. كل ما يمكن للسياسيين الحاكمين فعله هو ترديد تلك الخطوط بأنغام مختلفة و إيقاعات متلونة ،كل سياسي و براعته في البلاغة و فنون الإقناع. زعيم الإسلاميين اليوم يقوم بما لم تستطع الدولة بمؤسساتها وإعلامها و صحافتها و تعليمها القيام به. فالنظام السياسي حين يريد الترويج لاختياراته لا يجد أفضل من زعماء و قادة خريجي الأحزاب المعارضة. زعماء الرفض و الاحتجاج هم نجوم التسكين و التهدئ. رئيس الحكومة هو خريج حركة الشبيبة الإسلامية، ظهرت عام 1969، كانت تؤمن بالسرية و الانقلابية كطريق للوصول إلى السلطة و تطبيق " الحل الإسلامي" ووضع أفكار سيد قطب و أبو الأعلى المودودي قيد التنفيذ. و من هاته الحركة خرجت " الجماعة الإسلامية " التي تأسست عام 1983، و انضمت إليها " رابطة المستقبل الإسلامي" عام 1994 لتظهر حركة " الإصلاح و التوحيد" هاته الحركة أدى اجتهادها إلى تأسيس حزب سياسي يكون واجهة " للجهاد السياسي " هذا الحزب رفض عام 1992، ليكون البديل هو العمل من خلال حزب سياسي قائم كان هو حزب " الحركة الشعبية الدستورية " دخلته مجموعة بنكيران ، و ما لبث أن تغير اسم الحزب إلى حزب " العدالة و التنمية ". كان الهدف من العمل السياسي هو الوصول إلى السلطة لتطبيق شرع الله ،لكن ما لبثت الواجهة السياسية أن ابتلعت باقي الواجهات، و لم يعد يعرف من رفاق بنكيران إلا كونهم من حزب سياسي ذي لون إسلامي ، و أما أخبار الدعوة فعلمها عند الله. دارت الأيام، و احتاج النظام السياسي إلى جيل جديد من الزعماء ليقودوا عملية إنقاذ الساحة من طوفان الربيع العربي فلم يكن أولئك الزعماء سوى " انقلابيو الأمس". تماما كما حدث عام 1998 حينما أسندت الحكومة ل " أكبر تاجر سلاح" كما وصف الراحل الحسن الثاني عبد الرحمن اليوسفي، و ذلك لإنقاذ المغرب من السكتة التي كانت تتهدده. يتميز النظام السياسي المغربي بقدرة غريبة على تحويل زعماء الانقلابية إلى قادة مسؤولين تشرع أمامهم كل الأبواب لمخاطبة الرأي العام و إقناعه بان الجنة تحت أقدام الأمر الواقع و أن الحكمة في المجاراة و المداراة و الروغان و فعل لا شيء. نجوم التوعية و بفعل الزمن يتحولون إلى نجوم للتضليل. لا نقصد بأن الزيادة في أسعار المحروقات و إعلانها تضليلا، بل التضليل هو الإيحاء بأنه لا سبيل لمواجهة الأزمة إلا بالتصفية التدريجية لصندوق المقاصة، و السكوت عن المسكوت عنه من الحقائق التي تنكشف عورتها أمام توالي نشر تقارير المؤسسات و المنظمان الدولية. كان اليوسفي بدوره وافدا إلى الحكم بعد طول مقارعة للنظام، لكن لم يكن متواطئا ضد الرأي العام كما هو شأن زعيم إسلاميي الانتخابات ، كان لليوسفي ثقة بنفسه و رصيده و تاريخ حزبه و حلفاءه. أما بنكيران فهو من النوع الذي يزعجه تاريخه و يسكت عند الحديث عند التاريخ و تقلبات الأفكار عبر التاريخ ، القريب منه على الخصوص. فكلا الرجلان يشتركان في كونهما نماذج لما تفعله " العملية الديمقراطية " بزعماء الرفض ورواد التغيير أو حتى الإصلاح، نماذج لخريجي مدرسة الترويض و التدجين و الإلحاق بمواقع المسؤولية و دوائر الحفاظ على الوضع كما هو ، غير أن زعيم الإسلاميين ينفرد بخاصية الهرولة نحو أركان النظام " المخزني " عند كل صغيرة و كبيرة و التبشير بمنافع الجمود بلسان ذكي و حاذق. و الحقيقة التي لا غبار عليها هي أن الحقل السياسي المغربي كله تحت رحمة أمير المؤمنين، هذه الصفة تجعل من حقل الدولة الحديثة مجرد مدرسة لتحويل الزعماء الشعبيين إلى خدام للملك و لمن يرفض اللعبة التهميش و الإقصاء ، فالأحزاب السياسية هدفها في المذهب الديمقراطي الصراع للوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها . و ما دامت السلطة تعود للملك باعتباره مصدر جميع السلطات، فيبقى للأحزاب دور الصراع للوصول إلى الوظائف ليس إلا. و أما الحكم فهو فوق أن يصله حزب ما أو تحالف مهما كان.لأن الذي يحكم هو الملك و الوزراء أعوان الملك مثلما النواب أعوان الملك، كما قال الملك الراحل الحسن الثاني. من مفارقات السياسة على الطريق المخزنية أن جميع الاختيارات اللاشعبية ،و القرارات المعاكسة لآمال المواطنين لا تجد لها من يواجه بها الرأي العام أحسن من الشخصيات ذات الامتداد الجماهيري و السمعة الحسنة. فمع اليوسفي ذهبت الخوصصة الى ابعد مداها و سلم المواطن لقانون العرض و الطلب و أنياب الليبرالية . و مع زعيم الإسلاميين اليوم تتم تصفية آخر مظاهر تذخل الدولة لفائدة الطبقات المسحوقة. من مظاهر التحكم المطلق للقصر في الحقل السياسي و من فيه، أن ينقلب " قديسو" الطبقات المحرومة و عموم الكادحين إلى خناجر بيد القوى المهيمنة ترتد إلى عموم الضعفاء، في شكل قرارات و مبادرات تبررها " الواقعية" و منطق " اللحظة الحاسمة" ، مغلفة بالدفاع عن الصالح العام. إن النظام السياسي و كل نظام سياسي يقدر ما يحتاج لرموز الحفاظ على الوضع القائم ، و دعامات المحافظة، بقدر ما يحتاج أيضا لرموز " التغيير" و " الإصلاح " ليس لتبديل الاختيارات الكبرى، و لكن لتسويقها و تبريرها و الدعاية لها و كسب التأييد الجماهيري لها و إقناع المحيط بقرارات المركز. زعماء المعارضة و الرفض أفضل لهجة ، و أبرع خطابة و أضمن لربط القاعدة بالقمة رابطة خضوع و إخضاع.