في قرطبة، كما في مدن متوسطية أخرى كثيرة، تتشابه الزوايا وتتقاطع التفاصيل: الجدران البيضاء، الشبابيك الحديدية، الأبواب الخشبية ذات الطابع الأندلسي… كلها شواهد على ذاكرة عمرانية مشتركة، ضاربة في جذور التاريخ الأندلسي. غير أن هذا التشابه البصري سرعان ما ينهار أمام مفارقة صارخة: هناك، في قرطبة ومثيلاتها، تصير الزنقة تحفة يومية؛ وهنا، في طنجة، كثيرا ما تتحول إلى مشروع مؤقت في انتظار التهالك. لسنا بصدد إصدار أحكام، ولا بالتقليل من حجم المجهودات. فطنجة، في السنوات الأخيرة، استفادت فعلاً من برنامج لإعادة الاعتبار لمدينتها العتيقة، بتمويلات مهمة ومواكبة مؤسساتية من مستوى عالٍ. فقد تمت إعادة تبليط الأزقة، ترميم الواجهات، تحسين الإنارة، وتثبيت فضاءات ثقافية وسياحية تعكس وعود النهوض بالتراث. ولعل الصور المتداولة بعد انتهاء الأشغال في بعض الأزقة والساحات تترجم هذه اللمسة الإيجابية التي استعادت شيئاً من روح المكان. لكن، يبقى السؤال مشروعا: هل نملك رؤية تؤمن بأن المدينة العتيقة ليست فقط ورش ترميم، بل كائن حي يتنفس، ويحتاج إلى رعاية دائمة؟ وهل يكفي الزواق الخارجي لاستعادة روح المكان؟ وكيف يمكن تحويل هذه البرامج إلى سيرورة مستمرة، لا إلى مناسبات تُربَط بالزيارات الرسمية أو المواعيد الموسمية؟ في قرطبة، وفي مدن مثل غرناطة، توليدو، فاليتا، نابولي، وحتى بعض أحياء إسطنبول القديمة، لا تُنجز الأشغال لتُنسى، بل لتُصان. هناك، فرق تدخل تتابع الجودة، والمواطن شريك في النظافة والاحترام، والتراث يُعامل كأصل إنتاجي يجب الحفاظ عليه، لا كإرث رمزي فقط. أما في طنجة، فما زالت ثقافة العناية اليومية غائبة، والصيانة الدورية هشّة، والورشة تنتهي حيث تبدأ علامات التشقق. بل إن بعض الأشغال تُنجز بمنطق "السرعة والتلميع"، في غياب لتقييم حقيقي لمردودية النفقات وجودة الإنجاز، وكأن المدينة العتيقة تُدار كفضاء سياحي مؤقت لا كمجال عيش دائم. قد يقول قائل إن طنجة ليست قرطبة، وإن التحديات مختلفة، وإننا بصدد تراكم سنوات من الإهمال يصعب إصلاحه بين عشية وضحاها. وهذا قول فيه قدر من الصحة. لكن من حق الطنجاوي، والمغربي عموما، أن يتساءل: لماذا تفلح مدن متوسطية شبيهة في استعادة أحيائها القديمة وتحويلها إلى محركات تنمية محلية، بينما نظل نحن حبيسي المعالجة الظرفية؟ ولماذا لا توازي الأوراش الكبرى في الميدان أوراشاً موازية في الوعي، في التكوين، في ثقافة العناية والتدبير؟ ليست هناك خصومة مع جهة، ولا موقف مسبق من منتخب أو إدارة. هناك فقط انحياز واضح للمصلحة العامة، وإيمان بأن المال العمومي لا يجب أن يُصرف لتأثيث الواجهة، بل لصون الذاكرة الجماعية. فالزنقة ليست مجرد ممر، بل مرآة لقيمة المدينة في أعين أبنائها وزوارها. والمجال التراثي لا يمكن أن يعيش بالصورة فقط، بل بالاعتراف اليومي بأنه مجال يحتاج إلى سياسة، لا فقط إلى ورش. طنجة تستحق أكثر. تستحق أن تتجاوز منطق الورش إلى منطق الرؤية، وأن تتحول إعادة الاعتبار من مشروع مؤقت إلى ثقافة مؤسساتية ومجتمعية. تستحق أن يُنصت لصوت ساكنتها، لا أن تُستنسخ عليها نماذج عمرانية لا تشبه روحها. فبين قرطبة وطنجة، ومعهما عشرات النماذج المتوسطية، ما زالت الزنقة تقول كلمتها، بلغة العناية، لمن يُحسن الإصغاء. تلك هي البداية… والباقي رهن بما نقرره نحن: أن نبني تراثا يُحترم، لا زينة تُمسح مع أول مطر.