في قلب مدينة طنجة، حيث تنبض الحياة وتتقاطع الحركية الاقتصادية بالعمران الحديث، تقبع حديقة ساحة الأمم كواحدة من أكثر النقاط إثارة للأسئلة. حديقةٌ من المفترض أن تشكّل امتدادا عمرانيا وإنسانيا لساحة مركزية، لكنها تحوّلت إلى مساحة مهترئة، تُختزل فيها كل علامات الإهمال والتفكك الحضري والاجتماعي. وتكفي معاينة بسيطة للفضاء لإدراك حجم التدهور. الكراسي الحديدية المتوفرة في بعض جنبات الحديقة تُرِكت للصدأ والزوال. أجزاء مكسورة، خشب متآكل، وقواعد حديدية تنخرها علامات الزمن والإهمال، دون أي تدخل واضح من الجهات المعنية. الأرصفة التي تحيط بالمكان، سواء للمشاة أو في المسارات الداخلية، لم تسلم بدورها من التشققات والانفصال، مع ظهور أعشاب برية تنبت بين بلاط الحجارة، في غياب تام لأي صيانة دورية. الأشجار هي الأخرى بدت خارج أي برنامج للقص أو التنظيم، بينما توحي الأرضية العشبية بأن عمليات السقي نادرة أو مرتجلة. الحديقة، ببساطة، فقدت مقومات الفضاء العمومي المُجهز، وتحولت إلى قطعة أرض شبه مهجورة، لا تصلح لا للجلوس ولا للنزهة، ولا حتى للعب الأطفال. لكن الجانب الأشد إثارة للقلق، لا يقتصر على الإهمال المادي. فمع حلول المساء، تبدأ ملامح أخرى في البروز. تظهر تجمعات لشبان يافعين، بعضهم في حالة غير طبيعية، يجلسون في زوايا بعيدة عن الإنارة، أو يتحركون بين الشجيرات في شبه تخفٍ. وبحسب شهادات ميدانية، فإن الأمر لا يخلو من تعاطٍ للمواد المخدرة، في ظل غياب المراقبة الأمنية أو تدخل الجهات المسؤولة عن حماية الفضاءات العمومية. إحدى الحوادث المسجلة، يرويها أحد العابرين، حيث صادف شابين مراهقين يعبثان بمولد كهربائي قريب من الحديقة، في محاولة واضحة لقطع التيار عن الفضاء، وخلق منطقة مظلمة تتيح لهم ما لا يستطيعون فعله في وضح النهار. وهذا الحادث لم يكن معزولاً، بل يأتي في سياق تكرار محاولات التخريب في عدد من تجهيزات المكان. وفي الزاوية الأخرى من الحديقة، وخصوصاً بمحاذاة بعض الممرات الخلفية، تُسجَّل باستمرار تحركات لنساء يُشتبه في امتهانهن الدعارة. بعضهن ينتظرن طويلا قبل أن يصعدن في سيارات متوقفة، أو يرافقن أشخاصا باتجاه عمارات قريبة من الموقع. هذه المشاهد تتكرر بشكل يومي تقريبا، لتضيف بعدا اجتماعيا وأخلاقيا آخر إلى الوضع المتدهور للحديقة. كل هذه المظاهر تحدث في مساحة لا تبعد سوى أمتار قليلة عن شوارع حيوية ومؤسسات اقتصادية وتجارية كبرى، ما يزيد من حدة المفارقة. فبينما يُفترض أن تكون الحديقة مرآة لجاذبية المدينة، أصبحت اليوم محيطا خانقا لا يعكس سوى التراخي في التدبير، والفراغ في المراقبة، وتراجع قيمة الفضاء العمومي في السياسة الحضرية. والغريب في الأمر، أن المدينة تخصص سنوياً ميزانيات ضخمة لتدبير وصيانة المناطق الخضراء. فحسب معطيات المجلس الجماعي، تمت برمجة ما يزيد عن 75 مليون درهم لهذا القطاع، إلى جانب اعتمادات إضافية قاربت 4 ملايين درهم سنة 2024 فقط. إلا أن الواقع الميداني يطرح علامات استفهام كثيرة حول نجاعة صرف هذه الميزانيات، ومدى أثرها الحقيقي على الفضاءات المعنية. حديقة ساحة الأمم ليست فقط فضاء متدهوراً، بل مرآة تعكس ما يجري عندما تُهمل المدينة عصبها الحيوي، وتُسلَّم مساحاتها العمومية للفراغ، والتسيب، والاستعمالات المنحرفة. إنها صورة مُصغّرة لفشل صامت، يتكرّر بصمت، ويُرى كل يوم… لكن لا أحد يتحرك.