بعدما حفظ القرآن عن ظهر قلب، والتهم متون ابن عاشر، والألفية والآجرومية على يد فقيهه المبجل "الصيدي" بإحدى دواوير بني عروس، قرر أبي مغادرة الجبل نحو المعهد الديني بالعرائش بإيعاز من الفقيه. هناك سيلتقي بالأستاذ عبد الملك ويحدثه مطولا عن القائد السياسي علال، تأثر به كثيرا وانضم إلى حزبه العتيد، حتى صار أبي متيما بزعيمه البطل، يقبل يديه كلما حل ضيفا على مقر الحزب بالمدينة. نهل من فكره الوطني في ظل وضع محتدم وأجواء رهيبة، إذ كانت البلاد قاطبة تعيش تحت وقع إرهاصات الاستقلال. بعد ردح من الزمن سيتخرج والدي من مدرسة المعلمين بتطوان رفقة زميله شكري الذي لم يكن معروفا وقتذاك، ويشرع في العمل كمدرس بمركز سيدي اليماني. أصبح جدي هاريز فخورا بإبنه الموظف الذي ذاع صيته وسط القرية، غمرته فرحة عارمة وهو يتلقى التهاني والتبريكات من كل جهات القبيلة، حتى صار إسم إبنه حديث الساعة تتداوله ألسنة ساكنة بلدة "الخربة" وضواحيها. عندئذ، أمسك جدي ببندقيته مطوقا كتفه بزعبولة جلدية حمراء، مرتديا جلبابا قصيرا يكاد يتجاوز ركبتيه، مرصعا بورود حمراء ناصعة، ومعتمرا عمامة ذات لون أصفر غامق. فجأة قام بقفزة "تبوريدة" بارعة في فناء الدار مطلقا مواويل بلكنة جبلية، وصيحات مدوية تعبيرا عن فرح باذخ، قبل أن يصوب بندقيته نحو السماء وكأنه قناص محترف، فيطلق ثلاث طلقات نارية في الهواء. ذلك أن هاريز كان مولعا بالبارود ويمجد بندقيته إلى حد الهوس. يعتني بها كثيرا، ويقوم بتلميعها بقطعة قماش أسود كل مرة، كما كان يضرب له ألف حساب بين قومه، كأحد رماة سوماتة الصناديد الذين أبلوا بلاء حسنا خلال فترة مقاومة الاستعمار الإسباني. حينما فرغ من أداء رقصاته الفلكلورية، وضع محفظته وسلاحه جانبا، ثم برح المكان متجها نحو مسجد البلدة، يمشي مزهوا بعكازه بين أقاربه ورفاقه الفلاحين وسط المدشر، وكأنه طاووس منتفخ الريش. عندما يلفه السأم بشراهة، يمسك أبي بكتاب ضخم يسمى "طبيبك معك". الكتاب عزاؤه الوحيد في الصباح الباكر بعد المصحف. كان قد اشتراه من إحدى مكتبات طنجة، وصار مهووسا بقراءته إلى حد الإدمان، وكأنه بمثابة دليله المعرفي يمتح منه كل فوائد التغذية الصحية. غالبا ما يتناول أبي خبز شعير مقشور مع زيت زيتون خالص بنهم، ويحتسي أكواب شاي أخضر كل صباح. حينما يفرغ من وجبة فطوره البلدي، يلجأ إلى السوق لاقتناء خضار طازجة من فلاحين يفدون على المدينة كل خميس من قرى مجاورة، ثم يعرج بعدها على كشك حلوى "طورون" بالسوق الداخل لشراء قطعة منها لزوجته المدللة وهي في زهرة شبابها، ذلك أنه لازال حديث العهد بالزواج، وللتو جلب والدتي معه إلى طنجة من قبيلة سوماتة الجبلية. يواصل طريقه على مهل سالكا أزقة ضيقة مشيا على الأقدام في المدينة العتيقة. ما أن يقتحم عقبة باب القصبة حتى يبدو مجهدا يلهث من شدة التعب، والعرق يرشح من جبينه بغزارة بما يحمل من أكياس مثقلة، ثم يقصد المرور على حانوت صغير متواضع لصديقه اليهودي "ليفي"، الذي يمارس مهنة الخرازة بتفنن بديع، ليستريح ويدردش معه قليلا، قبل أن يستعيد أنفاسه ويتابع سيره في تؤدة عائدا إلى بيته المطل على مقبرة مرشان. يصعد أبي سطح البيت، ليفترش بساطا من جلد خروف مملوء بصوف ناعم، فيتمدد فوقه مثل مومياء هامدة، مرتديا بدلته الفاخرة مع ربطة عنق أنيقة، هكذا كان هندامه كمدرس زمن مطلع الاستقلال. بعدئذ، يستجمع شتاته، فيجلس متربعا رجليه ملقيا بصره على القبور. يتمعن قليلا. هناك وراء المقابر يوجد البحر، وما بعده تلوح بلاد النصارى في أفق بعيد. يرفع أبي كفيه إلى السماء متضرعا إلى الله، يشرع في ترتيل آيات من القرآن ترحما على الموتى، لسانه يلهج بذكر الله على الدوام. لا يلبث أن يغيب في تفكير عميق وكأنه يريد أن يستذكر الموت والفناء. لطالما عاتبته أمي على اقتناء بيت بجوار الموتى، مطل على مقبرة موحشة بحي مرشان، وكأن طنجة ليس فيها بيت شاغر للبيع سواه. لكن أبي لا يأبه بكلام النساء. على الرغم من ورعه وابتسامته التي لا تفارق محياه، حين يغضب والدي يتحول إلى شخص عصبي عنيد، فيخاطب والدتي بتشنج واضح قائلا: أنتن معشر النساء تكفرن العشير وأكثركن من أهل النار. فتظل جامدة مطأطأة الرأس، وفي محاولة يائسة منها، تحاول أمي أن ترد عليه بصوت منخفض، فيقمعها بشدة صائحا في وجهها مزمجرا: أخرسي أخرسي! لا أريد سماع صوتك! سرعان ما تدلف أمي إلى غرفة النوم في حزن باد يمزق قلبها، ودموع تنهمر على وجنتيها، فتقفل الباب بهدوء لتنهمك في بكاء شديد…