أغلق الهاتف بعد أن أنهى المكالمة مع إدارة الإسعاف، وأخبرهم عن عنوان الزقاق الذي يترنح فيه الشاب دون أن تنم عنه حركة.. بدأنا ننظر إلى بعضنا البعض صامتين كأننا أصبنا بالخرس. ونلقي بين الفينة والأخرى نظرة إلى الشاب لقد كان منظره يدمي القلب.. مرت خمس دقائف وقد وطدنا العزم على أن تقدم سيارة الإسعاف بعد ساعتين على الأقل..هذا إن قدمت..وإذا بنا نسمع صوت سيارة الإسعاف يكسر هدوء الليل مرت بشارع جانبي..ويبدو أن السائق لم يعرف الموقع الذي نتواجد فيه بالتحديد. استغربنا لسرعة استجابة الإسعاف. لم نصدقا الأمر..وكأننا في سويسرا أو الدنمارك ولسنا في المغرب..فما زال الخير في البلد.. لكن للأسف تجاوزتني سيارة الإسعاف..ولفّتنا الحيرة.. - لقد فشلت الخطة وكل ما هندسناه انهدم على رؤوسنا..ومازلنا ندور في حلقة مفرغة.. استدرك حمزة الموقف قائلا بسرعة : - علينا بالجري حتى نلحق سيارة الإسعاف. - حسنا..أنت اجري من ذاك الشارع وأنا من هناك ونلتقي عند مفترق الطرق.. لم نستطع أن نلحق أثر السيارة..التقينا في مفترق الطرق ونحن نلهث واليأس قد طرق قلوبنا.. تساءلت : - هل نرجع إلى حيث الشاب ملقي، أم نعود من شارع آخر ونذهب إلى بيوتنا ونغرق في النوم في هذا الجو البارد فربما يراه شخص اخر غيرنا ويقوم بعمل أفضل منا.. لحظات وسيارة الإسعاف تعود القهقرى من نفس الشارع التي ذهبت منه..اعترضنا طريقها وأخبرنا السائق والشخص الذي بجنبه، أننا من اتصلنا بهم.. صعد حمزة في السيارة ليرشدهم للمكان فيما انا أسرعت مشيا إلى مسرح الواقعة التي تنظر بليل طويل.. فوصلت قبله وداخلني الرعب من جديد وجها لوجه أمام الجثة الهامدة أمامي.. أين حمزة والسيارة ؟ ما سبب التأخير ياترى؟ أيكون وقع المحظور ووقع ما خشيت منه، تم استدعاء الشرطة من طرف سيارة الإسعاف وتم أخذه وكشف عن مكان تواجدي..فهم الآن قادمين في أثري.. لا أريد أن أقضي آخر أيامي خلف القضبان وتتشوه سمعتي الأكاديمية والصحفية والأدبية، وأنا الذي أنتظر طبع أول باكورة من أعمالي الأدبية بعد أشهر قليلة.. لقد انتهيت وضاع مستقبلي وحرقت نفسي !! حدثتني نفسي اللعينة: - فكر في المخرج، فعلى الأقل انفذ بجلدك أنت.. فأحسن وسيلة لتفادي الخطر كما قال حكمائنا العرب قديمهم وحديثهم، هو الهرب وإطلاق الساقين للريح.. لكن إلى أين؟ أكيد إذا لم يجدنني هنا..سيضغطون عليه تحت التعذيب والإرهاب فيدلهم على عنوان بيتي.. أخمدت يدي في جيب المعطف، أملك مائة درهم..خطرت في بالي فكرة تبدوا ممتازة سأسافر إلى الجبل وأعيش متنكرا بين أبناء الخال والخالة لعشرين سنة وتكون القضية تقادمت وتم تشطيب إسمي من المبحوث عنهم، وربما أتزوج من ابنة خالتي، وأسكن في كوخ جميل، أعيش حياتي في سكون وهناء، أربي الدواجن وأسرح الغنم والماعز، وأنفخ في الناي، وأتاجر في بيع البيض.. فما أجمل الحياة في البادية. سأنسى المدينة وضجيجها وأتمتع بسحر الطبيعة الخلابة..لكن ذاكرتي تذكرني بصديقي ومصيره المجهول خلفي، أأعيش في رغد العيش وهو ملقى خلف القضبان يتجرع الغصة والمرارة وحده ..!! لكن إذا سألوني عن سر الزيارة فبماذا أجيبهم؟ هنا المشكل والورطة. هل أقول لهم: - هربت فرارا وخوفا من أن تلقي الشرطة القبض علي دون جرم ولا إثم.. لا لا لا لن يصدقوني.. ولنفترض أنهم صدقوا الحكاية وامنوا ببراءتي، فأكيد لن يستطيعوا أن يغلقوا أفواههم، ولن يظل الأمر طي الكتمان.. فأكيد خالي سيخبر أبنائه وهذا سيحكي للآخر سرّا ويوصيه أن يبقى الأمر بينهما وهكذا حتى تكبر دائرة من يعرف أمري مع الحذف والزيادة، ستصبح الحكاية فلما دراميا بطلها أنا وهكذا سيسري الخبر سريعا كلمح البصر فيصل الخبر إلى الدرك على أن مجرما قاتلا يتوارى عن جريمته الشنعاء التي قام فيها في طنجة ويختبئ هنا، والأخير سيتصل بالأمن في المدينة، وربما يعتقلوني كي يبرهنوا عن علو كعبهم أمام زملائهم. ويتم تسليمي مقيد اليدين خلف الظهر ومكبل الرجلين.. لقد أصبحت قضيتنا قضية رأي عام.. وعنذا ذاك لن تنفع كل ادعاءاتي بالبراءة.. - تحدث، وأرح نفسك وأرحنا معك.. - أن بريء بريء اتركوني أذهب في سبيلي.. - عشر سنوات وأنت مختبئ في الجبل وما زلت تنكر.. - أنا بريء - ولماذا فررت وتواريت عن الأنظار ولم تزر أسرتك مذ تلك الليلة؟؟ صمت ولم أنبس ببنت شفة. فرقع المحقق أصابعه كعلامة انتصار وهو غارق في كرسي متحرك خلف المكتب والشرطيين المفتولي العضلات واحد عن يميني والآخر عن يساري..فبادر المحقق قائلا: - إن حكيت الحقيقة سنخفّف عليك العقوبة، من الإعدام إلى المؤبد. فشريكك انهار اعترف بكل شيء، وقد نفذتما الجريمة من أجل السرقة وعندما قاومكما الشاب طوقتما عنقه وخنقتماه حتى انسلت منه روحه. وبعد أن استعدتم هدوئكما ورجع عقلكما في رأسكما استيقظ الضمير، وأردتما أن تقوما بشيء نافع على الأقل يخفف عنكما وجع الضمير ولعنة الجريمة.. - نحن لم نقتل ولم نخنق، كل هذا هراء.. - كل الاتهامات والاعترافات الذي أدلى بها شريكك تدينكما. - هذا غير صحيح. ودون سابق إنذار شعرت بلطمة على وجهي من ملك الموت الذي كان واقفا على يميني جعلتني أرى النجوم والكواكب في النهار.. - أنزلوه أسفل، واحتفلوا به كما احتفلتم بشريكه. أريد أن اقفل هذا الملف اللعين، فجبال من الملفات تنتظر أن نبث فيها.. وفجأة أخرجني من سهومي ظل شبح أو شبحين كانا قادمين في اتجاهي، وخطوات أقدامهما تكسر سكون المكان..فاضطرب قلبي وجف حلقي، وحدثت نفسي أو هي حدثتني : هل سيتحقق ما خشيته؟