وصال الشيخ من شفشاون (*): تتألف شفشاون من كلمتين مركّبتين من اللهجة المغربية المحكية (شف) بمعنى (انظر) و(شاون) باللهجة الأمازيغية وتعني (قرون) أي قمم الجبال، وقيل إن معناها هو مكان يجتمع فيه الناس. تطور اسم شفشاون وتحوّر، إلا أنه ظهر في شكله اللاتيني الأخير CHEFCHAUEN بعد أن أقرته مدريد سنة 1918 بناءً على تقرير أعده أحد العسكريين الإسبان، وهو خوان دو لاسكيتي، ويتداول حتى اليوم بهذا الشكل. وكان هذا الإسم نفسه متداولا في المصادر العربية والوثائق منذ القرن العاشر الهجري. تحتفي شفشاون بتاريخ عميق، فقد حكمتها إمارة الرواشد بقيادة علي بن راشد لمدة قرن تقريبا (969-876ه) بعد عودته من غرناطة ومرافقته ب80 أسرة أندلسية شكلت النواة الأولى للسكان هناك. بعد انتهاء الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، أصبح شمال المغرب مأوى للموريسكيين المهاجرين من بطش الكنيسة، ليستقروا في المغرب ويحافظوا فيه على طابعهم الأندلسي - الإسلامي. وقد شهدت شفشاون ثلاث هجرات أندلسية إلى أحياء الخرازين والصبانين وحي العنصر المؤدي إلى "رأس الماء"، حاملين عاداتهم وتقاليدهم. ويقال إن ارتداء المرأة الشفشاونية في بعض المناسبات ل"البلغة" السوداء ذات اللون الأسود يعبّر عن علامة الحزن لفقدان غرناطة. كما حافظت العائلات على ألقابها وأسمائها الأندلسية حتى اليوم، وحتى على مطبخها الأندلسي بوصفاته ومذاقاته. فقد ذكر صاحب كتاب (الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين) أنه "ينبغي أن نُعنى بمعرفة الأشياء التي بها تكمل صناعة الطبخ وبها سمي الطبخ طبيخا باختلاف طعومها ومذاقها، مثل أنواع الخلول والربوب والمري والزيت وماء التفاح وماء الزبيب والخردل والتوابل... واعلم أن تصريف التوابل في ألوان الطبخ أصل عظيم..". الزائر لشفشاون الزرقاء، سيلحظ الطابع الأندلسي في المعمار واللباس والمائدة. والطبخ الشهي يظل الزائر يتمنى العودة للمدينة لتذوقه مرة أخرى. أصل الموائد هو ما ينمو في الجبال وما يرعى فيها، وأصله الماء العذب الساري في مشارب المدينة. الوصفات والأطعمة التي تقدم في المدينة اليوم، هي عامل سياحي وثقافي جاذب للسياحة الداخلية والخارجية للمدينة. الناس تستمتع بكأس الشاي المنعنع في "رأس الماء" أو طاجين اللحم بالبرقوق في ساحة القصبة. بفعل الأجيال التي تناقلت المائدة الأندلسية، لا نزال نتذوق هذا السحر المفعم بروائح وأسرار خاصة بها. يد المرأة الشفشاونية هي أول الأسرار، فهي من حوّلت المراعي والحقول والبساتين واللحم والعسل والزعفران والدقيق والسكر والزيت إلى مذاقات تجمع بين المالح والحلو بشهية لا توصف. لذلك، كانت الطباخات الخبيرات يبعن بأثمان باهظة، وكان السلطان مولاي عبد الرحمن بن هشام يرسل الكثير من الطباخات إلى شمال المغرب – تطوان بالخصوص لتستقر في منازل الشخصيات المرموقة ليتلقين مهارات الطبخ الأندلسي. على المائدة، تختلف الأطعمة باختلاف المناسبات والظروف المادية. على سبيل المثال، فقد ابتدعت أكلة (البيصر) وأصبحت وجبة شعبية مناسبة لجميع الأوقات والشرائح المجتمعية. ولكن غالبا ما تتوحد الأطعمة في مناسبات الزفاف والعقيقة والختان، خاصة حضور اللحم، حيث كان الأندلسيون يقومون بتقطيعه إلى قطع صغيرة وكبيرة وطبخه مع المرق المكوّن من المواد الدسمة والخضر أو الفواكه، وما زالت هذه الطرق منتشرة في بيوت المغاربة حتى وقتنا الحالي. كما نجد أطعمة مثل الكسكس، وجبة المغاربة الرئيسية يوم الجمعة، والثريد والتفايا، الثردة، الدشيشة، الاسفنج، المجبنة، البغرير (القطايف)، الخليع، كويلش، حلويات الشباكية، الرغايف، المحنشة، المسمنة، الملوزة، بشكتو، قفافل، كعب الغزال، الغريبية، الفقاقص، البجماط، القراشيل، معجون السفرجل والتفاح، لقمة القاضي، مروزية، قنانيط، الشعرية، الخبز، والبيض المشقوق الذي يزيّن أغلب الأطعمة التي كانت سائدة بكثرة في الأندلس ولا يخلو منها أي بيت مغربي اليوم. وتذرّ عليها الأمهات السكر المسحوق فوق كافة الأطعمة الحلوة وترافقها القرفة. أما الزنجبيل (الزنجبير)، فهو يستخدم بالمطبخ الشفشاوني في طبخ اللحوم والطيور، كذلك التوابل أو (الأبزار) والزعفران الذي يظل أحد أسرار الموائد الأندلسية. وتتفاوت الموائد حد التقارب بالوصفات حسب الأماكن، وقد انبثق عن قدوم الموريسكيين مطابخ عدة في المغرب، المطبخ الجبلي يختلف بطريقة أو أخرى عن الفاسي أو التطواني، وذلك حسب توطن الموريسكيين وأصولهم في الأندلس.