الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نتقدم بالشكر للجهات التي سهرت على تنظيم هذه الأمسية الثقافية، التي تبرز الدور الحيوي الذي تقوم به جمعيات المجتمع المدني في الرفع من مستوى التفكير والمستوى الثقافي للمجتمع، خصوصا على مستوى الدفع قدما بالرفع من مستوى الوعي التاريخي لأفراده من خلال جعل التاريخ وظيفيا يخدم الحاضر والمستقبل ويساهم بذلك في تطوير المجتمع المغربي سياسيا و اجتماعيا وثقافيا . إن هذه المداخلة لن تكون سوى غيض من فيض، نظرا لتعدد الزوايا والرؤى والمقاربات التي يمكن من خلالها و لوج موضوع هذا الكتاب. وسأكون مركزا قدر الإمكان من خلال تقديم بعض الإشارات ولفت النظر إلى بعض القضايا المحورية: تعريفا بحق الصحافة الوطنية و بحق هذه المدينة في المجال، وتقديرا لأحد رموز و رواد هذه الصحافة وهذه المدينة: المرحوم محمد قاسم الدكالي . إن المؤلف الذي بين أيدينا والذي اختار له صاحبه المقاربة الوثائقية – وقد وفق في ذلك –من خلال تخريج الوثائق التي تؤرخ لمرحلة مابين 1947 – 1953 يعتبر عملا جبارا. هذا العمل الذي أنجزه الباحث عثمان بن شقرون يذكرني بما ورد في مقدمة للمرحوم محمد المنوني، في كتابه المصادر العربية لتاريخ المغرب ج 2 ، حينما أورد "ومن الجدير بالملاحظة أن مصادر هذه المرحلة تتميز عن سابقاتها بجملة من المميزات نتيجة لمعاصرتها لعدة تحولات عالمية أو قطرية أبرزها ازدهار نهضة أوربا ومعطياتها العلمية وعلى أن الذي يهم بحثنا هو أثرها في تطور بعض مصادرنا الموضوعية ومن ذلك انتشار الصحافة بين أمم الغرب إلى أن كان ظهورها في منطقتنا". وهو ما دفع محمد المنوني رحمه الله في الجزء الثالث من كتاب المصادر العربية لتاريخ المغرب إلى تأريخ تطور الصحافة العربية المغربية وازدهارها ضمن المصادر التاريخية (ص87 –101 و113). لذا فإن الكتاب الموجود بين أيدينا يشكل مادة تاريخية لأحد أهم المصادر التاريخية التي تؤرخ لهذه الحقبة من تاريخ المغرب والتي تكشف عن حيوية الثقافة المغربية من خلال الإجابة على الأسئلة التاريخية التي واجهت النخبة والحركة الوطنية في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المغرب. وهذا ما يجعل واضع هذا الكتاب موفقا أيضا في اختيار الحقبة الزمنية لجرد المنتوج الفكري لمحمد قاسم الدكالي وأعني بها 1947 – 1953، حيث اعتبرت الحقبة المحورية التي تركزت فيها التناقضات والتقاطعات معلنة عن التأسيس لمرحلة جديدة من تاريخ المغرب . لقد اتسمت هذه المرحلة بظهور وعي وطني بالتاريخ من خلال التأليف في الحركة الوطنية وحركة المقاومة المغربية، حيث كانت الكتابة من خلال منابرها الإعلامية المتعددة ومنها الصحافية التي تواكب الفعل الوطني وتعاضده وتشكل سندا قويا له، فكان ذلك شهادة على حضور الحس الوطني في الكتابة الصحفية والتاريخية عموما، فالثقافي والإعلامي كانا حاضرين ومواكبين للفعل السياسي، وهو ما جسده المتن الصحفي للكاتب محمد قاسم الدكالي من خلال صحيفتي: "منبر الشعب" و "الشعب" اللسان الناطق باسم حزب الوحدة والإصلاح الذي كان يترأسه محمد المكي الناصري. لقد مثلت المرحلة التاريخية 1947 – 1953 مرحلة مفصلية في تاريخ المغرب حيث تراكمت المتغيرات الدولية والإقليمية و الوطنية: - نتائج الحرب العالمية الثانية. - ميلاد نظام عالمي جديد قادته الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفيتي. - الصراع بين الإمبريالية الكلاسيكية الممثلة في بريطانياوفرنسا والقوتين العظميتين الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفيتي. وإعادة رسم خريطة العالم خاصة تقسيم مناطق النفوذ وتوزيع تركة المستعمرات. - تنامي موجة المناداة بالاستقلال من خلال المنابر الأممية والإقليمية قصد التحرر من براثين الاستعمار عبر هيئة الأممالمتحدة وجامعة الدول العربية. - المتغيرات التي عرفها المشرق العربي بعد الحرب العالمية الثانية. - المتغيرات على الصعيد الوطني: زيارة محمد بن يوسف لمدينة طنجة 9 أبريل 1947 وتوالي موجات التأكيد على وضع حد لاتفاقية فاس 1912 بين فرنسا وإسبانيا من جهة والمغرب من جهة أخرى، وذلك عبر النشاط المكثف للحركة الوطنية من خلال منابرها السياسية والإعلامية محليا وإقليميا و دوليا . بناء على كل ما سبق كانت اللحظة التاريخية مناسبة جدا لتنضج لنا رموزا فكرية فذة استطاعت مراكمة هذا الكم الهائل من الأحداث المتتالية بخلفياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية لتتفتق عنها ثلة مفكرة واعية كانت معبرة عن هذه اللحظة التاريخية وفاعلة أيضا في مجريات التاريخ. ومن هذه الرموز محمد بن قاسم الدكالي الذي وإن كان يظن البعض أنه دخل طي النسيان فهذا مجانب للصواب. ذلك أن اللحظة التاريخية لتخليد مثل هذه الرموز يحين زمانها و وقتها عندما يعلن عنها التاريخ في اللحظة المناسبة، فالفقاعات تتدهور سريعا كما هو الغث إلا أن ما ينفع الناس يظل شامخا و يتلألأ بريقه في زمن آخر تطبيقا للسنن الكونية الواردة عبر " اذكرني عند ربك "، في قصة سيدنا يوسف عليه السلام الذي لم يطوه النسيان في سجنه حتى تفتقت اللحظة التاريخية ليتحول من منسي إلى فاعل في التاريخ: " اجعلني على خزائن مصر". فكم بخس أهلونا حق جنود الخفاء الذين لم تغويهم بهرجة الشهرة والمقعد الأمامي، إلا أن التاريخ كفيل برد الاعتبار لهم حيث يخلدون والآخرون يرحلون إلى النسيان الأبدي . مجمل القول إذن هذا الكتاب الذي بين أيدينا هو سيرة رباعية الأبعاد: 1. سيرة لمهنة الصحافة، فهو يؤطر ضمن حقل الصحافة المغربية ويؤرخ لها من زمن الرقاص والبراح إلى زمن الخبر المكتوب. – الصحافة–. 2. سيرة لجريدتي " منبر الشعب " و " الشعب " كصحيفتين، ومن خلال اهتماماتهما فهما ذاكرة غنية وتمثلان السياق التاريخي للحظة التاريخية عبر أقلام أهل زمانهما. وتحتاج هذه السيرة لوحدها دراسة متأنية لتفكيك بنيتها وإعادة ترتيبها، من خلال المواضيع والقضايا التي أثارتها. ولعل عناوين المواضيع التي كتب فيها محمد قاسم الدكالي خير دليل على ذلك. 3. سيرة للأحزاب السياسية بالمغرب من خلال نموذج حزب الوحدة والاستقلال في مرحلة من مراحل تاريخ المغرب الحرجة وفي هذا نجد التفاتة ذكية لمحمد قاسم الدكالي (انظر رأيه في نشأة الأحزاب السياسية في المغرب- ص97),," 4. سيرة لمدينة طنجة اختار لها الأستاذ عثمان بن شقرون بعد مقدمة مؤلفه عنوانا "طنجة بوابة تاريخ المغرب المعاصر" ً ص: 13، وقد كان حريا بهذه المدينة أن تنال نصيبها من الذاكرة الجماعية التي ليست شوفينية بقدر ما هي إحقاق للحق. فالكتاب يحيلنا عبر هذه السيرة على نظرية الهامش والمركز، على نظرية الواقع المحلي بعيون الأجنبي ودور كل منهما في صناعة الحدث الصحفي والتاريخي والسياسي. فربط كل هذه الأدوار والمتغيرات بالمركز يقصي دور الهامش، وينصهر في سياق بناء الدولة المركزية حيث المدرسة الانقسامية تفكك كل الهوامش ليحركها ويقودها المركز. إن هذه السيرة من خلال هذا النسق عبر المادة الوثائقية تعيد قراءة هذه العلاقة في سياقها التاريخي من خلال دور الهامش المركزي، الذي يوظف في إنتاج هيمنة وقوة المركز إزاحة الآخر والحلول محله عوض التفاعل بين الهامش والمركز في إنتاج تاريخ متعدد الرموز و الدلالات. والهامش هنا بطبيعة الحال هي طنجة التي شكلت مركزا وعاصمة للصحافة الوطنية من خلال السياق التاريخي 1947 – 1953. وسيجد القارئ متعة في سبر أغوار هذه السيرة من خلال معاصريها عبر كتابات محمد قاسم الدكالي، تحت عنوان: "طنجة ونظامها الدولي بين الماضي والمستقبل". من ص118 إلى ص 128، حيث يقول: "ولكن العالم لم يلتفت إلى طنجة إلا في القرن السابق أو قبله بقرنين أو ثلاثة وإنما كانت الأنظار متجهة نحو هذه المدينة منذ الماضي المتناهي في القدم ". وينغمس في سبر أغوار تاريخ المدينة مع التذكير قائلا: ولكننا ننتهز الفرصة فنسجل قبل أن يختلق علينا الغير غير ما أردنا – إننا لسنا من دعاة الشعبوية ......"ص125 5. وهي سيرة لشخصية من حجم المرحوم محمد قاسم الدكالي، شخصية انطلقت من المسيد وأبحرت في طلب العلم شرقا(مصر) وغربا(فرنسا) ليعود ويستقر بمدينة طنجة، حيث انخرط في أحضان الحركة الوطنية سياسيا ومثقفا وصحفيا، كرس حياته في سبيل قضايا الاستقلال والنهضة. وقد مكنته اللحظة التاريخية التي التقطها من أن يصبح شخصية فذة استجمعت الأبعاد الدولية والإقليمية والمحلية وعبرت عن ثقافة عصرها بحق. إن الحفر الأركيولوجي في ما قدمه المرحوم من مواضيع وقراءات يتجاوز اللحظة / الحدث إلى المستقبل لمحاكمة الأجيال القادمة عن حقيقة وظيفة المثقف والنخبة العالمة ومسؤوليتها أمام مجتمعها، ويضعها أمام مساءلة التاريخ، سواء أطرها السياسية أو الفكرية أو الثقافية بعمومها. إن الكتابة الصحافية عند محمد قاسم الدكالي تعبير دقيق، بل تاريخ للذهنيات التي ميزت فترة1947 – 1953 ، عبر أقلام أصحابها من خلال مواضيع شتى عن الوحدة والاستقلال، وطنجة والنظام الدولي، وتشريع المغرب السياسي، والمستجدات الدولية وانعكاساتها على المغرب، والخلاف والصراع بين القوى الإمبريالية، والموقف من الشيوعية وقضايا المشرق العربي و الإسلامي. أخيرا ألتمسكم عذرا إن لفتت الانتباه إلى أن هذا الكتاب بدون خاتمة، فلا يتضمن توصيات ولا خلاصات. وربما هي إشارة من الأستاذ عثمان بن شقرون إلى أن سيرة هذا الرمز الإعلامي والوطني الشامخ لم تبدأ بعد حتى تنتهي وتقفل بخاتمة، فأبوابها ما زالت مفتوحة على المزيد من نبش للوثائق وإثراء لتاريخ هذه الجهة، فأقل ما يمكن أن يعيد بها الاعتبار هو معهد أو مركز للتوثيق يجمع ذاكرتها. (*) باحث في التاريخ