، وأحب أن أشارككم ذكرى لن تُمحى من أرشيف مخيلتي، وأرويها لكم بكل التفاصيل التي عشتها آنذاك وزملائي بصدق وأمانة، لأهمية المرحلة التي حدثت فيها أولا، ثم لتشابهها في المرحلة التي نعيشها الآن مع كثير من الصور، وإن كان هناك اختلاف بسيط في بعض الرتوشات التي لا تغير من الوقائع أي شيء، في حين تتفق في كثير من الأهداف والمقاصد، والمحور دائما كان " بني مكادة وأبناء بني مكادة ". في صباح أحد أيام دجنبر الممطر من سنة 1986، حيث كنت أدرس بثانوية علال الفاسي بالمستوى الخامس من التعليم الثانوي حسب النظام التعليمي آنذاك، وفي فترة الاستراحة ما بين الحصتين الثانية والثالثة، أي حوالي العاشرة صباحا، انطلق صفير من أفواه بعض التلاميذ، وبدأ التصفيق بالأكف، ومعه صارت تتشكل حلقة وسط باحة المؤسسة. وفي غضون ثوان انتشر خبر صادم يفيد أن فتاة من الأقسام الإعدادية واسمها "سعيدة " تعرضت للاغتصاب داخل مراحيض الثانوية التي كانت تعرف حالة من التردي بفعل ما كانت تتعرض له المؤسسة خلال فصل الشتاء من إتلاف لبعض مرافقها، وهو ما كان يسهل على بعض المنحرفين الدخول إليها. وطبعا لم يكن أمامنا كتلاميذ إلا أن نتعاطف مع الضحية، وندخل في الاحتجاج الذي دام يومان ونصف اليوم، ولم تثنينا عنه كل محاولات المسؤولين عن إدارة الثانوية الدخول في حوار معنا لفهم ما يجري، والإنصات لمطالبنا التي لم نكن قد فكرنا فيها بعد لسببين. أولهما لأن اهتمامنا كان منصبا فقط في "سعيدة" وما حدث لها، حيث كنا نرفع تلك الشعارات المدوية من قبل "سعيدة ضحية الإدارة الطاغية" و " بالروح بالدم نفديك يا سعيدة "..، وما أسعد "سعيدة" بنا وبتضامننا معها. وثانيهما لأن الذين كانوا يؤطرون الاحتجاج لم يكونوا من بيننا، بل كنا نرى وجوها غريبة تتوسطنا، وتقوم بترديد شعارات كانت تزيد حماسنا لهيبا، وتقودنا إلى اشعال فتنة لم يكن أحد يعلم منتهاها. وطبعا كان الأمن حاضرا، وكانت بعض المناوشات تحدث بين الفينة والأخرى على مستوى شارع مولاي علي الشريف. وفي مساء اليوم الثالث، غابت تلك العناصر التي كانت تدير الوقفات وترفع الشعارات، وسكنت ساحة المؤسسة وكأن شيئا لم يكن، ليتضح فيما بعد أن بعض الطلبة اليساريين والذين كانوا يدرسون بجامعة فاس، وبحكم الروابط و العلاقات التي كانت تربطهم ببعض التلاميذ بالثانوية المذكورة، أرادوا أن يحيوا ذكرى استشهاد مناضلتهم "سعيدة المنبهي" التي توفيت في دجنبر من سنة 1977. وأما اختلاق قصة سعيدة المغتصبة لم يكن سوى لرفع الشعارات بذلك الإسم. وقد نجحوا بالفعل في الزج بنا في احتجاجات لم تفيدنا في شيء بقدر ما نجحوا هم في إحياء ذكراهم. عندما نتحدث عن الاحتجاجات، أو المظاهرات، أو المسيرات، أو شيئا من هذا القبيل الذي عرفته مدينة طنجة في وقت من الأوقات، لايمكن الحديث دون ذكر بني مكادة، و الذين لم يعايشوا سنوات الثمانينات، و أوائل التسعينات أحب أن أذكرهم أن بني مكادة كان يُزج بها دائما في مواجهات مع الأمن في كل مناسبة، كانت أولها انتفاظة 1984 المعروفة بخطاب " الأوباش الشهير" حين تقاطر التلاميذ من مختلف ثانويات المدينة على ثانوية علال الفاسي، ليخرجوا في انتفاضة كسروا خلالها كل ما وجدوا أمامهم، قبل أن يتم تفريقهم من قبل عناصر من القوات المساعدة التي قدمت إلى بني مكادة على متن شاحنات اصطفت أمام باب الثانوية، في الوقت الذي كانت فيه طائرات الهيلكوبتر تحوم حول المنطقة. ثم إن بني مكادة هي المنطقة الوحيدة التي كان أبناؤها ينوبون عن المدينة في مسيرات تضامنية مع الشعب الليبي إبان الهجوم الأمريكي على طرابلس سنة 1986. دون الحديث عن المسيرات الشعبية تضامنا مع الشعب الفلسطيني بدءا من سنة 1988 احتجاجا على اغتيال الشهيد " خليل الوزير أبو جهاد ". ثم حفنة من الاحتجاجات والمسيرات الشعبية تضامنا مع العراق خلال حرب الخليج الثانية والمعروفة ب" عاصفة الصحراء"، والتي حدثت خلالها اصطدامات عنيفة مع قوات الأمن، وما صاحبها من اعتقالات في صفوف المحتجين، ومنع لبعض خطباء الجمعة وعلى رأسهم المرحوم" عبد العزيز بن الصديق" خطيب مسجد بحي " علي باي" الذي كان يخرج منه المحتجون كل أسبوع. قبل عاصفة الصحراء ببضعة أسابيع كانت طنجة على موعد مع أكبر انتفاضة شعبية عرفتها إلى جانب بعض المدن الأخرى، وذلك حينما لبى المتظاهرون نداء نقابتي (إ ع ش) و (ك د ش) لإضراب وطني احتجاجا على الوضع الاقتصادي المتأزم، ومرة أخرى تتكفل بني مكادة بالمهمة وتنتفض، وتقع أحداث خطيرة، فتدخل القنابل المسيلة للدموع حلبة المواجهة إلى جانب الرصاص المطاطي والهراوات والحجارة، وتُخرب الممتلكات الخاصة والعامة، ويُعتقل الكثير من المتظاهرين وغيرهم من الذين جرفتهم حملة الاعتقالات، ويزج بهم في السجون لسنوات، فكانت ذكرى مؤلمة للمنطقة وساكنتها، جعلت وزير الداخلية آنذاك إدريس البصري يسلخ بني مكادة عن طنجة ويقول " ما حدث في...وبني مكادة..." ومن يومها وبني مكادة تعرف بأخطر منطقة في طنجة، كما أن سكانها كانوا يتعرضون لمضايقات أمنية فقط لأنهم يحملون على بطائقهم الوطنية عناوين ببني مكادة. وجاء الحراك الشعبي بقيادة حركة 20 فبراير التي استحسنها الجميع لرفعها شعار التغيير، وكانت بني مكادة وكالعادة منطلق المسيرات، وساحة الاحتجاجات والاعتصامات، ونقطة المواجهات مع الأمن، كانت أبرزها أحداث 22 ماي 2011. واستمر الحال كذلك إلى أن طغت على المنطقة مواجهات دامية بين عصابات المخدرات الصلبة، من تجار ومتعاطين على حد سواء، مرورا بمواجهات الفراشة والأمن، ثم وصولاً إلى جرائم القتل التي أصبحت العنوان الأبرز لكل ما يكتب وينشر عن بني مكادة وأحيائها، فتصدرت من جديد صفحات الجرائد الوطنية والمحلية، الورقية منها والإليكترونية، فيما اغتنم الكثيرون الفرصة من جمعيات ومنظمات وهيآت سياسية للدخول على الخط لغرض في نفس يعقوب، ولأن القاعدة تقول "مصائب قوم عند قوم فوائد"، فما أكثر من استفاد من بني مكادة دون أن يفيدها في شيء. فهل تراها تؤدي ثمن التراكمات التي خلفتها سنوات من التهميش والتجاهل الممنهج، صارت معهما المنطقة مستودعا لكل سلبيات المدينة؟، أم أن المسألة فيها ما فيها من إن وأخواتها وبنات عماتها وخالاتها؟ إلى متى سيظل أبناء المنطقة يُستخدمون كحصان طروادة في صراعات خفية؟ وإلى متى ستظل بني مكادة شماعة تعلق عليها أخطاء السلطة وزلات المنتخبين، وتصفى فيها حسابات سياسوية؟ ثم ماذا جنت بني مكادة من تاريخ نضالها الطويل؟، وهل محكوم عليها بأن تكون هي الشمعة التي تحترق لتنير ظلام مدينة تقاسم المنتفعون خيراتها فيما بينهم؟ أسئلة لن يطرحها فيصل القاسم في مقدمة اتجاهه المعاكس، لكن يطرحها ابن المنطقة لفهم حقيقة ما يحدث في بني مكادة. و لماذا بني مكادة ؟