كثر ، في الآونة الأخيرة ، النقاش حول مايجري في أرض الكنانة من أحداث متسارعة أبطالها جماهير الشعب المصري الغاضبة وجمهور الإخوان المسلمين والجيش . هذا النقاش الذي يكاد يغطي ويطغى على كل الأحداث الأخرى وطنية كانت أو دولية ، يدل على مدى تأثير ما يجري بدول الجوار الشمال إفريقي علينا ومدى تأثرنا به ، نظرا لتشابه واقعنا وترابط مصائرنا وإحساسنا المشترك بالمعاناة من الاستبداد في مختلف تجلياته ! فثورة 25 يناير 2011 المصرية المجيدة تمكنت بعد شهور من التضحيات والصمود من دفع حسني مبارك إلى الرحيل عن الحكم منهية بذلك – ربما – حكم الجيش منذ يوليوز 1952 ، وقد لعب هذا الجيش نفسه دورا أساسيا في تدبير أمور الحكم إلى حين انتخاب مرشح جماعة الإخوان المسلمين (وكأن غيرهم ليسوا مسلمين !!) محمد مرسي ! ولم يكن أحد إذاك يشكك في دور الجيش في ما سمي بحماية الثورة ، ولم يكن أحد يشكك في مشروعية ثورة الشعب وفي كونه مصدرا للسلطة ، بل على العكس من ذلك شدد مرسي نفسه في خطبه على أهمية دور الشعب في تحديد مسار البلد والثورة في إكساب الشرعية أو إزالتها من أي حاكم ! كان من المفروض في رئيس منتخب أن يصبح - بمجرد انتخابه - رئيسا لكل المصريين (لأن الجماعة كانت هي القوة الأساسية المنظمة المستعدة لتسلم دفة الحكم مقارنة مع تشرذم المعارضة وضعف قوى اليسار والديمقراطية) مراعيا لمصالح كل أطياف الشعب المصري الدينية والفكرية والسياسية ، وأن يسهر على صياغة دستور يضمن حقوق الجميع ويرعى الوحدة الوطنية ويضمنها ويحدد علاقات البلاد وفقا للتوجهات التي تمثل الرأي العام المصري ، وأن يفي – قبل هذا وذاك - بما التزم به في حملاته وحملات حزبه الانتخابية ! غير أن ما فعله مرسي وجماعته ، وهو المنتشي بنصر غير متوقع بعد إقصاء طويل عن ساحة الحكم ومعاناة مع مختلف الأنظمة المتعاقبة ، فعل عكس ما كان عليه أن يفعله : تمكين جماعته الإخوانية من دواليب الدولة في أفق أخونتها بالكامل عملا بتعليمات وأوامر المرشد العام (وهو ما يمكن اعتباره انقلابا أبيض على الدولة) ، صياغة دستور على المقاس بتقوية دور الرئيس وسلطه وتمريره في الأجواء الحماسية التي خلفتها عملية التغيير ، جر البلاد إلى فتن طائفية مع الأقباط ثم مع الشيعة وما خلف ذلك من قتلى (أليسوا شهداء الطاحونة الطائفية التي أقامها الإخوان ؟؟) ، تثبيت علاقة الصداقة مع إسرائيل وطمأنة أمريكا بهذا الصدد وطرد السفير السوري من القاهرة (من هو العدو الرئيس ؟ الكيل بمكيالين !) ، إطلاق سراح الإرهابيين المتورطين في قتل السياح الأجانب ، بل تعيين أحد قادتهم محافظا على الأقصر (وهو ما أثار حفيظة الاتحاد الأروبي !) الذي تنازل عن منصبه تحت الضغط الدولي ، علما أن السياحة من أهم مصادر الاقتصاد المصري ، إغراق البلد في أزمة ازدادت استفحالا ... كل هذا وغيره – إذ أن إنجازات مرسي لا يمكن عدها ولا حصرها !! – جعل جماهير الشعب المصري بشبابه وفقرائه ومثقفيه ومعارضي مرسي يساريين ولبراليين ، بل حتى السلفيين في مرحلة الانتفاضة ضده (30 يونيو) ، قامت بتصحيح مسار الثورة بتجذيرها وتثبيت مطالبها الأساسية ، بإسقاط المشروعية عن مرسي رغم شرعيته كرئيس منتخب ، مادام الشعب – كما اعترف مرسي نفسه له به في السابق – هو مصدر السلطة والشرعية الحقيقية ، على أساس إجراء انتخابات مبكرة في ظل دستور جديد متوافق عليه . وحين رفض مرسي الاستجابة لمطالب الجماهير (ما يقارب 30 مليون محتج/متظاهر) تدخل الجيش مرة أخرى لإزاحة مرسي تلبية لمطالب الشارع وتنفيذا لها ، وقد رافق ذلك قيام الجيش بتصرف سلطوي قمعي ، إذ طالت الاعتقالات العديد من أطر الإخوان وأغلقت محطات وقنوات إعلامية وتمت تجاوزات عدة . والمثير هنا إدانة مرسي وجماعته لتدخل الجيش معتبرا إياه انقلابا عسكريا ! قد يكون فعلا انقلابا عسكريا ، لكن لماذا لم يعتبر مرسي تدخل نفس الجيش سابقا انقلابا (الكيل بمكيالين مرة أخرى ، وهو ديدنه باستمرار !) ؟؟ مواقف مرسي وجماعته تتحدد بمدى تحقق مصالحهم وتحقيق سطوهم على دواليب الحكم ومؤسسات الدولة وليس بالمبادئ أو المصالح العليا للوطن والشعب الذي أتى به على أكتافه إلى الحكم ، ونفس الشعب أسقطه عنه . الهدف الأكبر لمرسي وجماعته كان إقامة دولة الخلافة يولونها مرشدهم العام ، مستغلين الديمقراطية (التي لم يكونوا يوما يؤمنون بها ، بل اعتبروها رجسا غربيا) وسيلة للسيطرة على كل السلط والتمكن في الأرض ، ولم يحسبوا للجماهير حسابها ، إذ هي التي أعطت وهي التي أخذت ! وبعد ، هل سيعود الجيش ، أو بالأحرى ضباطه إلى الحكم وهم لهم من المصالح التي راكموها طوال عقود من حكمهم الشيء الكثير ؟ أم أنهم سيوفون بخطة الطريق التي التزموا بتطبيقها ويعودون إلى ثكانتهم مكانهم الطبيعي ؟ من الصعب الإجابة عن السؤالين ، لكني أقول : إن الشعب الذي أزاح مستبدا عسكريا وأطاح بمستبد ديني قادر على تنحية أي مستبد أو طاغية آخر ، عسكريا كان أم إسلاميا أم مدنيا !.