لقد ملأالحداثيون الدنيا ضجيجاً لا يكاد يهدئأ حول بعض المقولات الفكرية التي يؤمنون بها ويدعون لها، كالتعددية الدينية، وتعدد القراءات، وتأثير المسبقات الذهنية على قراءة وتفسير النصوص الدينية، والأنسنة، وغيرها من النظريات الأخرى التي روجوا لها بكل إمكانياتهم وطاقاتهم. وليست هنا بصدد مناقشة هذه الأفكار، وإنما أريد فقط أن أؤكد بأن التعددية التي يطالب الحداثيون بتطبيقها في الفكر الديني هي موجودة في الفكر الحداثي وليست ببعيدة عنه، فهناك تعددية حداثية واضحة لا تقل شأناً وكيفيةً عن التعددية في القضايا الأخرى، وهذا الأمر لا أظن أن أحداً من الحداثيين ينكره أو يتبرأ منه، فالحداثة كما يقول هابرماس هي مشروع غير مكتمل أو غير منجز -على اختلاف الترجمة- وهذا ما يفتح الباب على مصراعيه أمام التعددية بشكلها الواسع. ولا نبالغ فيما لو قلنا بأن التعددية في الفكر الحداثي هي سمة بارزة ولا يمكن تجاهلها، بل هي ركن أساسي من أركانها، فإذا أردنا أن نناقش أي فكرة أو نظرية من نظريات الحداثة اصطدمنا بمجموعة كبيرة من الآراء المتعددة حولها حتى بين الحداثيين أنفسهم، وهذا ما يغفل عنه الكثير من الكتاب والمفكرين المحسوبين على الفكر الإسلامي عندما يقومون بالرد على بعض الأفكار الحداثية التي لا يتقبلونها. فعلى سبيل المثال، لو أردنا أن نعطي مفهوماً عاماً لمفردة الحداثة من حيث مدلولاتها، فسنجد أن الرؤى والمفاهيم حولها متعددة، فلكل مفكر نظرته وزاويته التي ينظر من خلالها، فبعضهم ينظر من زاوية العامل الزمني ويفهم الحداثة بأنها النمط الحضاري الجديد الذي شهده العالم في كل مجالات الحضارة والتقدم، وبعضهم ينظر للحداثة برؤية علمية بحتة ويفهمها بأنها التطور العلمي الذي شهدته البشرية في ميادين المعرفة والعلم، وبعضهم ينظر للحداثة من خلال الجانب الفلسفي ويناقش أفكارها وآراءها في الميادين الفكرية والفلسفية وهكذا. كذلك ينبغي العلم بأنه لا يمكن حصر الحداثة الفلسفية في رؤية فلسفية واحدة، لأن هناك مجموعة رؤى حداثية فلسفية متعددة، والتي قد تختلف فيما بينها إلى حد ليس بالقليل، فإذا كان هذا هو حال الحداثة فيما لو أردنا أن نعطي مفهوماً عاماً عنها؛ فكيف سيكون حالها فيما لو أردنا أن نناقش كل مفردة من مفرداتها؟! وسبب هذه التعددية الحداثية يعود إلى أن الحداثة ليست كما يظن الكثير من الناس (من مناوئوها طبعاً) بأنها رؤية معينة لموضوع معين أو لقضية معينة أو لفكرة معينة، ولكنها –أي الحداثة- منهج يتوصل من خلاله لبعض الرؤى والنتائج، ومن الطبيعي إذا كانت كذلك أن يحصل الاختلاف في هذه النتائج بين الحداثيين أنفسهم وإن اتحدوا في اعتمادهم على ذات المنهج. فالحداثة إذن منهج وليس نتيجة، وهي منهج محايد ولا يفضي إلى نتيجة واحدة، ولهذا نرى التباين الشاسع بين الحداثيين، فهناك حداثيون ملتزمون ومؤمنون، وهناك حداثيون ملحدون وغير ملتزمون، وهناك حداثيون مسلمون كما أن هناك حداثيون غير مسلمين، وهناك حداثيون غربيون كما أن هناك حداثيون غير غربيون، فعلى الرغم من كونهم أجمعهم ينعتون بالحداثيين إلا أنهم غير متفقون من ناحية النتيجة التي يتوصلون إليها. ولهذا يخطأ من يظن أو يفترض بأن هناك عداء بين الالتزام الديني والحداثة، فالحداثة ليست بالضرورة ضد الدين أو التدين، لأنه من الممكن أن تكون حداثياً وأنت محافظ على إيمانك الديني، ولكن بالتأكيد بأن إيمانك ليس كنمط الإيمان التقليدي ولكن بنمط آخر أو بكيفية أخرى، كما لا يصح أن تحصر الحداثة في جهة جغرافية معينة كأن يُقال بأن الحداثة هي غربية أو هي في إتباع الطريقة الغربية (الأمريكية والأوروبية)، وذلك لأن بالإمكان أن تكون هناك حداثة مختلفة عن هذه الحداثة، بل هي موجودة فعلاً، وخير مثال عليها الحداثة اليابانية التي تحتفظ بهويتها وبخصائصها التي تميزها على نمط الحداثة الغربية. ومن هنا نرى أن بعض العناوين التي تناقش بعض النظريات والأفكار الحداثية غير صحيحة، فمثلاً كثيراً ما نجد الربط والمقارنة بين "الحداثة والفكر الإسلامي" كما يقول البعض في بعض الكتابات، ومن الأولى أن تكون المقارنة بين الحداثة والمجتمع الإسلامي، لأنني أعتقد بأنه ليس بالضرورة أن تكون الحداثة متضادة مع الفكر الإسلامي، ومن الممكن أن نوجد حداثة إسلامية أو حداثة بمواصفات إسلامية إن صح التعبير، غير أن البعض لا يستسيغ ذلك لأنه يرى الحداثة تهمة توجب إعلان البراءة منها حتى وإن كان لا يعرف ماهيتها؟! ولا يفوتني أن أؤكد أن تجربة الحداثة تجربةً لا تخلو من الأخطاء، حالها حال غيرها من التجارب البشرية الأخرى، ولكن هذا لا يمنعنا من الاعتراف بمحاسنها، وعلينا أيضاً أن نكون فاعلين ونساهم في إنجازها أو إكمالها –لأنها مشروع غير مكتمل أو غير منجز- بدلاً من الاكتفاء بإعلان البراءة منها.