يساجل كثيرون، من الإسلامويين والقومجيين، من المدافعين عن موجة الإرهاب الديني المتطرف التي تجتاح العالم، والتي ازدهرت ووصلت مدياتها بفعل الوفرة النفطية البترودولارية، ويقولون في تبريرها وتسويغها وإيجاد المخارج لها، بأن الفقر والظروف المعيشية القاهرة هي التي تقف وراء ازدياد وتنامي مثل هذه الظواهر محاولين التهرب من المسؤولية الحقيقة وتفسير السبب الحقيقي لها، وإلقاء التهمة على شبح الفقر الذي لا يكاد يخلو منه مجتمع من المجتمعات على وجه الأرض. ولو كان هذا الزعم صحيحاً، لكانت نسبة التفجيريين والانتحاريين هي الأعلى في الهند، وفي الطوائف غير المسلمة، تحديداً، حيث تبلغ نسب الفقر والفاقة والقلة أرقاماً مهولة ومرعبة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أية عملية إرهابية، أو مجرد التفكير بها، يحتاج إلى منظومة متكاملة من مرشدين روحيين، ومحرضين، ومخططين، وممولين وبالتالي منفذين، وهم في ذيل هذه الآلية المعقدة والمركبة. تمويل لا يملكه إلا المقتدرون، الكبار، والكل يعلم من هم المقتدرون اليوم في عموم المنطقة التي تنتج ثقافة الموت، وهذا الكم الهائل من الموت والتفخيخ والدمار، ومعلوم أيضاً من يمتلك الثروة والمال والدخل القومي ويتصرف به على حسابه الشخصي. فسياسة الإفقار والتفقير والتعتير والتشليح التي تنتهجها المنظومة الاستبدادية الشرق أوسطية غايتها الأساسية الحد من قدرة أي فرد على القيام بأي فعل سياسي، وقد نجحت هذه السياسات حتى اليوم أيما نجاح في ذلك. فالقيام بأي فعل وحرك ونشاط سياسي يتطلب قدراً عالياً من الدعم والتمويل. ولو دققنا في عجالة، هكذا، ومن دون أي بحث وتقص وتركيز، واعتمدنا على عموميات مدركة للجميع، في رموز إرهابية شهيرة على الساحة اليوم لوجدنا دحضاً وتفنيداً مريعاً لمقولة اعتاد على ترويجها أولئك القومجيون والإسلامويون، في معرض تبريرهم لهذا الكم من الموت والفزع والتقتيل الذي تفشى في الحقبة البدوية النفطوية. ومن تلك الرموز الإرهابية اليوم، وعلى سبيل المثال لا الحصر، رجل الأعمال والملياردير السعودي أسامة بن لادن، الذي ترك نعيم الدنيا بسبب عشقه لثقافة الموت كما يقول، ومرشده الروحي الطبيب الأخصائي المصري ابن الحسب والنسب والذوات، وسليل عائلة مصرية طبية معروفة أيمن الظواهري،الذي من المفترض أنه تعهد وأقسم أن يداوي الناس ويشفيهم، حسب قسم أبقراط، لكنه عمد إلى قتلهم لأن ثقافة الموت التي تشربها أقوى بكثير من ثقافة حب الحياة وضرورة الحفاظ عليها التي درسها في كلية الطب، وأيضاً هناك اسم لطبيب آخر هو الرائد نضال مالك حسن، الأمريكي الجنسية والمولد، وصاحب الوظيفة والرتبة العالية في الجيش الأمريكي، وما تؤمنه له من عائد المادي وامتيازات معيشية ضخمة، والذي انتصرت لديه، أيضاً، نوازع الإجرام التي تلقاها على يد الشيخ اليمني الأمريكي الجنسية أنور العولقي الإمام السابق لمسجد دار الهجرة بولاية فيرجينيا، ، الذي "اصطاد" نضالاً أثناء قيامه بارتياد المسجد وكان ملهمه الروحي الذي خدره وسحره دينياً ودفعه لارتكاب فعلته الشنعاء بحق زملاء لهم رغم أنه أقسم قسم الولاء والوفاء لموطنه الأمريكي ( وبغض النظر طبعاً من مواقفنا من جرائم هذا الجيش في غير مكان من العالم)، وصولاً إلى جون رايد المواطن البريطاني المتأسلم حديثاً، وبكل ما يتمتع به المواطن البريطاني من ضمانات وتعويضات حياتية واجتماعية وتقاعدية حكومية، لا يتمتع بها بالطبع، فقراء الهندوس، والبوذيين والسيخ في الهند والنيبال وغيرها، والذي حمله عشقه للموت الذي ضُخ في رأسه إلى وضع المتفجرات في حذائه لتفجير طائرة فوق السحاب وقتل جميع من فيها، وليس انتهاء بأحدث "موديل" ونسخة إرهابية صدرتها ثقافة الموت والكراهية، وهو عبد الفاروق عبد المطلب الابن البكر لمصرفي نيجيري كبير، ترك بلاده و"النعمة" التي يعيش بها في كنف والده ليلتحق بفلول القاعدة، وليفرغ كل شحنات الكراهية والحقد التي اختزنها في صدره جراء حملات التحريض والتجييش والتهريج الدعوي المخيف التي "استلمته" منذ أن كان في المهد صبياً، ووصلت درجتها النهائية وبات من الواجب إخراجها بأي شكل. غير أن ما يثير الدهشة، أيضاً، هو أن ترى شيخاً، أو ما يسمى داعية وسطياً، كالشيخ القرضاوي، الذي ينعم بكل أسباب الراحة والوفرة والبحبوحة المعيشية، وهو أب، ورب أسرة، ومدرس في جامعة وخطيب مسجد، ويحمل كل ذاك الكم من الحقد والكراهية والدعوة إلى تكفير الآخر، والتحريض ضده، وازدرائه ومقاطعته، ومقاطعة أفراحه واحتفالاته، لأن الإسلام لا يسمح بذلك حسب ما قال، ولاسيما في تصريحاته الأخيرة التي تناولت تحريم تهنئة النصارى بأعيادهم وأفراحهم، بل لا يتواني عن الإعلان عن ذلك علناً وعلى رؤوس الأشهاد وأمام الملايين من المستمعين والمتابعين، دون خوف أو وجل فهو يتمتع بحماية منظومة ثقافية وعقيدية وتشريعية تتيح له ذلك، وبتراث طويل عريض ومتأصل من التحريض ضد الآخر ومعاداته وكراهيته والدعوة إلى قتله والتخلص منه. هذا إلى جانب جيش جرار من أمثاله من الخطباء والوعاظ والدعاة إلى التكفير والكراهية والتحريض على ازدراء الآخر، ولم لا فهم يعيشون بكنف النظام البدوي الرسمي ويحظون برعايته وتمويله ويوفر لهم كل أسباب الراحة والعيش الرغيد لإطلاق فتاويهم التكفيرية المستهترة بالقيم والحياة وسلامة الآخرين، وتفتح المنابر الرسمية والفضائيات على مصراعيها أمامهم، وتمنع شخصاً تنويريا من دخول أراضيها مثل نصر حامد أبو زيد وغيره وتفرض عليهم الحصار والتعتيم وتحاربهم بلا هوادة في كل مكان. مع الإقرار بأهمية العوامل الأخرى ومساهمتها في إنتاج العنف، ومن جملتها الفاقة والفقر، إلا أن اتهام الثقافة هو أولاً وعلى رأس كل شيء، فهي المحرض والمولد للعنف. والأمر يبدو، ولاشك، أكثر من مجرد فاقة، أو فقر أو حاجة تدفع هؤلاء وأمثالهم إلى الحض على الكراهية والقتل. أنها ثقافة الكراهية والموت التي لا تشبع ولا ترتوي، أبداً، من الجثث ورائحة الدماء