لن يهدأ للمغاربة بال ولن يستريحوا من قول التفاهات وكتابة الخرافات في مراجعة الدستور -ومنها بطبيعة الحال هذا المقال- حتى تظهر نتيجة الاستفتاء الحتمية والمعروفة. قرأنا فيما كتبه الخطاطون -من أمثالي وهم منتشرون في زماننا- كلاما عجيبا غريبا. قالوا أن الدستور الجديد يؤسس لميلاد المملكة المغربية الثانية. وتناسوا أن هذا الدستور هو السادس في سلسلة الدساتير المراجعة التي أقامت دنيا المملكة الأولى ولم تقعدها. ناهيك عن حرية المستعمر الفرنسي خلال فترة الحماية في تعيين السلاطين وتنحيتهم في تحد سافر لخط الخلافة. وهكذا يكون هواة جمع دفاتر الحالة المدنية واستخراج شهادات الميلاد يعيشون في عهد المملكة العاشرة في خلسة من وعيهم بأبجديات التاريخ ومبادئ الحساب. قالوا أن الدستور الجديد يبني قواعد أول ملكية دستورية في العالم العربي. كما لو كان الدستور قبل مراجعته يصف ملكية من صنف آخر نجهله ويعرفونه. قالوا أن المغاربة يرفضون أن يدخلوا في جدال مشروعية الملكية، وتناسوا أن مثل هذا الحديث ذو سجون، وأن رفض الخوض فيه ليس بالضرورة من باب الاقتناع. قالوا أن الدستور الجديد مشتق ومستوحى من نواميس الملكيات البرلمانية؛ واحات الديمقراطية في العالم الغربي... سمعنا حديثا غزيرا لا نهاية له، نتذكر بعضه وقد نسينا جله بسبب تهافت منطقه وتفاهة متنه وشبهة سنده. يمتد طيف ردود الأفعال فيما يخص ورش الإصلاحات السياسية على بعد ثلاثة أطراف، كل طرف في واد... ما بين مؤيد على طول الخط. وقع شيكا على بياض للدولة تصلح ما تريد وتفسد وقتما تشاء. يعيش في مغرب كله نافع، تختزل فيه فصول السنة المتعاقبة في ربيع أول وثان وثالث ورابع، ولا حاجة له بربيع عربي أو عجمي خامس يزعزع استقرار عام كله أفراح ومسرات. وما بين معارض على طول الخط. يعارض الإصلاحات من قبل أن يسمعها ويستوعبها. ينادي بإسقاط النظام جملة وتفصيلا. ويدعو إلى نظام حكم جمهوري طال به انتظاره، إذا لم يكن ثمة بد من دمقرطة البلاد على الطريقة الصحيحة. مرورا بفئة ثالثة تنادي بالإصلاحات التدريجية، بدعوى أن روما لم تبن في يوم واحد، ناهيك عن خلق السماوات والأرض الذي استغرق ستة أيام. وحتى هذه الفئة التي تبدو في ظاهرها وسطية معتدلة، لم تخل من التطرف. فمنها من يحتقر المواطن في ماسوشية أصبحت سائدة في مجتمعاتنا العربية، مشيرا إلى أن وعيه السياسي لم يرق بعد إلى مستوى الديمقراطية، ناصحا بأن عليه أولا أن يسافر ملايين السنوات الضوئية وينتظر بضعة قرون أخرى حتى ينمو عظمه وتقوى عضلاته ويشتد عوده وترتفع قامته بين الشعوب المتقدمة. ومع كل هذا التضارب في الآراء والتشعب في الأجندات الظاهرة والباطنة، يصعب على المواطنين العاديين ممن يريدون خير البلاد ومصلحتها لله في سبيل الله، أن يستخلصوا سببا مقنعا واحدا يدفع المغرب لتعديلات دستورية تبح فيها الحناجر ويراق الحبر ويضيع الوقت ويبدد الجهد ويهذر المال العام. في حين يستمر البيزنس كما هو عليه في سوق الفساد والمحسوبية والرشوة وتبذير ميزانية الدولة في مشاريع لا علاقة لها بأولويات الشعب في الصحة والشغل والتعليم والعيش الكريم والسكن اللائق. يكون لمنهج التدرج في الإصلاحات منطقه عندما يتعلق الأمر باستراتيجية القرار السياسي ومراجعة أولويات الاقتصاد وإعادة النظر في هياكل السلطة وبيروقراطية الإدارات. أما التدرج في محاربة الفساد بمعناه العام، فلا يمكن تشبيهه إلا بتقليص مغانم السارق وتحديد ضحايا القاتل بدلا من المحاسبة وعوضا عن العقاب، ولا يمكن ترجمته وفهمه إلا من باب الهروب من واقع مأساوي يتطلب اتخاذ تغييرات جذرية قبل فوات الأوان. لا طائل من الخوض في ثرثرة الدساتير الممنوحة والحقوق المنتزعة، لأن أحكم الدساتير وأكمل القوانين تبقى حبرا على ورق وأقل نفعا من أدبيات الخيال العلمي، إذا ما شرف الظالم بالقضاء بها بعد تأويلها على هواه ولمصلحته، وكلف المظلوم بالقيام بواجبه في القبول بالأمر الواقع والتصويت بنعم على أمر كان مفعولا. http://gibraltarblues.blogspot.com