الجريمةُ الصامتةُ لا تخلِّف صدىً إلا بالمصادفة، أو في نتائج البحث المضني عن ملامح الجلاّد وآلام الضحية. لكنّ الجريمة الصامتة هذه المرة، أكثر صخباً من جرائم تجارتي السلاح والمخدرات. إنها تجارة الرقيق الأبيض التي تعدُّ ثالث أكبر تجارة غير مشروعة في العالم وفقاً لتقرير صادر عن الأممالمتحدة، إذ تؤكد منظمة العمل الدولية في تقرير لها صدر عام 2009، أنّ أرباح تجارة الرقيق الأبيض تتجاوز 28 مليار دولار سنوياً. ويشير التقرير نفسه إلى أنّ أكثر من 3 ملايين إنسان يشكلون المادة الرئيسة لهذه التجارة سنوياً. وفي العراق، كانت تجارة الرقيق الأبيض منعدمة بشكل كامل لغاية 1991، حين وضعت حرب الخليج الثانية أوزارها، وأعقبتها سلسلة قرارات اقتصادية عن مجلس الأمن، فرضت حصاراً على البلد استمرّ أكثر من 12 عاماً. وما أن صمتت المدافع وعادت الطائرات إلى أوكارها، حتى بدأ عويل الجوع والفاقة . لقد بدأت حرب الرغيف. و"الجوع أبو الكفّار" كما يقول الشاعر مظفر النواب. وتقدّر الأمم المتحدّة نسبة الفقراء بنحو 23 في المئة من العراقيين. من هنا بدأت أسراب العائلات المهاجرة إلى أرصفة المنفى. ومن هنا أيضاً تسلَّل سماسرة تجارة البشر، وسدنة "سوق النخاسة" إلى المنظومة الأخلاقية العراقية التي كانت شديدة التماسُك، حتى في أكثر أيام الحرب العراقية - الايرانية ضراوة، وبدأوا انقضاضهم على هذه المنظومة والنخر في بنيتها. لقد نتج عن ذلك مجموعة من الظواهر الخطيرة، إلا أن أكثرها خطورة هي ظاهرة تجارة الرقيق الابيض. صحيح أن الظاهرة لم تولَد مكتملةً آنذاك، لكن الصحيح أيضاً أن غياب منظمات المجتمع المدني، واشتغال السلطة على القيم الدينية والعشائرية التي تتعامل مع الظاهرة كمحرَّم (تابو) لا يمكن الاقتراب من أسواره، غيّبا الكثير من الحالات والتفاصيل، وجعلا الحصول على الاحصائيات المتعلقة بأعداد النساء العراقيات اللواتي تعرّضنَ لتجارة الجنس، أمراً أقرب للمستحيل. وصحيح أيضاً أنّ هذا التشكيل الجنيني شكّل قاعدة لنموّ الظاهرة بعد الاحتلال الاميركي للعراق، حيث اصبح البلد من أكثر بلدان العالم عرضةً لنشاط العصابات المنظِّمة لتجارة الرقيق الابيض. ورغم أن العراق دولة عضو في "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية" الصادر في كانون الثاني/ يناير 1971، و"العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية" الصادر في العام ذاته، و"اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة" الموقعة في 1998، إلا أن الحكومات التي تشكّلت بعد 2003 عجزت عن إصدار قانون يكافح ظاهرة تجارة الرقيق الابيض والاتجار بالنساء. وباستثناء مشروع قانون تقدمت به الحكومة الحالية الى البرلمان في نيسان/ابريل 2010 يجرّم "استقطاب ونقل واستضافة أو استقبال أشخاص بغية استغلالهم في أعمال إرهابية أو نزاعات مسلحة أو الدعارة أو الاستغلال الجنسي أو العمل دون أجر أو العمل الجبري أو الاسترقاق أو التسول أو تجارة الأعضاء البشرية أو بغرض الاستخدام في تجارب طبية على البشر"، ولم يُقَرّ من البرلمان بعد، فإنّ القانون الجنائي العراقي لم يتضمن سوى مجموعة مواد غائمة حول الموضوع، غالباً ما تجرّم الضحية وتبرّئ المجرم. وقد تناولت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الاتجار الجنسي بالنساء في تقريرها السنوي الخاص بالعراق في شباط/فبراير 2011. يقول التقرير: "منذ الغزو عام 2003، أدى تدهور الوضع الأمني والنزوح والمصاعب المالية والتحلّل الاجتماعي وضعف سيادة القانون وسيادة الدولة إلى زيادة الإتجار بالنساء والدعارة الجبرية". ويضيف التقرير أنه "استناداً إلى سجل الهجرة الجبرية بين عامي 2003 و2007، أصبحت نحو 3500 امرأة عراقية مفقودة، ويُرجح أن جزءاً من هذا العدد قد فُقِدَ في عمليات إتجار بالنساء لأغراض الدعارة". لكن الفقرة الأخطر التي جاءت في التقرير ذاته، هي تلك التي تكشف عن "قيام الميليشيات والمتمردين وقوات الأمن العراقية والقوات متعددة الجنسيات والمتعاقدين الأمنيين الأجانب الخاصين، باغتصاب وقتل نساء بعد عام 2003". * كاتب صحافي من العراق ---------------------- 500 دولار "ثمن" زهراء! رسمت وكالة الاخبار العالمية "اكسبرس" صورة قاتمة لظاهرة تجارة الرقيق الأبيض في العراق من خلال تحقيق مصور نشرته الصحفية السويدية تيريز كريستيفوس التي دخلت "سوق النخاسة" متخفية: المرأة تباع بأبخس الأثمان. ويعرض التقرير حالة طفلة عراقية اسمها زهراء بيعت بمبلغ 500 دولار. ولم تنفِ الحكومة العراقية، في أكثر من مرّة، وجود هذه الظاهرة، لكنها تتعامل معها كمن يبحث عما إذا كان الجسد الغريق جافاً. فالناطق باسمها يضع البيوض الفاسدة جميعها في سلَّةِ النظام السابق، إذ يقول "إننا نعاني من هذه الظاهرة منذ فترة الحصار. إلا أن غياب المعلومات وقتها أعاق المنظمات عن رصدها، فلم تكن هناك حرية لهذه المنظمات أن تكتب ما يجري في العراق". أما تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" الذي أُرسلت نسخة منه الى مكتب رئيس الوزراء العراقي دون أن تتلقى رداً، فيعتمد على تقريرٍ آخر صدر في آذار/مارس 2010 عن "منظمة حقوق المرأة" في العراق، يحتوي على وثائق سرّية تلقتها المنظمة من مصادر في صفوف الشرطة، مثل التحقيق في خلية إجرامية في ديالى مسؤولة عن الإتجار ب128 امرأة تم نقلهن إلى السعودية عن طريق الموصل في 2007. وبحسب التقرير، فإنّ "المتاجرين بالنساء في ديالى ربحوا ما بين 3 آلاف إلى 5 آلاف دولار عن كل ضحيّة". ------------- 2000 ضحيّة عراقيّة سنوياً يؤكد تقرير منظمة العفو الدولية "أمنستي أنترناسيونال" أن انتشار الاتجار بالبشر يشمل 139 دولة بينها 17 دولة عربية يقع العراق بمقدمتها. ويشير التقرير الى ان اكثر من ألفي فتاة عراقية يتعرضن سنوياً للخطف من أجل تحويلهن إلى سلع يتم بيعهن مقابل آلاف الدولارات، أو يُحتجزن ليُسخَّرن للعمل كالرقيق حتى يسددن ديوناً تسجَّل عليهن. والكثير منهن يتعرضن للعنف أو الاغتصاب. ووفق "هيومن رايتس ووتش"، يرى المتاجرون بالرقيق الأبيض أنه "كلما صغر سن الفتاة، كان الربح المتوقع منها أكبر". *