هى حكاية من أدب المقاومة حيث يتناول حياة وجهاد البطل الفلسطيني / يحيى عبد اللطيف عياش , والحكاية جاءت على لسان نملة , احدى مخلوقات العزيز الغفار المشهورة بالانضباط والعمل ,وقالت نملة ( الحكاية الثالثة : المهندس البطل الشهيد ) هبط المساء بردائه الأسود وسكونه الحالم جلست جماعات النمل فى صفوف متراصة لسماع حكاية استاذهم بعد عودته من فلسطين الحبيبة . وما لبث أن أطل الأستاذ بطلعته البهية فوقف الجميع تبجيلا وإحتراما , قرأ السلام , مر بين الصفوف يصافح إخوانه , ويتبادل معهم التحية ثم إتجه صوب المنصًة فى وقار . تنهد تنهيدة عميقة وبصوت مبحوح قال : جئتكم من فلسطين الحبيبة هل تتذكرونها !؟ هل تتذكرون مدينة القدس ؟ هل تتذكرون المسجد الأقصى بأنواره النورانية وجلاله الكوني وقبته الذهبية ؟ صمت لحظة ثم أكمل : كما تعلمون فى موعدى السنوي شددت الرحال لزيارة المسجد الأقصى والصلاة بداخله , كانت روحى متلهفة لإستنشاق هوائه ا لمبارك والسير على ثراه الطاهر , جاوزت الحدود ثم عبرت وديانا فسيحة وسهولا شاسعة حتى لاح جبل عال فقصدته صاعدا فى طريق دائري تطالعنى الشمس حينا وتغيب حينا حتى إرتفعت على قمته فغشاني السحاب وبهرنى وأنا أزحف بداخله حتى اعتقدت أننى من أهل السماء ثم انحدر الجبل صانعا مدرجات واسعة من السهول تنبت فى جنباتها الزروع وتتناثر الأكواخ وتهيم القطعان , لفحنى الهواء والبرد , واكتنفتنى الظلمة والعتمة حتى دخلت الأرض المباركة , فمررت من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى أخرى . تفرست فى الوجوه فرأيت بريقا غريبا فى أعينهم لم أشاهده فى أناس آخرين , بريق فيه عزة وشموخ , فى نفس الوقت رأيت ماكينات ضخمة ذات صوت هادر يسمونها دبابة تجوب الأرض مقعقعة مدوية كالرعد وخلفها جنود متسربلين بالدروع الحديدية لايرى منهم غير وجوههم ولكن صدقونى النظرة غير النظرة والبريق غير البريق , هذا البريق وتلك النظرة فيهما جبن ورعب وهلع , بريق كظل الشمس حينما يتوارى خلف الأفق منكسرا . كنت قد وصلت إلى قرية تسمى رافات وهى تقع على هضبة عالية وتشكل رأس مثلث لمدن نابلس ورام الله وقلقيلية . كانت الشمس تتوسط كبد السماء , وما إن وطأت أقدامى داخل القرية حتى حاصرنى دخان كثيف وطلقات نارية تصم الاذان وصيحات عالية وأصوات (الله أكبر الله أكبر ) تسللت سريعا حتى لمحت شجرة زيتون تسلقتها بسرعة ومن بين أغصانها وأوراقها بدأت أرقب المشهد المثير ! كانت الدبابات تتقدم فى بطء وتطلق نيرانا كثيفة فى إتجاه إحدى دور القرية وحولهم ثلة من الجنود بعضهم يقذف قنابل دخانية والآخر يطلق نارا حامية على أشباح تجرى مسرعة هنا وهناك لمحت أحد الشبان وهو يجرى بلثامه من نفس المنزل ويتجه سريعا الناحية الشرقية , لم يلمحوه حيث كانت الحجارة تنهمر عليهم بكثافة وإطارات الكاوتشوك المحترقة تعوق تقدمهم . رأيت والله أطفالا يهرولون سريعا فى يد كل منهم حجرا يقذفون به الجنود الصهاينة فيفزع منهم الجنود ويختبئون خلف الدبابة ثم لمحت صبيا يتسلل وهو ينحنى ويدور من خلف الدبابة حتى إقترب من الجندي المذعور وقذفه بحجر فى وجهه فبض الدم من شدقيه وأنسحب الصبى وسط تكبير من معه ( الله أكبر ) . بيد أن القوة المهاجمة تمكنت من تطويق الدار وإبعاد المتظاهرين فاقتحم الجنود الباب ولاح فى منتصف الدار رجل وقور فى جلباب مهندم يقف بأنفة وشموخ وبجواره سيدة فاضلة يعلو وجهها مسحة إيمانية مهيبة . أقبل نحوهم قائد الجنود وفى صلف وتعال قال : - أين المهندس ؟؟ أجاب الرجل الوقور فى هدوء : - لايوجد أحد فى المنزل إرتفع صوت السيدة الفاضلة : - حسبنا الله ونعم الوكيل وبيده أشار القائد لجنوده فانتشروا فى الحجرات كالذباب مرت دقائق عاد بعدها الجنود خاليى الوفاض فتملك الغيظ من القائد وقال بصوت فيه وعيد : - بشرفى لن يفلت المهندس علا صوت السيدة الفاضلة وهى تقول : - وهل لكم شرف ياأوغاد ؟؟ خرج القائد مسرعا وحوله ذبابه والحقيقة ياأحبابى دهمنى غضب شديد ماهذا الظلم الجائر ؟؟ ماهذا الإجرام والتوحش ؟؟ ************************************************ انقشع الغبار وبدأ توافد أهل القرية فتحلًق الرجال بالرجل الوقور وإلتفت النساء بالسيدة الفاضلة سمعت إحداهن تقول : - الحمد لله أكرمنا الخالق العظيم فى اللحظة الأخيرة فلم يستطيعوا أن يقبضوا على المهندس . وردت أخرى : ربنا يحميه .دوًخ الصهاينة وأطلقت سيدة زغرودة عالية وقالت : - يارب انصره كمان وكمان وأكمل شاب بلحية كثيفة : - لله درك مهندسنا الحبيب حفظك الله من كل سوء وهلل آخرون وكبًر رجل من فوق سطح منزل مجاور وأنشد: لازم نصبر مهما صار وبعون الرب الجبار بعد الليل نهار وجهت وجهتى شطر القدس الشريف حتى لاحت من بعيد قبة الصخرة تلمع كقرص الذهب , فرت الدموع من عيني , حثثت المسير حتى أدركت المدينة فى المساء , لثمت الثرى الطيب , وملأت جبهتى بترابها المبارك , وما إن وجدت نفسى داخل ساحة الأقصى حتى لفحتنى نسمة رقيقة معبقة بشذا الإيمان ودار بصرى فى أركان المسجد الكبير وتمتمت فى خشوع : واأقصاه , هنا مسرى الأنبياء , هنا إصطف الرسل , موسى , ابراهيم , نوح , ادريس , عيسى وغيرهم , هنا وقف سيد الخلق محمد صل الله عليهم جميعا وسلم إماما ومعلما , وسجدت لرب العالمين وأنا أدعو : يارب ياواسع ياعليم ياذا الفضل العظيم إن يمسسنى ضر فلا كاشف له إلآ أنت وإن تردنى بخير فلا راد لفضلك تصيب به من تشاء من عبادك وأنت الغفور الرحيم مكثت فى المسجد ثلاثة أيام مابين القيام والسجود والتسبيح والدعاء . خرجت من المسجد وبدأت فى جولة داخل المدينة الحبيبة ولكنى لاحظت عربات عسكرية كثيفة تجوب الطرقات مسرعة فى توتر , دبابات ثقيلة تدك الأرض دكا , جنود مدججون بالأسلحة من القدم حتى الرأس , وفى حارة جانبية سمعت تعليقات تدور كلها عن المهندس , شجاعة المهندس , متفجرات المهندس , كيف يتنكر المهندس ؟ , رعب الصهاينة من المهندس , لمحت مجموعة من العجائز يتحدثون , قال أحدهم : أنه لمحه على هيئة حاخام يهودي . وقال آخر أنه رآه فى صورة بائع فستق . وقال آخر انه شاهدة تاجرا للبرتقال . وقال آخر أنه شاهده مرتديا ملابس قس كاثوليكي . تركتهم وتجولت سرعان ماقرأت مكتوبا على أحد الجدران : بإمكان الصهاينة إقتلاع جسدى من فلسطين غير أننى أريد أن أزرع فى الشعب الفلسطيني شيئا لايستطيعون إقتلاعه . توقيع المهندس . ثم مررت على قاعدة عسكرية صهيونية وتجولت بداخلها ووجدت مجموعة من العسكريين الصهاينة يتكلمون . اقتربت وسمعت أحدهم يقول : إن رابين يبدأ كل جلسات الحكومة أو المجلس المصغر بالسؤال عن المهندس وآخر عملياته . ورد آخر : لقد جندنا له مئات من العملاء والمخبرين ولا فائدة . وقال ثالث : نحن نلاحقة منذ ثلاث سنوات بدون نتيجة . وقال آخر : لقد دبر أكثر من ثلاثين عملية عسكرية فى القدس وتل أبيب وعسقلان وحيفا ومركز قيادة الأركان . رد الأول : حتى خبير المفرقعات الإسرائيلى الميجور يوسى حيون والذى ليس له نظير فى العالم كله أوقعه المهندس فى كمين محكم وبفكرة بسيطة جدا تمكن من قتله . تنهد الثانى قائلا : كان يوما عصيبا تمت فيه إقالة رئيس المخابرات ووزير الأمن الداخلي . جرفتنى سعادة غامرة وأنا أستمع إلى بطولات المهندس آثرت العودة إلى بلدى الحبيب .وفى الطريق لاحظت أن جموعا حاشدة من الفلسطينين تتجه كلها ناحية غزة , جموع من هنا وهناك , تتلاقى وتتجمع وتواصل المسير , اعلام ترتفع , بيارق تعلوا , رايات ترفرف , هتافات كالصرخات , تكبير وتهليل , دفعنى الفضول فسرت معهم حتى دخلنا غزة وعند مستشفى الشفاء وجدت أمواجا من البشر تسد جميع الشوارع المحيطة وهناك عرفت الخبر المشئوم : لقد تمكن الصهاينة من قتل المهندس فى بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة بإستخدام عبوة ناسفة زرعت فى هاتف نقال . ومن المسجد الكبير وبعد أدا ء نصف مليون فلسطينى الصلاة علية خرج الجثمان الطاهر تحمله الأكف المباركة , واعتصرنى الحزن والألم ووجدت نفسى أتقدم ببطء وسط الزحام الرهيب حتى تسلقت النعش ومشيت قبالة الجسد الطاهر حتى حازيت جبهته فانحنيت عليها طابعا قبلة عميقة أودعتها كل ماأملك من حب وإمتنان وإنسحبت سريعا إلى الخلف والجماهر تنطلق بالجثمان الطاهر وتنشد : يارياح الجنة هبى ياأنهار الشهداء صبى تلاقينا بالليل نلبى قوموا ياأبطال سيف ومصحف ياأحرار لازم نصبر مهما صار وبعون الرب الجبار بعد الليل نهار وعلى باب المسجد الكبير تحلقت النساء حول السيدة الفاضلة عائشة عياش التى وجهت نظرها إلى نعش إبنها المحبوب وهتفت : قلبى وربى راضيين عنك إلى يوم الدين غادرت غزة بعد هذا اليوم العصيب وأتجهت مباشرة إلى بلدى الحبيبة مصر وعلى الحدود شاهدت جنديا يقرأ من صحيفة لزميل له: " لم يستطع شمعون رومح أحد كبار العسكريين الصهاينة أن يخفى إعجابه بالمهند س حين قال ( إنه لمن دواعى سرورى أن أجد نفسى مضطرا للإعتراف بإعجابى بهذا الرجل الذى يبرهن على قدرات وخبرات فائقة فى تنفيذ المهام الموكولة اليه وعلى روح مبادرة عالية وقدرة على البقاء وتجديد النشاط دون إنقطاع ) وأستكمل ( اعلن رئيس المخابرات أن موت المهندس وضع حدا لأخطر وأعنف المحاربين الذين عرفناهم ) وأستكمل : صرح موشيه شاحاك وزير الأمن الداخلى قائلا ( بتنا نتنفس بشكل أفضل بعد إعلان موته ) انهمرت دموع الأستاذ وهو يقول : هل تعلمون من هو المهندس ؟؟, انه البطل الشهيد يحيى عبد اللطيف عياش . علت الأصوات بالبكاء وجرى الدمع على الثرى وارتجت الأجساد فى نحيب مرير ***************************************** [/