• منير الشرقي و أنا طفل صغير.. ينط في باحة الحديقة بحي الوازيس ، أركض بدراجتي الصغيرة ، تلاحقني آسية مداعبة ...."آجي أهذاك الخنفوس" أسارع لأراوغها خلف شجرة التين الوارفة ، تطاردني متوعدة ضاحكة ... كان العمر لحظتها ست سنوات ، كانت آسية تبدو لي - وكما كانت دائما - امرأة جميلة، بطلعتها البهية و ابتسامتها الطافحة تحملني بين ذراعيها و تلهو بي وسط الحديقة... أغتبط و أنتشي بدعابتها و مشاكستي لها ... بداخل الغرفة، و فوق أريكة متواضعة يجلس الآسفي ، كان نحيفا متعبا حد الانهيار، تقف بجانبه ثريا تضمد أطرافه بالماء الساخن، ثم تمدده بحنو الصابرين ... ذاك الطفل الذي كنته ، يسترق السمع بين الحاضرين .. فهم أن الآسفي كان "غائبا "لأزيد من سنة و نصف ، كان مجهول المصير بأحد الأقبية السرية ، وقع ذلك حين اختطفه زوار الفجر من بيته سنة 1973 ، عصبوا عينيه ، قيدوا يديه و رجليه .. ليعيش في جنح الظلام بين الجدران الباردة ... كانت آسية لحظتها ترمق الآسفي و في عينيها حزن عميق ... تغالب بكبرياء دموعها ..و تبتسم . في اليوم الموالي مودعا ، قبلت ثريا و الآسفي و عانقت آسية و هي توصي والدي "عنداك آعمي تجي هذه المرة و ما تجيبش معاك منير" . منذ تلك اللحظة رسمت المرأة في ذاكرتي وشما جميلا ، أحسست بميل كبير تجاهها... ازدادت محبتي لهذه المرأة و أنا يافع أتلمس طريق رشدي ، أذكر حين أصرت آسية أن أرافقها لا أعرف إلى أين ؟ أجلستني بجانبها ، و طلبت من الباقي ارتياد المقاعد الخلفية للسيارة و انطلقت في أي اتجاه ، لست أدري ...؟ كانت تتجاذب أطراف الحديث مع مرافقيها ، و في كل لحظة و حين ، و بزفرة عميقة كانت تدعو الله " إمتى ياربي يجي الفرج...". حاولت أن أفكك ما يروج من كلام بدا لي مبهما ، لكن الصورة لم تكتمل إلا بعد الزيارة. أوقفت سيارتها و قالت " جبدوا les cartes.. أجيو معايا " قبضت على معصمي و التفتت إلي : "مالك ياك ما خايف" أجبتها "لا" دون أن أضيف .. رفعت عيني عاليا لقراءة ما كتب على البوابة الحديدية : "السجن المركزي بالقنيطرة" . بعد استكمال إجراءات التفتيش و تدقيق الهوية، ولجنا بوابة المزار ، قبلات و سلام حار: " جبت معايا اليوم ولد عمي...هذا هو منير ، طبعا صلاح و عزيز تعرفهم - تقدم - هذا المنصوري ، و هذا عبد القادر الشاوي و هذا التمسماني و هذا عباس المشتري و هذا المسعودي و اللائحة طويلة .. كانت المرأة تتحدث إليهم، تسألهم عن حالهم وصحتهم ، و تخبرهم بالمبادرات التي قامت بها لجنة التنسيق المكونة من عائلات المعتقلين و منظمة العفو الدولية و الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ... شجون ، قهقهات ، نكت ، عناوين كتب ، جرائد ،أحلام .. وصايا هي كل ما راج في تلك اللحظة القصيرة .. وقف حراس المركزي مطالبيننا بالانسحاب ...انتهى موعد الزيارة ..عناق ، دموع و صمت بليغ جعل المآقي تنوب عن الكلمات ... عدنا لتونا ، و على طول الطريق كانت آسية تمسح دموعها بكبرياء، خيم صمت رهيب على رحلتنا من القنيطرة إلى الدارالبيضاء ، عدنا إلى البيت بحي الوازيس ، كل واحد منا يحمل حرقته في صمت ... بعد عشر سنوات من المحن، أفرج عن صلاح و عزيز ، و معهم بعض الرفاق، لكن الفرحة لم تكتمل لأن رفاقا آخرين لم يشملهم العفو لحظتها ..فظلوا قابعين خلف الأسوار ، يكابدون بشموخ و عناد في انتظار الذي يأتي و لا يصل ... في خريف 86 كان رحيل والدي مفاجئا.. قاسيا حد الإيلام. حضنتني آسية بين ذراعيها بحرارة ، و أنا شاب في العشرين ، كانت تبكي بحرقة و تنتحب ... ومُذّاك توطدت العلاقة بيننا، أصبحنا صديقين، تسأل عن أحوالي الدراسية، عن آفاق الجامعة ، و عن طموحي المهني.. بأريحيتها المعهودة ، تضع في جيبي - رغم تعففي- أوراقا مالية لمجابهة الحياة .. آسية الله يهديك ، راه عندي باش نقضي .. ترد : "اسكت ليماك " عندما استكملت دراستي الجامعية، كان قدري مع أول تعيين بمنطقة الريف بالحسيمة.. " آه .. داوك آوليدي من آسفي للحسيمة يا لطيف يا لطيف يا لطيف بعيد الحال .." حملتني في سيارتها على بعد ساعة من انطلاق القطار ، أسرعت إلى سوق القريعة ، اشترت لي تلفازا و علقت: "على الأقل باش دوز الوقت.." أوصلتني إلى محطة القطار، قبلتني بحرارة مودعة و قالت "الله يعاونك آوليدي" . آسية... امرأة زاهدة في الحياة ..جعلت من معانقة القضايا الكبرى اختيارا في حياتها، انتقلت من النضال الطلابي ، إلى النضال الحقوقي دفاعا عن الديمقراطية و حقوق الإنسان. و بعد كسب معركة الدفاع عن المعتقلين السياسيين ، انتقلت إلى النضال النسائي دفاعا عن النساء المعنفات و قد قادت تجربة رائدة بداية التسعينات بإحداث مركز للاستماع لضحايا العنف بالبيضاء . بقدر ما تتوسع دائرة المكتسبات ، بقدر ما تختار آسية جبهة جديدة ، فاتجهت إلى الدفاع عن الحق في "المعاملة الكريمة" داخل أسوار السجون ، كانت الانطلاقة نهاية التسعينات بإحداث المرصد المغربي للسجون الذي شكل بداية الانفتاح على المؤسسات السجنية . و بعودتها لسلك القضاء على عهد الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي و توليها المسؤولية بإدارة السجون ، سعت آسية إلى ترجمة قناعتها في استعادة هذه المؤسسة العقابية لوظائفها التربوية و الإصلاحية ، و جابهت مقاومات عدة من أجل أن تستفيد هذه الفضاءات من الآدمية المستحقة ، كان لخطواتها و مبادراتها الوقع الكبير... في سياق عهد جديد ، اختار له عاهل البلاد مفهوما جديدا للسلطة و مقاربة متقدمة لفلسفة العقاب ، توج ذلك بإحداث مؤسسة محمد السادس لإدماج السجناء من أجل تأمين حقهم في التربية و التكوين والإدماج الاجتماعي ... لا يمكن أن تتصوروا معي فرحة آسية لحظتها و قوة إيمانها بأفق هذا المشروع الإصلاحي الكبير... هي التي خبرت كل تضاريس المغرب و مسالكه الوعرة و السهلة ..تعرف آسية كل زنازن المركبات السجنية ، تعرف أحياءها الداخلية .. الشمبريات ، الكَريات ، الكاشوات، السيلونات ... بصداقتها تحول قدري مع هذه المرأة الرائعة إلى تماه روحي تنسجه علاقات إنسانية عميقة .. - آلو آسية .. فينك..؟ أنا في أزيلال .. - غدا فين غاتكوني ؟.. في بولمهارز .. - غادجي دابا ؟ .. دابا رانا في عكاشة ، وصل علي لإصلاحية أنا تنتسناك.. - نهار الأحد غد تكوني في الدار ..؟ لا غانمشي تيط مليل ! دوز للدار راه عندك الساروت نتلقاو في العشية " - أنا غادي نجي لكازا السبت ، مزيان عندنا حفلة ديال عاشورا للأولاد الموظفين ديال السجن ، بغيتك تحضر معايا .. - فينك آمنير ..آجي تشوف واحد الحالة : فين ؟ في مركز عبد السلام بناني - أش كاين ...؟ بنيات صغار معتقلين كارثة هاذي .. ناضلت آسية من أجل حماية الطفولة من الجنوح و تأمين حقها في التحصيل الدراسي .. و كان نضالها أقوى من أجل تغيير فلسفة العقاب و السياسة الجنائية ببلادنا ، لها اجتهاداتها الوازنة المضمنة في أدبيات المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان . آسية امرأة لا تكل و لا تعرف الراحة .. كنت أقول للأصدقاء ..احذروا صداقتها .. - آجي .. آمنير .. بغيت نهيئ واحد الدليل . - ديالاش..؟ دليل خاص بالأحداث .. يفيد القاضي و المحامي و أسرة النزيل .. - عافاك .. شوف ليا شي محامين .. يطوعوا معانا .. باش يتبعوا ملفات هاذ الأطفال في المحاكم .. - آجي آ منير .. راني عندي مشروع خصنا نوسعوا جمعية أصدقاء مراكز الإصلاح في عدد من المدن .. كاين شي ناس نعولوا عليهم فهاذ الشي .. - هاذيك الشعلة ديالكم علاش ماديروش معانا التنشيط التربوي في مراكز الإصلاح .. فين هو أمدي .. عيط لي على عبد المقصود .. يديروا معانا إيد الله فهاذ الشي .. - هذاك الشي لي درتو في آسفي ديال المشاريع المدرة للدخل راه ممتاز .. خصو يتعمم باش السجناء المفرج عنهم يلقاو باش يعيشوا ، وتحفظ كرامتهم .. المرأة كلها إلحاح .. طموحها لا حدود له .. عندما يرن هاتفها .. أعرف جيدا عبارتها المأثورة : فين غبرت آولد الحرام ..امتا غادي دجي للدارالبيضاء..؟ آسية الوديع صديقة رائعة ، تحب النكتة وتعشق الشعر ، تسحرها أم كلثوم وناس الغيوان وصباح فخري .. حين تهتز طربا : عيشة لا حب فيها .. جدول لا ماء فيه آسية امرأة عاشقة للبحر ، لها مطالب " دقيقة " للتمتع بغروب الشمس ، و كم " تعبت" في البحث عن زاوية الجمال في شواطئنا الممتدة بالوليدية وسيدي بوزيد بالجديدة وبوزنيقة لإرضائها دون أن أصيب ... آسية .. ككل النساء الجميلات تعشق الحياة ، كانت لها أحلام كبيرة و طموحها أكبر .. أحيانا محبطة .. وأحيانا قلقة ، لكنها متفائلة و إيمانها قوي بالأفق الإصلاحي الذي دشنه ملك البلاد . أذكرك أيتها الغالية ..كم من مرة رن هاتفك وأنت متعبة على فراش المرض .. - منير.. إمتا غدي ديرو اجتماع ديال الجمعية ؟ - منير ..عيطت ليا حميد برادة ، وقال لي بغيت نسجل معاك حلقة من برنامج ... mais encoreآشنو رأيك ؟ - منير.. اتصل بجميلة السيوري وشوف معها موضوع الندوة حول عدالة الأحداث لي بغينا نديرو مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان .. - منير - وكانت تلك آخر مكالمة هاتفية يوم أحد- ..بغيتك تفرغ وتقابل ليا الجمعية ..راها أمانة في عنقك ..هاك .. ندوز ليك التيجانية غدي تهدر معاك في هاذ الموضوع .. هل كانت آسية ترتب لرحيلها بعناية ؟؟؟ ..لست أدري ..فالمرأة أنهت مشوارها المهني بعد أن أحيلت على التقاعد ..وتوجت حصيلة عمل جمعيتها في حفل فني بمسرح محمد السادس بالبيضاء ..وانتظرت إلى حين صدور التقرير حول واقع السجون بالمغرب الذي أعدته رفقة طاقمها من المجلس الوطني لحقوق الإنسان ..وتركت وصيتها ورحلت .. هكذا أحبت ان تكون .. شامخة رغم الوهن .. صارمة حد الزهد .. رؤوفة بلمسة الحنو .. هي معدن من ذاك النبع الأصيل .. فصبرا أحبائي على قساوة هذا الرحيل ..