أحدث صعود حزب سيريزا إلى السلطة في اليونان زلزالا سياسيا في مجموع أوربا،هذا الحزب المشكل من عدد من تيارات ومكونات اليسار يتبنى إستراتجية سياسية راديكالية وتنبنى فلسفته وبرنامجه على تأمين حياة كريمة للجميع ووضع حد لمسلسل الاهانات والإذلال الذي تعرضت له بلاده من قبل اللجنة الأوربية وصندوق النقد الدولي وإملاءات المستشارة الألمانية مركيل ما زج باليونان في نفق مظلم من التقشف والبؤس والبطالة وتراجع مستوى المعيشة للحد الذي لم يعد معه ممكنا الاستفادة من عدد من الخدمات والمواد الأساسية. يوم 25 يناير 2015 دشن تاريخا سياسيا جديدا في جزء من أوربا المتوسطية ،وبدا واضحا من خلال التغطية الإخبارية الواسعة والمكثفة التي خصصتها وسائل الإعلام الأوربية للحدث ،أن المسالة لا تقتصر على مجرد اقتراع تقليدي وتقني ،أو استحقاق حددت معالمه مسبقا ،بل بتسونامي سياسي أفرزته مخلفات وتداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية التي ضربت عددا من الدول الأوربية منذ 2008 وتغول الرأسمالية التي جعلت من الابناك والمؤسسات المالية الضخمة دولا وحكومات قائمة بذاتها .فهي من يحدد الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية والاجراءات والتدابير التي ينبغي اتخاذها لإنقاذ اقتصاديات عدد من الدول من الانهيار الشامل والافلاس المدمر. كل من شاهد الخطاب الذي القاه” ألكسيس تسيبراس ” زعيم حزب سيريزا في إحدي ساحات اثينا وهو متوج بنصر سياسي غير مسبوق في تاريخ أوربا ،لمس من دون شك كاريزما الرجل وقوة كلماته وصدق وعوده وجاذبية خطابته وبهاء حضورره،ودقة رسائله إلى من يهمهم الأمر، خاصة في اللجنة الأوربية .فحزبه حصد في زمن قياسي 149 مقعدا ،وفرض نفسه قوة سياسية أولى تلقت التهاني من الحلفاء من أكثر من بلدا وربي وخاصة مكونات اليسار الراديكالي والديمقراطي ،وحتى من اللجنة الأوربية التي احترمت الإرادة الشعبية التي أوصلت تسيبراس إلى رئاسة الحكومة ،ما يعني أن هذا الأخير يتكئ إلى شرعية ديمقراطية وشعبية لا مجال للطعن في مصداقيتها .وأن كان ربح الانتخابات لا يعني بالضرورة ربح السلطة “كما يخلص إلى ذلك حليفه ونظيره بابلو اكلسياس زعيم حزب بوديموس “نستطيع” في كتاب ألفه حول النضال من أجل الديمقراطية السياسية على خلفية الأزمة الاقتصادية التي ألمت بإسبانيا منذ 2008.علما ان حزب بوديموس في اسبانيا هو الأخر ينتمي إلى عائلة اليسار الراديكالي المكونة من الشيوعيين ونشطاء حركة 14ماي 2011 الذين خرجوا بمئات الآلاف إلى ساحة “بورتا ديل سول بمدريد ” لإدانة النظام السياسي والاقتصادي الذي عرض فئات واسعة من الإسبان للتفقير والتشريد والبؤس و البطالة والانتحار بكل أنواعه.وأجبر العديد من المؤسسات على التوقف عن الإنتاج وتسريح عمالها. ظاهرة اكتساح اليسار الراديكالي لجزء من المشهد السياسي الأوربي ،لا يمكن التعاطي معها من منطلق تبسيطي ،قائم على اعتبارها مجرد ردات فعل ضد أزمات عابرة ،بل هي ثمرة حراك وتفكير استلهم العديد من الحركات والتجارب والمنتديات ،بما فيها تلك وصلت إلى السلطة كما هو الشأن في البرازيل وكلومبيا والاكواتور .ويعي الأمين العام لحزب سيريزا اليوناني جيدا انه لابد من حلفاء في أجزاء أخرى من أوربا ،فهو مقتنع بان اليونان و بحكم ما تمثله اقتصاديا بالنسبة للنسيج الاقتصادي الأوربي ،لا يمكن أن تشكل بؤرة وازنة ومؤثرة سياسيا واقتصاديا ولذلك فهو يسعى ويحتاج إلى حليف من عيار اسبانيا التي تشكل قوة اقتصادية بنسبة 12 في المائة الناتج الداخلي الخام في أوربا .وهو ما يعزز قدرات حزب سيريزا للتفاوض بشكل مريح مع اللجنة الأوربية ومواجهة تهديداتها التي وصلت إلى درجة إشهار ورقة قطع الإعانات في حال تصويت الناخبين على اليسار الراديكالي،غيران الناخبين ما حدد وعيهم هو وجودهم الاجتماعي ،وليس وعيهم هو الذي حدد وجودهم الاجتماعي وفقا للمقولة الماركسية الشهيرة. وتظهر العديد من التحركان والإشارات السياسية الصادرة عن أكثر من تنظيم يساري راديكالي في أوربا ،أن هناك موجة عارمة من التأييد والمساندة للطريق الذي اختاره حزب سيريزا اليوناني في بناء قوة سياسية ذات جاذبية اجتماعية واقتصادية ،والإستراتجية التي ينوي إتباعها لوضع حد لخمس سنوات من التقشف والإذلال اللذين عانت منهما اليونان،بما في ذلك التفاوض حول ملف الديون الذي أثقل كاهل الاقتصاد اليوناني بعشرات الملايير من الاورو،والتوجه نحو اعتماد قرار سيادي يقضي بوقف الديون لمدة خمس سنوات ،ورغم أن بعض الأوساط المالية في بروكسيل تتخوف من لجوء سيريزا ومستقبلا حزب بوديموس في اسبانيا إلى الرفض المبدئي للتفاوض بشان ما في ذمة بلديهما من ديون ،فإن قياديين من داخل الحزبين يرون أن هناك جرعة من الواقعية سيلتزم بها الحزبان في تدبير مسألة الديون ،خاصة وان الحزبين يعتبران أن البعد الواقعي في كل السياسات والاختيارات أمر ضروري لممارسة الحكم ،وهذا ربما ما دفع حزب بوديموس في اسبانيا إلى إجراء تعديلات على برنامجه ومشروعه الأصلي ،ولم يعد يتحدث عن تأميم المصارف ورفض تسديد الديون وتحديد سن التقاعد في 60سنة ،وآثر في السياق ذاته اعتماد الإصلاح الضريبي التدريجي على غرار النموذج السويدي . مما لا جدال فيه هو أن ما حصل في اليونان ستكون له تأثيرات متفاوتة في أكثر من بلد أوربي ،خاصة في ايطاليا و البرتغال وايرلندا وفرنسا ،وان كانت هذه الأخيرة لم تتعرض لانتكاسة اقتصادية واجتماعية كما هو الشأن في اليونان واسبانيا ،بيد أن جون لوك ميلانشو زعيم حزب جبهة اليسار في فرنسا رأى في انتصار سيريزا اليوناني انتصارا لجبهته واحتفل ليلة الفوز الكبير لسيريزا مع عدد من رفاقه بهذا النصر وهتفوا من الأعماق وبحماس “ربحنا ..ربحنا”وربما كان ميلانشو يرى في نفسه صورة مماثلة ولو بطريقة افتراضية لرئيس الحكومة اليونانية لتسيبراس ” ولم يتردد ميلانشو في القول ستتبع اسبانيا اليونان وبعدها فرنسا .خاصة وأنه اصدر مؤخرا كتابا بعنوان” عصر الشعوب”يرافع فيه عما سماه ” نظرية الثورة المواطنة” التي لا تتقيد بالمذاهب الكبرى للاشتراكيةو تتمرد على الرموز التقليدية للفكر اليساري. الاكتساح المحتمل لليسار الراديكالي لجزء من أوربا وتحديدا في اسبانيا بعد وصول حزب سيريزا إلى السلطة في اليونان ،تكرسه استطلاعات الرأي ،التي تمنح المرتبة الأولى لحزب بوديموس في الانتخابات التشريعية التي ستنظم قبل متم السنة الجارية متقدما على الحزب الاشتراكي العمالي والحزب الشعبي ،كما ترشحه هذه الاستطلاعات للفوز بنسبة عالية من الأصوات في الانتخابات المحلية والجهوية في ماي-أيار من السنة الحالية . فحزب بوديموس الذي انبثق من رحم ساحة بويرتا ديل سور بمدريد والمكونة نواته الصلبة من أساتذة العلوم السياسية والفلسفة ومناضلو اليسار المناهضين للرأسمالية ،لم يتأسس سوى في نونبر2014 ،ولما شارك في الانتخابات الأوربية وهو في أقصى مراحل الفتوة ظفر ب 8 في المائة من المقاعد ،ما شكل علامة دالة على تمفصلات جديدة وتغيرات جوهرية في المشهد السياسي الاسباني ولا حقا الأوربي على الأقل في جزءه المتوسطي .وهذا الحزب على غرار سريزا يحلم بدوره بالوصول إلى السلطة ،ويشكل زعيمه “بابلو اكلسياس” ظاهرة استثنائية بكل المقاييس ، فرغم عمره الذي لا يتجاوز 36 سنة، فقد أصبح في مدة قصيرة الشخصية السياسية المفضلة .فهو متمرد على الرسميات ويحمل كثيرا من قيم وسلوكات تشي غيفارا ،وصنع صورة مثالية وكاريزما آسرة في استوديوهات التلفزات ،لدرجة أن هناك من استنتج أن حزب بوديموس بدون الرصيد الإعلامي لزعيمه بابلو اكلسياس وبدون حركة 14 ماي 2011 لا وجود له . وكما هو الحال بالنسبة لتسيبراس ،فإن الخصم الأساسي لبابلو اكلسياس هي الترويكا المكونة من اللجنة الأوربية والبنك المركزي الأوربي وصندوق النقد الولي ،وكلاهما مقتنع تماما أن العدالة الاقتصادية والاجتماعية والسيادة الشعبية ستشكل أساس وقاعدة ديمقراطية ستفرض لمواجهة الخوف يقول اكلسياس الذي تربى في صفوف الشبيبة الشيوعية وورث نزعة جمهورية من أبيه الذي صدر في حقه حكم بالإعدام من طرف محاكم الجنرال فرانكو. ملاحظة : يُنشر المقال باتفاق مع الكاتب