إن الحوار الجدي و”الرسمي” بين النخب الثقافية والسياسية المعنية بالانتقال الديمقراطي بالمملكة المغربية يكاد يكون معدوما منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، والذي هيأ آنذاك لما يسمى التناوب التوافقي. ورغم الإصلاحات والتغييرات الجوهرية التي حملها عهد الملك محمد السادس، سواء في ما يتعلق بالمفهوم الجديد للسلطة أو الإعلانات المتكررة عن رغبة المملكة في إقرار حياة ديمقراطية سليمة وطبيعية من خلال أفعال وخطب وتقارير…، فإن توافق النخب حول إستراتيجية الدولة في هذا المجال، وتحمل كل طرف لمسؤولياته السياسية وفي حدود الدور المنوط به لتسهيل عملية الديمقراطية وتسريع خطواتها بقي غائبا أو ضعيفا…ولا يخفى أن غياب مثل هذا التوافق يضع الكثير من العوائق في طريق التحول الديمقراطي من جهة، ويوفر الأسباب لخيارات أكثر صعوبة في هذا الباب، وهي خيارات تقربنا كثيرا من العنف والصراع والتجزئة.. إن الأطروحة التي نقترحها في هذا الباب، والتي تزداد نضجا بتفاعل الباحثين والإعلاميين والقراء، لم تكن بالوضوح والمتانة التي هي عليها اليوم، وقد ساهمت المناقشات والحوارات والسجالات المستمرة منذ أربعة أشهر مضت في إنضاجها النظري، ولا يخفى أن الغاية من ورائها هو اجتراح أفق جديد للديمقراطية المغربية، أفق يخرجها من المأزق الذي تعيشه على صعيدي الأطروحة والممارسة، ويبعدنا عن شبح «الأزمة السياسية» وما تستتبعه من أزمات اقتصادية ووحدوية. إن هذه الأطروحة حول الانتقال الديمقراطي تقترح أرضية سياسية لعمل سياسي ديمقراطي وتوافقي، تنخرط فيه كافة المؤسسات، ويحفظ الاستقرار ويعزز فرص التنمية. ونظرا للالتباسات التي لازالت تعاني منها هذه الأطروحة في أكثر من مستوى، فإننا بحاجة إلى تطوير النقاش فيها وحولها، وبصورة مبسطة تسهل على المتتبعين فهم كنهها ومراميها، بعيدا عن أشكال سوء الفهم العمد وغير العمد المنتشرة بين الكثيرين حول هذا الموضوع. وفي هذا السياق يمكن القول إجمالا: لا يختلف اثنان في كون المملكة المغربية اليوم لا تعيش حالة ديمقراطية سليمة ومكتملة، وأنها في أحسن الأحوال – إذا صدق الوصف – تعيش طورا انتقاليا، تأمل جميع أطرافه أن ينتهي قريبا، ودون خسائر. ورغم اتفاق الجميع حول هذه المقدمة، فإن هذا الاتفاق يخفي في طياته صعوبات كثيرة، ويحمل أخطارا وتهديدات جمة. ولعل أول مشكلة تعترضنا في هذا السياق هي مفهوم الديمقراطية ومقتضياتها، ومقوماتها الجوهرية، فالكثير من الناس والنخب يركزون في الديمقراطية على معنى تحقق سيادة الشعب على نفسه من خلال ممثليه، مع ما يقتضيه هذا المعنى من إعادة توزيع السلطة على صعيد الدولة، وعمليات الانتخاب، وأشكال التمثيل…، غير أن هناك معان أبعد في الديمقراطية لا يتم في العادة الالتفات إليها، وتقوم مقام الثوابت والمسبقات الثقافية والسوسيولوجية والإستراتيجية لأي مشروع ديمقراطي، ومن هذه المعاني: المواطنة السياسية؛ التعددية؛ الأجوبة السياسية… وكل المرجعيات الديمقراطية في العالم نظريات ونماذج تؤكد على هذه المسبقات والثوابت، إذ هي أساس الممارسة السيادية للشعب. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: ما مدى تحقق المملكة المغربية من هذه المبادئ المرجعية في الديمقراطية؟ هل الإنسان المغربي متحقق من معنى المواطنة، ومتحرر في الموقف السياسي من النزعات الدينية والعرقية والعشائرية؟ هل الأحزاب المغربية بشكل عام تعبيرات حقيقية مصلحية، فئوية أو طبقية، لها حد أدنى من الامتداد الأفقي (الجغرافي) والعمودي (التنظيمي)؟ هل الفاعلون السياسيون مؤهلون بما يلزم للجواب سياسيا عن أسئلة الدولة المجتمع؟. إن هذه الأسئلة تحيلنا إلى أبعاد إستراتيجية في إشكالية عسر التحول الديمقراطي، أبعاد لا يمكن تجاوزها من خلال تنظيم انتخابات نزيهة وسليمة، بل على العكس من ذلك قد تزيد العمليات الانتخابية من ضمورها أو تأزمها. وتنضاف إلى هذه الاعتبارات المتعلقة بمفهوم الديمقراطية اعتبارات أخرى تحيل على المخاوف الإقليمية والدولية من الكلفة السياسية للتحولات الديمقراطية في بلدان الجنوب، ما يجعل القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في القرار الإستراتيجي للمملكة –مثلا- غامضة الموقف تجاه الديمقراطية، وخاصة إذا كانت تحمل الإسلاميين إلى السلطة. ومن ثم، وبناء على هذا الفهم نعيد طرح السؤال: ما معنى الانتقال الديمقراطي في ضوء هذه التحديات؟ وما هي مقتضياته؟. إن التحول نحو الديمقراطية – في هذا السياق – يقتضي من بين ما يقتضيه توفير الشروط التاريخية والإستراتيجية لتبلور نظام ديمقراطي سليم وإيجابي، وعلى كل الفاعلين السياسيين القيام بما يلزم من أجل إنجاز هذه المهمة بأسرع وقت ممكن، فبدونها تتحول الديمقراطية إلى مستحيل غير قابل للتحقق وإن فنيت في طلبها المهج. إن البلدان الديمقراطية العريقة، والتي يُحتذى بديمقراطياتها اليوم، لم تمر بما يعرف اليوم بالانتقال الديمقراطي، الذي هو بالتعريف عملية تحول قيصرية، بل عرفت تحولات تاريخية جذرية ثقافية وسوسيولوجية وسياسية، استغرقت سنين عددا، حتى استقرت على الحال الديمقراطي، ومعنى هذا أن الديمقراطيات الطبيعية والراسخة التي نقلدها اليوم هي في الجوهر ديمقراطيات تاريخية، وليست ديمقراطيات انتقالية، وكل تجارب الانتقال الديمقراطي التي عرفتها بعض دول أمريكا اللاتينية بالأساس الغاية منها هو تأسيس ديمقراطية تاريخية راسخة، وقد تعرض الكثير من هذه التجارب إلى نكسات واضطرابات. إن المملكة المغربية إزاء الديمقراطية بين خيارين لا ثالث لهما: إما أن تستسلم للتاريخ وصراعاته ومفاعله، مع ما يعنيه هذا الاستسلام من تأخرات وانهيارات واحتمالات العنف والتجزئة…أو التواطؤ الواعي بين الفاعلين الرئيسيين في العملية السياسية على تنشيط التحول التاريخي وتسريعه، بما يحقق الديمقراطية. ويقوم هذا التواطؤ كشكل من أشكال التدخل في التاريخ ومساوقته، ومن شأنه تعزيز الوحدة الوطنية، وحفظ النمو الاقتصادي والتنموي الضروريين. إن الأطروحة التي ندفع بها في ضوء هذا الفهم قائمة على فرضية التواطؤ المحتمل بين الفاعلين السياسيين من أجل الديمقراطية، وتستحضر الأخطار الجسيمة التي تتهدد الوطن مع الخيار الأول. وإذا كان هذا التواطؤ في جوهره يعني التعاضد السياسي من أجل توفير شروط الديمقراطية التاريخية، فإنه من حيث العمل لا يتخذ شكل رومانسية سياسية، ولا يمكن أن يكون كذلك، بل هو الآخر محفوف بمجموعة من الصراعات البينية والتناقضات المصلحية بين أطراف الصف الديمقراطي، وهو ما يقتضي نوعا من التحكيم والتحكم والرعاية. وإذا حاولنا أن ننزل هذه الرؤية النظرية – التاريخية على الحالة المغربية، يمكن القول: إن تواطؤ الفاعلين السياسيين المغاربة من أجل الديمقراطية، والذي قد يأخذ صورة انتقال ديمقراطي، ويتوخى توفير البنية التحتية للدمقرطة، يقتضي من بين ما يقتضيه التدخل في العمليات الانتخابية وإدارتها، بما يخرج المغاربة من ثقافة الرعايا والريع إلى ثقافة المواطنة، ويؤسس لتعددية حقيقية، ويقوي الحزبية المغربية.. فالعمليات الانتخابية في بيئات طائفية أو إثنية أو عشائرية أو ريعية.. مهما بلغت درجة نزاهتها، ومصداقيتها، ليست دليلا على ديمقراطية هذه البيئات، بل على العكس من ذلك هي مناسبات لمقاومة الاشتراطات التاريخية للدمقرطة. فالتدخل في العملية الانتخابية الذي يمنع استعمال الدين أو العرق أو الريع من جهة، ويحد أيضا من تأثيرات هذه العوامل في المشهد السياسي، له كامل الشرعية الديمقراطية. فلا يكفي للحد من تأثير العوامل غير الديمقراطية في الانتخابات أن تَسْلم مرجعيات وبرامج وتصريحات الأحزاب من استعمالها، بل في كثير من الحالات تجد هذه العوامل حاضرة ومؤثرة في السلوك الانتخابي للناخب لتجذرها الثقافي، وهو ما يحيل على الزمان والتثقيف السياسي للتغلب عليها. وفي انتظار هذا التحول في الموقف الثقافي لا يملك الديمقراطيون غير القبول بقدر من التدخل. غير أن الجهة التي تقترحها هذه الأطروحة لرعاية الانتقال نحو الديمقراطية، والتي توكل لها مهمات التحكيم والتحكم والرعاية.. وهي المؤسسة الملكية، يفترض فيها قدر من الحياد تجاه الفاعلين، والانحياز للديمقراطية كإستراتيجية، وأيضا تمكين الأحزاب من قدر معتبر من السلطة التي تسمح للمواطن بمحاسبتها، وامتحان برامجها، وتأهيل الحقل الحزبي، وهو ما نملك عليه أكثر من دليل وشاهد. ورغم ذلك فتحقق هذا الدور على الأرض قد يطرح بعض المشاكل ويثير الشكوك، وهو ما يمكن التغلب عليه أو التقليل منه من خلال يقظة الصف الديمقراطي وكافة المتواطئين. إن مشكلة هذا التصور للانتقال الديمقراطي أو عملية التحول التاريخي نحو الديمقراطية هو أن الطرف الذي تعطيه – عادة – العملية الانتخابية الفوز في الظرف الانتقالي، وخاصة إذا كان فوزا مخلّا، سيكون منزعجا من أشكال التدخل، وسيجعل من هذه العملية عملية صورية لا مصداقية لها. ومن جهة أخرى إن المؤسسة الملكية التي تضطلع بدور الرعاية في ضوء هذا التصور هي – أيضا – طرف فاعل في العملية الديمقراطية وليست طرفا محايدا، ومن ثم من ضمانات حياد ونزاهة دور هذه المؤسسة في تأطير ورعاية الانتقال إخراجها من دائرة الصراع حول السلطة من خلال التسليم لها ببعض اختصاصاتها التنفيذية: الدينية والأمنية والعسكرية. وإجمالا؛ إن الإصلاح في ظل الاستقرار لا يتحقق بدون ديمقراطية انتقالية، أي منقوصة، ونقصها لا يتجلى في الاختصاصات السياسية الموكولة للمنتخب كما يذهب إلى ذلك الكثيرون، بل يتجلى أساسا في تأثير العوامل الثقافية والسوسيولوجية والسياسية غير الديمقراطية في العملية الانتخابية، ويتجلى أيضا في التأثيرات الإقليمية والدولية الحذرة من الديمقراطية في بلدان الجنوب، وهو ما يستدعي تحكيما وتحكما من طرف الجهة الراعية لعملية الانتقال يجنب البلد الهزات العنيفة. ولا يمكن بحال من الأحوال تجاوز هذا النقص في «التحت» و«القاع» بدون صراع وعنف أو تواطؤ واع. ونعتقد أن التواطؤ الجماعي خيار عقلاني قليل الكلفة للعبور التاريخي والسريع نحو حياة ديمقراطية سليمة وكاملة.