شكلت انتخابات السابع من أكتوبر (2016) محطة انتخابية غير عادية في تاريخ الانتخابات بالمغرب، بالنظر إلى سياقها المحلي والدولي، وبالنظر إلى الرهانات السياسية الكبرى التي أطرتها؛ فهي أول انتخابات تشريعية تشهدها المملكة بعد خروجها من فصل الربيع العربي (2011)، وبعد الانتكاسة الكبيرة التي أصابت معظم بلدان الحراك الثوري بالعالم العربي، وبعد حوالي خمس سنوات من "حكم الإسلاميين"..، كما أنها تزامنت مع تزايد المخاوف من عودة "السلطوية" إلى المملكة، وإغلاق القوس الديمقراطي الذي فتحته حركة 20 فبراير وصدق عليه ودعمه دستور 2011. لقد اتجهت أنظار المحللين والمراقبين في الداخل والخارج إلى محطة جُمعة السابع من أكتوبر علَّهم يظفرون بأجوبة شافية عن أسئلتهم، وتوقعاتهم، ونظرياتهم...؛ وذلك لما لهذه المحطة من دلالة في سياق بناء الديمقراطية المغربية، وهو ما عكسته ثورة الرأي والتحليل والتعليق التي صاحبت وأعقبت إعلان نتائج هذه الانتخابات. الآن، وبعد أن انتهت هذه الانتخابات وأمست بحكم الزمن وراءنا، نحن إزاء مجموعة من الحقائق الواقعية التي أفرزتها، ممثلة في النتائج، في سلوك الناخبين، في البنية الحزبية، في التحالفات...، تقتضي من الباحثين التحليل والدراسة؛ فمستقبل الديمقراطية وترسيخ الأمن والاستقرار بالمملكة يتوقف على مقدار التعقل الذي ستتلقى به نخبة الرأي والتحليل والقرار "ملف السابع من أكتوبر". إن نتائج التشريعيات الأخيرة، وبعيدا عن مشاعر النصر والهزيمة، مفتوحة على عدة مقاربات ومنظورات في التحليل، من أولاها وأجداها نفعا في سياقنا المغربي المقاربة الديمقراطية، التي تقيس ما جرى يوم السابع من أكتوبر وما أسفر عنه من نتائج وحقائق بحجم التقدم الذي حققه المغرب في سلم الديمقراطية، بمعنى آخر وفي صيغة استفهام: ما هي عورات الانتقال الديمقراطي التي كشفت عنها انتخابات السابع من أكتوبر؟ إن الديمقراطية التي يناضل الديمقراطيون من أجل تحقق النظام السياسي المغربي منها باعتبارها أفضل السبل لضمان الاستقرار وتحقيق التنمية تتوقف من الناحية المعيارية على تحقق النظام من مجموعة من الشروط من قبيل: وحدة المشروع المجتمعي (مشترك سياسي/ثقافي)، وتعددية سياسية حقيقية، ومواطن مسؤول سياسيا، ودستور ديمقراطي، ومؤسسات ديمقراطية (البرلمان والمجالس المنتخبة...)، وهي شروط تحتاج إلى انتقالات معقدة ممتدة في الزمن، يتداخل فيها السياسي بالسوسيولوجي بالثقافي، لا يمكن بحال من الأحوال أن تختزل في استحقاق انتخابي مهما كان حجم الرهانات المعلقة عليه. ومن ثم، فالبلدان السائرة في طريق الانتقال الديمقراطي حقيقةً تدرك تمام الإدراك كثرة العقبات والانحدارات التي توجد على طريق الديمقراطية، وتدرك أيضا حجم الكُلْفات السياسية والثقافية التي تتطلبها، وقد وصلت النماذج الديمقراطية الناجحة في عالم اليوم الارتقاء في سلم الديمقراطية بعد سلسلة من الثورات الثقافية والاجتماعية والسياسية استغرقت في بعضها قرونا، ولم تكن دائما مدنية وسلمية، بل كانت في كثير من اللحظات والأمثلة دموية وعنيفة، كما هو الحال في المثالين الفرنسي والسوفياتي. إن إنجاح التحول السلمي نحو الديمقراطية بالمملكة المغربية، وفي ضوء الحقائق التاريخية والتجارب الدولية، يشترط من ناحية وعي الفاعلين السياسيين بالطبيعة المعقدة للديمقراطية وعسر الانتقال التاريخي نحوها، ومن ناحية ثانية وجود راع نزيه يرعى نمو مقومات الدمقرطة. وإذا كانت ممارسات كثير من الفاعلين السياسيين بالمغرب تدل على تخلف الوعي بمتطلبات الديمقراطية واختلاف منسوبه، فإن ملكية محمد السادس واعية تمام الوعي بمسؤولياتها الديمقراطية ومقتضيات مهام الرعاية، وهو ما تؤكده التقارير والخطب الملكية في كل المناسبات. ففي ضوء هذا الفهم، نتساءل مع الجميع: ما مدى مساهمة انتخابات السابع من أكتوبر في تقدم الانتقال الديمقراطي بالمملكة المغربية؟ لقد أظهرت التشريعيات السابقة عن مستوى معين من الديمقراطية بالمملكة المغربية؛ حيث تم إجراء الانتخابات في موعدها، وتم احترام مدونة الانتخابات إلى حد ما، وإعلان النتائج الحقيقية التي تمخضت عن صناديق الاقتراع، واحترام الدستور وتعيين رئيس الحكومة من الحزب الفائز... إلخ، وهو ما جعل جميع الأحزاب المشاركة في هذه الانتخابات تقريبا تقبل بنتائجها وتقر بنزاهتها بالرغم من النواقص التي شابتها. إن هذه الإيجابيات التي كشفت عنها استحقاقات السابع من أكتوبر، والتي جعلت منها خطوة في الاتجاه الصحيح، أبانت–بالمقابل-عن ثغرات استراتيجية في البناء الديمقراطي، تجعل منه في حال استمرارها مشروعا بدون أفق، لا يبرح مكانه، أو بعبارة أدق تجعل المغاربة أمام ديمقراطية وهمية، وأهم هذه الثغرات: النزاع في الأسس ووهم المشروع المجتمعي، تعددية شكلية وأزمة المعارضة، ضعف المواطنة السياسية. 1-النزاع في الأسس ووهم المشروع المجتمعي: إن المتتبع لخطاب عدد من الأحزاب خلال الحملة الانتخابية، وخاصة خطاب المعارضة، يبدو له جليا الحضور القوي لمفردة المشروع المجتمعي. فقد خاض على سبيل المثال حزب الأصالة والمعاصرة الانتخابات الأخيرة تحت عنوان عريض هو الدفاع عن قيم الحداثة والتقدم ضدا على قيم الرجعية و"الظلامية"، وهو عنوان يحيل إلى شروط ما قبل ديمقراطية، ويعيد طرح أسئلة الأسس والمرجعية. إن استعمال شعارات محاربة الإسلاموية، والدفاع عن المشروع الحداثي... في الانتخابات الأخيرة يكشف بالملموس أننا إزاء حالة غير ديمقراطية. فمثل هذه الصراعات التي تتعلق بالأسس المرجعية للدولة مبدأ وغاية هي صراعات أولية حول النظام السياسي وفيه، هي صراعات تؤسس للإقصاء والإلغاء، ولا تؤسس للعيش المشترك والوحدة في إطار التنوع، صراعات تؤسس لمفهوم المواطنة الصحيحة... للأسف، إن الكثير من الفاعلين السياسيين بالمغرب يستندون إلى مفاهيم إقصائية في الممارسة السياسية، وعلى رأس هذه المفاهيم مفهوم "المشروع المجتمعي"، متجاهلين في هذا السياق الثوابت الدستورية التي تشكل أسمى تعبير عن إرادة الأمة المغربية، والتي تحسم الجدل حول مغرب الغد، إلا إذا كان لبعض هؤلاء نوايا انقلابية. فضوابط المشروع المجتمعي للمملكة المغربية يعرّفها الفصل الأول من الدستور على النحو التالي: "تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي". وبناء على هذا التعريف، فإن كل حزب يسعى إلى غير هذا هو حزب غير شرعي دستوريا وديمقراطيا، ويسعى إلى الانقلاب على ما أجمع عليه المغاربة. 2-تعددية سياسية شكلية والحاجة إلى المعارضة: كشفت الانتخابات الأخيرة هشاشة الحياة الحزبية المغربية، وشكلية التعدد الحزبي الذي تفخر به. فباستثناء حزب العدالة والتنمية، لا تكاد تجد حزبا وطنيا في امتداده التنظيمي؛ فالكل أمسى تقريبا عبارة عن هياكل شكلية مركزية تجتمع في مناسبات قليلة، وتفتقد للكوادر والمناضلين أصحاب العقيدة، كما أن أغلبها أحزاب ميتة لا نشاط لها، فقد يمر الحول والحولان في مدينة كبرى ولا تسمع أثرا أو موقفا لها، فلا قربى تجمعها بالمواطن ومعاناته اليومية في الإدارة والمعيش اليومي والنقل والسكن والصحة والتعليم... إننا– ونحن نسطر هذا الكلام–لا نستنتج أو نُنظّر، وإنما نصف حقيقة يتساوى في إدراكها الخواص والعوام؛ فمعظم المغاربة يتعرفون على أحزابهم فقط في الانتخابات، وكان لتسييس طبقة الأعيان والاستعانة بهم في الصراع السياسي في عهد الراحل الحسن الثاني رحمه الله دور سلبي في هذا السياق؛ حيث كان للجوء عدد من الأحزاب الوطنية إلى الأعيان أثر سلبي على المناضل، الذي هجر تدريجيا الأحزاب، وهو ما هيأ كل الظروف لنفوذ حزب العدالة والتنمية الذي لا زال محافظا على مبدأ المناضل في الحزب، ومعتبرا إياه مالك الشرعية. ومن ناحية أخرى، وبالرغم من اختلاف عناوين وأنساب الأحزاب المغربية، فإنها من الناحية البرنامجية شيء واحد؛ فالفروقات بينها ضعيفة، ولا تكاد تجد اختلافات نوعية بين أطروحاتها. إزاء هذه الحقيقة المرَّة، نتساءل مع الجميع: ما مصير الديمقراطية في بلد يخلو من تعددية حقيقية؟ هل يمكننا إزاء هذا الوضع وتحت ضغطه أن نؤسس لنظام الحزب الوحيد من خلال صناديق الاقتراع؟ إن أولى الأولويات اليوم، ومن أجل مغرب ديمقراطي وتعددي، هي الدفع باتجاه تعددية حقيقية في الواقع، ولعل المدخل الرئيس لذلك بناء معارضة قوية ومسؤولة، تنسخ تجربة معارضة السنوات الخمس الماضية، معارضة حزبية مهيكلة، تعيد الاعتبار للمناضل والسياسي النبيل، معارضة قائمة على الابتكار والإبداع، بعيدا على المزايدة والشعبوية، والدعاية الرخيصة، والكذب، والفضائحية، معارضة تضع مصلحة الوطن أولا وأخيرا. لقد أثبتت نتائج انتخابات السابع من أكتوبر أن المغاربة أذكى بكثير من بعض سياسييهم. ومن ثم، إن أهم عامل من عوامل نجاح حكومة الأستاذ عبد الإله بنكيران، في ولايته الثانية، هو وجود معارضة قوية ذات مصداقية. فالمعارضة في الديمقراطيات الناجحة هي شكل من أشكال ممارسة السلطة والحكم، ولهذا كلما وجدت معارضة حقيقية ومسؤولة إلا وكان الأداء الحكومي جيدا ومنتجا، وهو ما يتطلع إليه المغاربة وبحماس. وهكذا، فإن بناء التحالف الحكومي على القربى البرنامجية من شأنه أن يسهل عملية بروز معارضة ناضجة ومسؤولة من جهة، ويسهم أيضا في بروز بدائل وحلول أخرى للمشاكل التي يعاني منها المغرب من جهة ثانية. 3- ضعف المواطنة السياسية: لقد شارك ملايين المواطنين في انتخابات السابع من أكتوبر واختاروا بين الأحزاب المشاركة، وجاءت النتائج على النحو الذي عرفناه جميعا، لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق، وفي كل مرة دون أن نحصل على إجابات علمية رصينة: ما هي محددات الموقف الانتخابي للمواطن المغربي؟ كيف يختار هذا المواطن بين المرشحين؟ وللجواب على هذا التساؤل بعلمية ودقة نحتاج بالأساس إلى دراسات السوسيولوجيا السياسية، وهو ما لا نتوفر عليه، غير أننا نسمح لأنفسنا، وبناء على احتكاكنا بالواقع واستنادا إلى الأمثلة التي بين أيدينا، أن نحدد بعض الأسباب والمؤثرات التي تحكم الاختيارات الانتخابية للمواطن المغربي. فمن أهم محددات الاختيار الانتخابي للمغاربة في الاستحقاق الأخير التي كان لها تأثير قوي على النتائج، وقد تناولت بعضها وسائل الإعلام المختلفة، محددات: الدين، والاستقامة، والنزاهة، ونظافة اليد، والقرب، وغياب البديل أو ضعفه، والخوف من عودة السلطوية، والامتثال لرغبة الإدارة (القرى)... إلخ، وقليل هم المواطنون الذين صوتوا لدواعي برنامجية؛ أي إنهم قارنوا بين برامج الأحزاب وصوتوا بحسب حاجاتهم على برنامج هذا الحزب أو ذاك. إن الديمقراطية تفترض نوعا من المواطنة السياسية التي تؤسس اختياراتها الانتخابية على الحاجات السياسية الملموسة في التعليم والشغل والصحة والخدمات... من جهة، وعلى العروض السياسية التي تقترحها الأحزاب المتنافسة من جهة ثانية، الشيء الذي ما زالت الحياة السياسية المغربية بعيدة عنه لأسباب عديدة. وإزاء هذا النقص، من السهل جدا أن ينزلق التنافس الانتخابي إلى نوع من الطائفية أو القبلية أو العشائرية...، وهو ما لاحظناه في الكثير من الدوائر الانتخابية، وهي منافسات غير مشروعة من منظور الديمقراطية. إن ظهور هذا النوع من المواطنة مرتبط بنجاح انتقالات نوعية أخرى في مجالات الثقافة والمجتمع والسياسة، فلا أمل في ظهور مواطنة سياسية حقة إذا لم ينجح المغرب في تعميم التعليم والقضاء على الأمية، واتساع الروابط المدينية على حساب القبلية، وتحقق حد أدنى من العقلنة في المشهد السياسي، وتجدد الكيانات الحزبية وامتدادها الاجتماعي، والخروج من الخطابات "الشمولية" (الأيديولوجية والمشروع المجتمعي...) إلى البرنامجية. خلاصة واستنتاج: إن هذه المعوقات البنيوية للديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وبشكل خاص في المغرب، تجعل من مهمة إنجاح الانتقال الديمقراطي مهمة عسيرة ومحفوفة بالمخاطر، وتضع على كاهل النخب والمؤسسات الراعية لها مسؤوليات تاريخية جسيمة. فالمسألة الديمقراطية في الجوهر ليست مسألة تقنية أو أداتية مختزلة في "لعبة" الصناديق كما يتصور الكثيرون، بل قد يكون هذا الجانب سببا في تأخيرها والقضاء على أمل ظهورها، ولدينا في تجارب مصر واليمن وسوريا والعراق... أمثلة شافية، وهو ما يقتضي فهما عميقا لِكُنه وطبيعة دور رعاية البناء الديمقراطي. إن المؤسسة الملكية في عهد جلالة الملك محمد السادس دستوريا وتاريخيا وسياسيا هي الجهة الوحيدة المخولة بالتدخل في الخيار الديمقراطي من أجل صونه وتأمينه في أبعاده الراهنة والاستراتيجية، ولا يقتصر هذا الأمر على تنفيذ أجندته التقنية من قبيل تنظيم الانتخابات والحرص على نزاهتها، واحترام الدستور... إلخ، بل الأهم من ذلك العمل من أجل توفير المقتضيات الاستراتيجية للديمقراطية من قبيل وحدة المشروع المجتمعي، وحفظ التعددية، وعقلنة المشهد السياسي، والتربية على المواطنة السياسية، ولعل ما يصطلح عليه مغربيا بالتحكم والتحكيم في أبعاده المختلفة هو أحد مقتضيات هذه الرعاية. بناء على كل ما سبق، يمكن القول إن الوجهة السياسية الصحيحة لتمكين المغرب من حياة ديمقراطية سليمة وفعالة تنمويا ونهضويا هي الوجهة التي تقصد استنبات المقومات الاستراتيجية للدمقرطة، وعلى رأسها: التخلي عن وهم المشروع المجتمعي، والسعي إلى امتلاك جواب برنامجي واقعي ومبتكر عن مشاكل المغاربة، وامتلاك خطاب برنامجي، والإسهام البيداغوجي في التربية على المواطنة السياسية، واحترام المعارضة والإفادة منها من أجل النجاعة... إلخ. وأي هروب من هذه الاستحقاقات هو في الجوهر هروب من الديمقراطية وتعطيل إرادي لأسبابها، وهو ما يؤدي إليه بالضرورة حديث البعض عن الأوهام الأيديولوجية من قبيل الأسلمة والأخونة...، وحديث البعض الآخر عن التحكم الذي يتجه رأسا إلى المقوم التقني في الديمقراطية ولا يكترث بباقي المقومات. *أستاذ باحث