هل ينجح الدكتور سعد الدين في كتابة تاريخ آخر للعدالة والتنمية؟ (في المأزق ولأجل الخروج منه) إن تاريخ 15 مارس من سنة 2017م سيظل استثنائيا في مسار الإسلاميين المغاربة، وبالتحديد في تجربة حزب العدالة والتنمية، تاريخٌ يدشن في جميع الأحوال انطلاقة جديدة باتجاه الوراء أو الأمام. فالحقائق والظروف التي أحدثها سحب التكليف الملكي من الأستاذ عبد الإله بنكيران، ليلة الأربعاء 15 مارس، تؤسس لمرحلة جديدة في علاقة إسلاميي العدالة والتنمية بمؤسسة القصر، ومكونات المشهد السياسي، والنخب. وقبل الخوض في التاريخ الممكن لحزب العدالة والتنمية بعد واقعة 15 مارس، لا بد من التنويه إلى أن الكثير مما حذرنا منه حزب العدالة والتنمية، ومنذ سنتين تقريبا؛ أي قبل الانتخابات الجماعية لسنة 2015م، تحقق، وبشكل يكاد يكون حرفيا. وتقوم توقعاتنا في هذا الجانب على فرضية رئيسة وهي: إن التقدم الانتخابي، الحرّ، والصراعي، مزعج، ومخيف، وغير متحمل في سياق التحول الديمقراطي بالمغرب، وهو ما يجلب لحزب العدالة الكثير من المتاعب والضغوط والأعداء. وإزاء هذه الحالة لا بد أن يبادر هذا الحزب إلى التحكم في ميله نحو السلطة، ومقاومة جاذبية المواقع، وب"التفاوض" مع الدولة، وإلا سيجد نفسه – دائما – أمام الأصعب من الخيارات، وستتضرر مساهمته في الإصلاح. 1- في المأزق: إن المأزق الذي وجد نفسه فيه حزب العدالة والتنمية بعد انتخابات السابع من أكتوبر 2016م التي أعطته المرتبة الأولى، يمكن وصفه باختصار على النحو التالي: - إن التحول الديمقراطي بالمملكة المغربية هو ممارسة "بيداغوجية" أكثر منه ممارسة حقيقية، باعتبار عدد من النواقص التي تعتريه سياسيا وثقافيا وسوسيولوجيا، ومن ثم فهو مجموعة من الشكليات والممارسات بالرغم من إيجابياتها، فإنها لا تعكس حالة ديمقراطية صلبة وسليمة، كما أنها – مستقبلا – يمكن أن تفضي إلى نظام ديمقراطي متزن ومتوازن. وتقوم على هذا التحول وترعاه سياسيا ودستوريا المؤسسة الملكية بالنظر إلى مكانتها التاريخية والسياسية. كما أن هذا التحول من ناحية أخرى هو تاريخي، بمعنى لا تجري أطواره في ساحة مجردة وغير متأثرة بالواقع؛ أي إنه متأثر بطبيعة القوى التي تشكل عناصره الرئيسة، هل هي قوى ديمقراطية في جوهرها أم ليست كذلك، ومتأثر – أيضا – بالمحيط الإقليمي والاشتراطات الدولية...؛ متأثر بالاستحقاقات الوطنية الداخلية التنموية والأمنية والاستراتيجية... إلخ، ومن ثم، فالكثير من انعطافات هذا البناء والتحول الديمقراطي قد تتعثر أو تتأخر أو تتوقف بحسب هذه المؤثرات وقوتها، وبالعكس قد تتيسر أو تتسرع. فحزب العدالة والتنمية كفاعل من بين مجموعة من الفواعل في عملية التحول هاته، فَقَد أو أساء التواصل مع الجهة الراعية للديمقراطية (الملكية) في السنتين الأخيرتين، وتجلى هذا الأمر في تصريح أمينه العام بالرغبة في تواصل الملك معه ومع غيره من الأمناء مباشرة ودون وسائط، وظهر – أيضا – في تحليل المحيط الملكي بمفهوم القوة الثالثة الذي يعتبر من كلاسيكيات الخطاب السياسي المغربي زمن الصراع... إلخ. إن هذا التطور في علاقة "البيجيدي" بالدولة وتراجع مستوى التواصل بين الطرفين جعل هذا الحزب يتجه تدريجيا إلى التصرف بطريقة "مخلّة" بمقتضيات البناء السليم والهادئ للديمقراطية، تصرفا أوحى للجهة الراعية والخصوم بنية هذا الحزب في إملاء تصوره للبناء الديمقراطي على الجميع، وفرض الأمر الواقع، ومن ثم فالكثير من القضايا والإشكالات التي كانت تسوى عبر حوارات مباشرة وصريحة بين الطرفين أمست في ضوء هذا التطور تسوى بتصرفات ووسائل أقل ما يقال عنها إنها "خشنة" وغير "حوارية". وقد تمثلت هذه التصرفات "المخلّة" من جهة العدالة والتنمية في مجموعة من المواقف، والتصريحات، والتحركات، التي دلّت جميعها على حرص هذا الحزب القوي على ربح رهان انتخابات السابع من أكتوبر الماضي (2016)، واستمرار الأستاذ عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة لولاية ثانية. قد يكون هذا السعي مشروعا، بل ومطلوبا في بيئة ديمقراطية سليمة، لكن مشكلة حزب العدالة والتنمية من هذه الناحية هي ظهوره أو إظهاره بمظهر المقاوم لمقتضيات البناء الديمقراطي المتدرج كما هي أطروحة النظام، مقاومةً تجعله وجها لوجه مع راعي البناء الديمقراطي وهو الملك ومؤسسات القصر، وفي سياق هذا التطور اخترع الحزب مقولة التحكم للدفاع عن نفسه. ولعل من المقتضيات الأساسية لهذا البناء المتدرج من منظور الدولة: الحيلولة دون فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات السابع من أكتوبر فوزا كاسحا أو الحصول على رتبة ثانية، الضغط باتجاه تراجع أمينه العام نسبيا أو تغييره لأسباب كثيرة، تنبيه الحزب إلى ضرورة مراجعة خطابه والخروج من ثنائية الإصلاح/ الفساد، وأخيرا السعي إلى ترسيخ المراجعات الإسلامية المتعلقة بمدنية الدولة والخروج كلّية من منطق الحاكمية... إلخ. وقد عشنا خلال السنة الماضية الكثير من الوقائع والتصرفات الدالة على هذه الخلفية لدى الدولة. إن هذا المأزق الذي وجد حزب العدالة والتنمية نفسه فيه منذ سنتين تقريبا يتأسس على حقيقة أساسية وهي عدم شرعية تدخل ما يسميه هو ب "التحكم" في العملية السياسية، وعدم الاعتراف له بأية وجاهة، معولا لأجل إلحاق الهزيمة به على الإرادة الشعبية وصندوق الاقتراع، وهو ما جعل الكثير من الفرقاء والنخب ورجال الدولة ينظرون إليه بارتياب شديد، ويرون فيه تهديدا للديمقراطية ونزعة انقلابية. ومن ثم، فعجز الأستاذ عبد الإله بنكيران عن إخراج حكومته بالرغم من توفره على إمكانات انتخابية مهمة تخول له ذلك راجع بالدرجة الأولى إلى توتر العلاقة بين حزب العدالة والتنمية، في شخص أمينه العام، ومؤسسة الرعاية (الملكية)، وحتى في حالة ما إذا كان قد نجح في تشكيل الحكومة، فكل الظروف من حوله كانت تدل على أنه لن يحكم حقيقة... السؤال الذي يطرح نفسه بعد رحيل الأستاذ عبد بنكيران عن رئاسة الحكومة ببلاغ الديوان الملكي: هل بإمكان حزب العدالة والتنمية بقيادة الدكتور سعد الدين العثماني الخروج من المأزق والنجاح في تشكيل الحكومة، وتأمين مساهمة الحزب في الإصلاح؟ هل سيستطيع استعادة أجواء الثقة بينه وبين صناع القرار الاستراتيجي بالبلد؟ 2- باب الخروج: إن الخروج من هذا المأزق ممكن، ويتوقف على مجموعة من الشروط وهي: - استعادة التواصل الذي فُقد مع الدولة ومؤسسة الرعاية (الملكية)، فقد تضررت العلاقة بين الطرفين كثيرا خلال السنتين الأخيرتين، وتراجع منسوب الثقة بينهما، التي قضى حزب العدالة والتنمية - وهو إسلامي المرجع - في طلبها سنوات وعقود. والجدير بالذكر، في هذا السياق، أن الأمر لا يتعلق ب "عقيدة" الملكية كما يتصور البعض، بل يتعلق أساسا بالنظام والتسليم بوظائفه المرحلية وعدم المنازعة فيها. - ممارسة قدر من النقد الذاتي للتجربة السابقة وتقييمها. وفي هذا السياق، وجب على قيادة حزب العدالة والتنمية أن تدرك جيدا وبمسؤولية عالية أن المشكلة في الجوهر لا تتعلق بشخص الأستاذ بنكيران ولو أنه ساهم بلسانه في الكثير من المشاكل، ولا تتعلق – أيضا –باشتراطات الفرقاء، بل ترجع في المقام الأول إلى "عصيان" حزب العدالة والتنمية وخروجه من نفوذ التحكم (سلطة الرعاية). ومن ثم، فتغيير قيادات الحزب والتنازل للاشتراطات مع الحفاظ على سيادة هذه المقولة (مواجهة التحكم) سيؤدي إلى النتائج نفسها، إن عاجلا أو آجلا. - التحلي بالشجاعة والمسؤولية والقوة لإعادة الأمور إلى نصابها والعودة بالحزب إلى المربع الأول، في احترام تام لتقاليد العلاقة بين المؤسسات الحزبية والملكية، وحتى تتهيأ الظروف لمساهمة الحزب في البناء الوطني... وهي أولوية تفرض نفسها على الدكتور سعد الدين، وهي بالتأكيد مهمة ليست سهلة، ومحفوفة بالكثير من المخاطر، لكنها ممكنة إذا اجتمعت الإرادات وصلحت النيات. ومما يساعد عليها تحكيم العقل والخروج من آثار الضغط العاطفي والنفسي الذي يعاني منه الحزب حاليا بسبب الوقع الشديد لخروج الأستاذ بنكيران من رئاسة الحكومة، ومن صميم هذه العقلانية عدم اعتبار الرجوع إلى المقدمات المنهجية التي تأسس عليها مشروع العدالة والتنمية -القائمة على التواصل مع الدولة والنزول عند مقتضيات البناء الديمقراطي –هزيمةً، بل انتصارا للحزب والوطن. وفي هذا السياق، وجب على الجميع، في الدولة وخارجها، مساعدة حزب العدالة والتنمية على النجاح في هذا التحول؛ فالمغرب لا يتحمل انهيارا حزبيا آخر على شاكلة انهيار الحركة الاتحادية، المغرب بحاجة إلى أحزاب وطنية قوية ومسؤولة، ومستقبل الديمقراطية هو بالأساس مستقبل هذه الأحزاب. ومن ثم، فعلى الجميع التسامي، والتحلي بروح المسؤولية في تطبيع الوضع السياسي لحزب العدالة والتنمية والمحافظة عليه موحدا وقويا. - الخروج من الخطاب السياسي القائم على ثنائية إصلاح/ فساد، وخاصة في علاقة الحزب مع معارضيه ومخالفيه؛ فقد تضررت العلاقات العامة للعدالة والتنمية كثيرا من هذه الثنائية، وألحق الضرر – أيضا -بخطوات الديمقراطية المغربية الهشة. فالأحزاب الوطنية والفاعلون في القرار السياسي مباشرة أو من وراء ستار هم في عمومهم إصلاحيون بفهمهم وزعمهم، ويجب الاعتراف لهم بالشرعية الإصلاحية. - الإقرار بكون الكثير من أعطاب الديمقراطية ونواقص العدالة والكرامة... التي تعاني منها بلادنا سيخلصنا منها النجاح الاقتصادي وكسب رهان اللحاق بالدول الصاعدة. فالتحول السوسيولوجي والثقافي الضروري للديمقراطية من جهة، واستقلالية القرار السياسي المحلي عن التدخلات الإقليمية والدولية من جهة ثانية، راجع بقدر كبير إلى التحقق من أسباب القوة وفي صلبها النجاح الاقتصادي. وحزب العدالة والتنمية – اليوم – بتشديده على مطلب الديمقراطية في ظرف يقتضي الخروج عن طريقها أحيانا فيه تأثير على حركة النمو. فالمغرب يعيش منذ بداية عهد جلالة الملك محمد السادس على إيقاع تنموي غير عادٍ تجلى أساسا في المشاريع الكبرى، والمخططات التنموية المختلفة كالمغرب الأخضر، والأزرق...، والانفتاح على إفريقيا، ومشروع إقلاع في مجال الصناعة... كل هذه المشاريع تحتاج إلى انخراط كلّي وجماعي، سواء من موقع الحكم أو المعارضة، لإنجاحها. فالمعركة الاستراتيجية الأساسية التي يخوضها المغرب، والتي يجب أن ينخرط فيها الجميع، ليست معركة الديمقراطية وإن كانت هذه من مستلزماتها، بل هي معركة القوة. لدى المغرب فرصة ذهبية تاريخية لتحقيق ما لم يتحقق في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، واللحاق بركب الدول المتقدمة. وبالرغم من الجهود المبذولة لكسب هذه الفرصة، فإن الإرادة السياسية لدى الفرقاء والمناخ الثقافي العام يحدان من التفاؤل. ويمكن لحزب العدالة والتنمية، في هذا السياق، أن يساهم بقوة في حشد الدعم وتحقيق الزخم اللازم لهذه المعركة. وأخيرا، إن البلاغ الصادر عن الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية إثر سحب التكليف من الأستاذ عبد الإله بنكيران يوم 16 مارس لا يؤشر على تغير في الموقف بشكل عام، ولا ينظر إلى ما وراء الأكمة، وقد يكون هذا الأمر مفهوما وطبيعيا بالنظر إلى حجم الضغط النفسي والعاطفي الذي يقع تحته الحزب وأعضاؤه. غير أن تكليف الدكتور سعد الدين العثماني قد يكون مفتاح التغيير في حزب العدالة والتنمية، الذي – بالتأكيد – سيستغرق هذه السنة وإلى انعقاد المؤتمر. وفي سياق الخروج من هذا المأزق، لا يعني تشكيل الحكومة الكثير، فقد يكون في هذه المرحلة إخراج الأستاذ عبد الإله من الحلبة كافيا بالنسبة للجهة التي عملت على إخراجه، وبالتالي تتشكل الحكومة برئيس جديد، لكن المساهمة الإصلاحية لحزب العدالة والتنمية ستظل دائما بين قوسين ما لم يرمم علاقته مع الدولة والجهة الراعية للديمقراطية ببلدنا. ومما لفت انتباهنا في صياغة بلاغ الأمانة العامة هو لهجته الحادة والقوية، وهو أمر مفهوم في اللحظة، لكن وجب التنبيه بهذا الصدد إلى أن الأخطاء الكبيرة تبدأ صغيرة؛ فالوضع الذي تعيشه كثير من بلدان الجوار الإقليمي وبلدان الربيع العربي كان بسبب أخطاء اعتبرت في حينها صغيرة. وختاما إن إقصاء الأستاذ بنكيران من رئاسة الحكومة لم يكن بسبب الاشتراطات، ولم يكن بسبب شخص بنكيران ولكن كان بسبب سلسلة من الأخطاء ارتكبت منذ حوالي سنتين وتحت عيون الأمانة العامة، وأدت إلى تخريب قنوات التواصل بين الحزب والدولة، ولا يمكن بحال من الأحوال كتابة تاريخ آخر للحزب إلا بترميم هذه القنوات وإعادة الحياة للعلاقات التواصلية بين الطرفين.