أثارت مقالة نشرها المفكر المغربي، عضو حركة التوحيد والإصلاح، أحمد جبرون، في غشت الفائت على موقع "اليوم 24" الكثير من الجدل بخصوص دعوته حزب العدالة والتنمية إلى التخلي عن محاربة "التحكم". في هذا الحوار، يرى جبرون أن ما يحصل للبيجيدي في مرحلة ما بعد 7 أكتوبر ليس سوى نتيجة لما كان يحذره من الوقوع فيه. عرّفت التحكم في مقالة سابقة بأنه تدخل قوى مضادة للديمقراطية في الحياة السياسية بأساليب مختلفة بهدف إنتاج سلطة منافقة تعيد إنتاج شرعية الاستبداد وتحديثها من خلال ديمقراطية الواجهة.. هل يصلح هذا التعريف لتوصيف ما يحدث الآن في عملية التفاوض التي يقودها حزب العدالة والتنمية لتشكيل حكومة جديدة؟ سيكون جوابي هنا طويلا نسبيا، فأرجو أن تصبر علي. إن ما يصطلح عليه اليوم بالتحكم لفظا وممارسة هو أمر تقليدي في القاموس السياسي المغربي، فقد سبق للمرحوم عبد الرحيم بوعبيد وعبد الكريم غلاب أن استعملا اللفظ نفسه للتعبير عن هذه الظاهرة (التحكم) منذ الستينيات من القرن الماضي، وكانا يقصدان به وظيفة «الإخراج» في المشهد السياسي التي تحدد أدوار الفاعلين وأحجامهم وحدودهم.. وباعتبار هذه الأقدمية، فإن التعريف الذي صغناه هو استنباط من هذا الماضي، ويصدق بشكل كبير على الصراع الديمقراطي في عهد الملك الراحل الحسن الثاني بين أحزاب الحركة الوطنية والملكية، وكانت الاستحقاقات الانتخابية في ضوء هذا الصراع هي مناسبة لتجديد شرعية الاستبداد، وإلباسها لبوسا ديمقراطيا، ومن ثم إلحاق الهزيمة بأحزاب الحركة الوطنية، ولسنا متأكدين في هذا الباب من أن التوافق حول دستور 1996 وحكومة التناوب (1998) شكل نهاية التحكم وقطيعة مع أساليبه، خاصة وأن التشريعيات الأولى التي تلت هذا التوافق عرفت ما سمي بالخروج عن المنهجية الديمقراطية (2002). لكن وصول جلالة الملك محمد السادس للحكم سنة 1999، والتحولات الرمزية والاستراتيجية في أسلوب حكم الملك الجديد، ستغير كثيرا من ظاهرة التحكم من حيث دواعيها ومراميها وآلياتها. إن الملك محمد السادس هو ملك ديمقراطي، وتمثل له الديمقراطية أفقا شخصيا، وقد تجلى هذا الأمر في عدد من الإشارات والمبادرات الملكية، كالخطب والتقارير والسلوكات… كما أن المقربين من الملك يعرفون هذا الأمر جيدا، ومن ثم فالسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن أن نفهم استمرار الممارسة التحكمية في المشهد السياسي المغربي مع وجود ملك ديمقراطي؟. وللجواب عن هذا السؤال يجب إدراك أن إشكالية الديمقراطية في عهد الراحل الحسن الثاني تختلف تماما عن إشكالية جلالة الملك محمد السادس، فإذا كانت في الحالة الأولى تتعلق باقتسام السلطة بين الملكية والحركة الوطنية، وهو ما تم التوافق بشأنه نسبيا سنة 1996، فإن الإشكالية الديمقراطية في العهد الجديد لها وجه آخر، تتعلق أساسا بضعف البنيات التحتية للديمقراطية، والتي تتجلى في: ترهل الحقل الحزبي وفوضاه، وتضخم الخطاب الهوياتي على حساب السياسي، وضعف المواطنة السياسية، وصعود الإسلاميين وامتدادهم في الفراغ السياسي الذي أحدثه ضعف الأحزاب، ناهيك عن تحفظ بعض الحلفاء التقليديين للمملكة على الاختيار الديمقراطي ومخرجاته سواء في الشرق أو الغرب، وضغوط جماعات المصالح الريعية الداخلية والخارجية. وقد أظهر تقرير الخمسينية هذه التحديات بوضوح، واقترح حلولا لها (2005). هل يعني هذا أن الانتخابات ونتائجها ليستا مدخلا أساسيا لإقرار الديمقراطية؟ من الواضح في ضوء التحديات العميقة التي ذكرتها آنفا، أن إقرار حياة ديمقراطية سليمة من منظور رجالات العهد الجديد لا يمكن اختزالها في العملية الانتخابية، بل هي معضلة شاملة بالنسبة للنظام والأحزاب والمجتمع، ومسؤولية مشتركة، وتقتضي بالضرورة معالجة كل التحديات السالفة الذكر، وتوفير البنى التحتية للدمقرطة، ومن الخطأ الجسيم في هذا المقام الاعتقاد بأن الفاصل بيننا وبين الديمقراطية هو وجود استحقاق انتخابي نزيه. وقد أثبتت التجارب في كثير من البلدان شرقا وغربا أن هذا النوع من الاختزال مهلك، وأدى إلى كوارث سياسية. فالتعريف الذي اقترحناه للتحكم- وتوخيا للدقة- يصدق على عهد الحسن الثاني رحمه الله، بينما يتخذ معنى مختلفا في العهد الجديد، ويكتسب شرعيات جديدة، فهو تدبير سياسي لعملية تاريخية معقدة، يتداخل فيها الثقافي بالسياسي بالاجتماعي، المحلي بالإقليمي بالدولي، وعنصر الزمان أساسي في تجاوزه (التحكم). ومن ثم، فالصعوبات التي يعانيها حزب العدالة والتنمية في تشكيل الحكومة في هذا المنظور هي إحدى مظاهر أعطاب الديمقراطية من جهة، ومقتضى من مقتضيات التحكم الذي تمارسه الجهة الراعية للانتقال الديمقراطي من جهة ثانية، وهي– أيضا– تعبير عن طبيعة المرحلة التي يمر بها المغرب في سعيه لإنجاح التحول السياسي الهادئ. وأعتقد- في هذا السياق- أن حزب العدالة والتنمية صعب على نفسه المهمة من خلال سوء فهم إشكالية عسر التحول الديمقراطي وتركيزه على الجانب التقني، ومن خلال كثرة الخطوط الحمراء التي وضعها، ومن خلال التباسات الخطاب. إذن، أفهم أن حزب العدالة والتنمية فشل في توقع ما يحدث الآن بسبب عدم تقديره لقوة التحكم؟ بالتأكيد، إن مشكلة حزب العدالة والتنمية مع التحكم- وكما أسلفنا القول- ذات وجهين: الأول، سوء فهم لمعضلة الانتقال الديمقراطي ومتطلباته، وأن أضعف أبعاده هو البعد التقني (الانتخابات)؛ والثاني عدم إدراك مقتضيات دور رعاية الانتقال الديمقراطي الذي تضطلع به المؤسسة الملكية، والذي يحتم التدخل في العملية السياسية، حفظا للتوازن، والاستقرار، والمصالح، وتعزيزا لفرص التنمية والنهوض. ومن ثم هناك سوء فهم وتقدير لقوة التحكم، فالتحكم اليوم في كلمتين هو عقل الدولة. فحزب العدالة والتنمية اليوم يؤدي، وغدا سيؤدي، ثمن سوء الفهم والتقدير هذا، وسيجد صعوبات كبيرة جدا في سعيه للإسهام في الإصلاح بالمملكة، والاندماج في النسيج السياسي، إذا استمر على هذا النهج، والأخطر في المسألة والذي يخيفني- شخصيا- هو الزيف الذي قد يلحق وعي الرأي العام السياسي جراء هذا الصراع، بحيث يُمسي معتقدا أن راعي البناء الديمقراطي (المؤسسة الملكية) راع غير نزيه، ومنحاز لاختيارات غير ديمقراطية، وهذا من شأنه أن يستعيد توترات القرن الماضي، ويضعف شرعية الدولة، ويفقد ما تبقى من الثقة في السياسة. وهذه كلها كوارث. بعد فوز البيجيدي في 7 أكتوبر، كان يعتقد أنه بالإمكان هزم التحكم، لاسيما أن حملته كانت مثقلة بمقولات مواجهة هذا التحكم.. لكن الأحداث اللاحقة ربما توحي بالعكس. هل تعتقد أن الفوز الانتخابي للبيجيدي في 7 أكتوبر لم يكن يعكس البتة هزيمة أو اختناقا للتحكم، وأن البيجيدي ربما فشل في تصور استراتيجية صالحة لمعالجة طبيعة الصراع الذي هو فيه؟ صحيح، إن حزب العدالة والتنمية وهو يواجه حزب الأصالة والمعاصرة في الانتخابات كان مدفوعا بقراءة أثبت الواقع فشلها، وهي أنه ينازل طرفا في الدولة أقنع هذه الأخيرة بأن يكون لها حزبا (حزب الأصالة والمعاصرة)، وجب إلحاق الهزيمة به انتخابيا، وإذا تحققت هذه الهزيمة فإن الدولة ستراجع قرارها هذا، وستنسحب من المشهد، وقد أُسست على هذا الفهم مجموعة من الأساطير. لكن ما أعقب السابع من أكتوبر أثبت أن الأمر أعقد مما تصوره البيجيدي، وأن التحكم لم يختنق ولم ينته واستمر في الحياة. فالتحكم ليس حزبا، إنه وظيفة، ومقتضى من مقتضيات الانتقال السياسي الصعب الذي يجتازه المغرب. وباعتباره كذلك، فإنه يتنزل وظيفيا من خلال مجموعة من الأدوات والسياسات. وحزب العدالة والتنمية من هذه الناحية وجب أن يقر بسوء تقديره، وأن يراجع بكل شجاعة وسرعة هذا التقدير، وأي تأخر في هذا الباب يعني مزيدا من الخسائر. كنت قد اقترحت على البيجيدي أن يعيد النظر في مقولة الانتقال الديمقراطي، وذكرت أن قادته لا يؤمنون بشكل كبير بهذه المقولة. هل ترى أن ما حدث الآن يعزز رأيك بشأن إعادة النظر في تمسك البيجيدي بالانتقال الديمقراطي؟ معنى هذا وببساطة أن يقبل حزب العدالة والتنمية بالتحكم، ويتعايش معه تحقيقا لمصالح البلاد والعباد وفي انتظار إنضاج الشروط لحياة ديمقراطية سليمة، فالبيجيدي عاجز لوحده أن يحقق الديمقراطية، وليس باستطاعته تحمل كلفتها، وما يجري حاليا تأكيد لما سبق أن قلناه. بالإضافة إلى مسألة غاية في الأهمية لا يلتفت إليها بما يكفي، فالعدالة والتنمية باعتباره حزبا سياسيا ذا مرجعية إسلامية، لم يجب بالوضوح اللازم عن سؤال استراتيجي وهو: ما معنى أن تكون إسلاميا في الحياة السياسية المغربية؟ والجواب عن هذا السؤال لا يحل إشكالية البيجيدي وحده، بل يحل إشكالية كل الحساسية الإسلامية في السياسة، وهذا تغيير ثقافي يحتاج إلى بعض الوقت. ومما يجب التأكيد عليه في هذا السياق، أن الحديث عن الانتقال الديمقراطي أو البناء الديمقراطي، عادة ما يحيل على البعد التقني-الانتخابي وتقاسم السلطة بين الملكية والمنتخبين، ويتجاهل أبعادا أخرى في الديمقراطية، من قبيل ترسيخ التعددية، وعقلنة المشهد الحزبي، والمواطنة السياسية. وهي أمور تحتاج إلى تبلور تاريخي، فإذا تعلق الأمر باقتسام السلطة، فالأمر قد حسمه دستور 2011، وعموم النخب تناقش في هذا المستوى مسألة التنزيل الديمقراطي لهذا الدستور فقط. إن دعوتي لحزب العدالة والتنمية لمراجعة مطلب الانتقال الديمقراطي، تتوخى إعادة الاعتبار للأبعاد الاستراتيجية في المسألة الديمقراطية وتغليبها على الأبعاد التقنية والانتخابية، وفي صلبها بناء الأحزاب والمواطنة السياسية. فاستمرار الحديث عن الانتقال الديمقراطي في ضوء دستور 2011 حديث ملتبس، ذلك أن ما تحقق يمكن أن يكون كافيا في التعبير عن طبيعة الديمقراطية المغربية بما لها وما عليها، وهو ما يقتضي تعديلا في أطروحة الحزب، وكنت أفضل أن يكون المؤتمر الاستثنائي الذي تم مؤخرا ليس فقط للتمديد للأستاذ عبد الإله بنكيران، بل أيضا لتحيين أطروحة الحزب. بمعنى آخر، يجب على حزب العدالة أن يترك التاريخ يفعل فعله في الواقع، ذلك أن الديمقراطية هي أفق تاريخي لا يمكن تجاوزه أو الالتفاف عليه. أيضا؛ إن هذه الدعوة الغاية منها المساهمة في تأهيل حزب العدالة ثقافيا لتفهم بعض التردد والاختلال الذي يتجلى في المستوى الانتخابي وتأويله إيجابا باعتباره من طبيعة الانتقال الصعب، وفي انتظار نضج الشروط التاريخية والموضوعية، فالديمقراطية كأفق تقتضي نوعا من المقايضة بين المصالح الآنية والاستراتيجية، وفي حالتنا وجب التضحية بالظرفي لصالح الاستراتيجي. كما تستحضر هذه الدعوة، بوعي، الإشكالات والتعقيدات التي يطرحها الانتماء الإسلامي لهذا الحزب في محيط إقليمي مضطرب، فالاشتراطات الأخلاقية للمرجعية الإسلامية من جهة، والتحفظات الإقليمية والدولية على الفاعل السياسي الإسلامي من جهة ثانية، تجعل من حماسته ورغبته في الفوز مثار شك وريب لدى الكثيرين داخليا وخارجيا. عندما يتحرك فاعلون سياسيون- في الواجهة- لكبح عملية التفاوض حول الحكومة، هل يمكننا القول إن الأمر يتعلق حقا بفاعلين لا تحركهم قوة خفية، أم إنهم واجهة للقوة الجارفة للتحكم، أي باعتبارهم وسائل لتجديد التحكم؟ لنكن واضحين، لا أعتبر كل من يبتز الأستاذ بنكيران أو يمانع في التحالف معه هو بالضرورة امتداد للتحكم، فبعض الأحزاب تقدر أن مصالحها السياسية تتحقق بالابتعاد عن بنكيران ولا تتحقق بالتقارب معه، ولكن في الآن نفسه، يجب الإقرار بأن بعض هذه الأحزاب تتلقى التعليمات والتوجيهات، لأنها ببساطة ليست أحزابا ولا تتوفر فيها من الناحية النظرية مقومات الحزب بما فيها مقوم التنظيم، فهي مجموعة وظيفية مركزية تسمى الحزب وتقوم بأدوار سياسية. إن هذه الأحزاب بنوعيها (المستقلة والوظيفية) بينها مصلحة مشتركة في تحجيم العدالة والتنمية وتنفيذ أجندة التحكم. ولهذا، ما يحصل ليس أمرا مستغربا، بل أكثر من ذلك هو أمر متوقع وطبيعي. لكن يقال إن بنكيران يملك شرعية انتخابية، ونصا دستوريا يمنحه الحق في تشكيل حكومته، وفي المقابل ماذا يملك الآخرون؟ ألا يمكن أن تتحول محاصرة البيجيدي إلى إضرار فادح بالديمقراطية عندما تصبح الانتخابات العامة بدون معنى سياسي؟ صحيح، ربما من الناحية الشكلية قد يكون كلامك صحيحا، لكن لا شيء يلزم الأحزاب الخاسرة في الانتخابات بالتفضل على الحزب الفائز بأصواتها، والتحالف معه دون مقابل، فالمسألة في جوهرها مسألة مفاوضة ومبايعة، مسألة أخذ وعطاء. يمكن لحزب العدالة والتنمية أن يقدم الأمر على أنه مؤامرة ضده، وهذا حقه، لكن المسألة لها وجه آخر، وهي أننا لسنا في وضع ديمقراطي طبيعي وسليم حتى نعتبر ما يجري حاليا نوعا من الإجهاض، بل نحن إزاء ديموقراطية تعتورها مجموعة من النواقص؛ فأن تتشكل الحكومة في هذا الظرف الانتقالي بعيدا عن سلطة الرعاية التي تمثلها الملكية أمر غير مستساغ، وكل المناورات والتعقيدات التي تعاني منها المشاورات الحزبية بشأن تشكيل الحكومة تمهد وتستجدي تدخلا ملكيا، وهو ما سيحصل في النهاية. وهذا يؤكد لي تقديرا له وجاهته وهو: أن الانتقال الديمقراطي كما كان مخططا له من طرف أصحاب القرار في العهد الجديد، عرف تسريعا مفاجئا واضطراريا مع أحداث الربيع العربي، وبالتالي الاستراتيجية المعتمدة حاليا هي إبطاء هذا الانتقال بما يحقق صلابة الخطوات الديمقراطية المتخذة من جهة ويعيد المشروع إلى مربعه الأول. وتعكس صعوبة تشكيل الحكومة جانبا من هذه الإشكالية، فالرسالة المراد إيصالها للجميع أن الفاعل السياسي عاجز عن ممارسة الاختصاصات الدستورية الممنوحة له بعيدا عن الملك، بمعنى آخر، أن النخب الحزبية لا زالت بحاجة إلى تدخل الملك في هذا الباب. بين البيجيدي والملكية نجد حالة من عدم الثقة أو نقصا في الثقة، ويعتقد أنه حتى وإن تخلى عن أطروحة الانتقال الديمقراطي فإنه لن يكسب شيئا ذَا قيمة سياسية، بل ربما سيفقد مكاسبه الانتخابية والسياسية، ألا ترى أن البيجيدي راكم أرباحه وعزز قوته بوصفه عاكسا لأطروحة الانتقال الديمقراطي وأن وقوفه في الصف الآخر قد يضر به أكثر؟ أعتقد أن الملكية تدبر علاقتها بالأحزاب ليس على أساس الثقة، بل على أسس مصلحية وسياسية دقيقة وواضحة، فهي تدرك تمام الإدراك من خلال أجهزتها المختلفة سقف مطالب البيجيدي وحدوده السياسية التي لا تهدد بحال من الأحوال وجودها ولا تنقص من شرعيتها، ومن ثم من الخطأ الجسيم اعتبار التنازل عن المطلب الديمقراطي الغاية منه كسب ثقة الملكية، لأن المسألة ليست موضوع ثقة. ومن ناحية أخرى، إن شرعية حزب العدالة والتنمية ومكاسبه السياسية لا يحققها بمعاكسة الملكية أو الطمع في اختصاصاتها، بل يحققها من خلال التزامه الأخلاقي، ومصداقيته السياسية، وقد أثبتت التجربة السابقة في التدبير الحكومي أن حزب العدالة والتنمية كان مرنا ومتسامحا في عدد من القضايا ذات الدلالة الديمقراطية، وخاصة أثناء إخراج بعض النصوص التنزيلية للدستور، كما أن معظم الذين صوتوا له في الانتخابات الأخيرة لم يصوتوا له باعتباره حامي الديمقراطية والمدافع عنها، بل صوتوا عليه باعتبار النزاهة والمصداقية التي يتحلى بها أعضاؤه ومسؤولوه. وحزب العدالة ومنذ أول مشاركة له في الانتخابات، حقق طفرات سياسية كانت تضعه حتما على رأس المشهد في أية انتخابات نزيهة قبل انتخابات 2011. فالمعادلة التي يجب إحكامها من طرف البيجيدي في هذا السياق، تتمثل في تدبير التنازل عن بعض الديمقراطية في الراهن من أجل كامل الديمقراطية في الآجل. لاحظنا أن البيجيدي يستعمل حاليا كلمة مؤامرة لتوصيف ما يحدث بصدد تشكيل الحكومة، هل هو تصويب على هدف أدنى من التحكم؟ بمعنى آخر، هل يحاول البيجيدي تجنب صدام جديد أم إنه سيقاوم لفترة أطول؟ أكيد أن حزب العدالة والتنمية لا يريد عمدا أن ينظر إلى مَن وراء الأكمة، لا يريد أن يشغل نفسه بسؤال من يحرك الخشبة من وراء الستار، ولا يريد أن يشغل الرأي العام بذلك، لكن المتابعين يدركون حقيقة الصورة. وإذا أراد حزب العدالة والتنمية الخروج من المأزق الذي وضع نفسه فيه، لا بد أن يقوم بمراجعة حقيقية لقراءته للمشهد السياسي، ويعيد ترتيب علاقاته مع الفرقاء، وأن يراجع خطوطه الحمراء التي وضعها، فمسؤولية الديموقراطية مسؤولية شعب ونخبه مجتمعة وليست مسؤولية حزب بعينه. إن حزب العدالة والتنمية لن يقاوم كثيرا، وسيتدخل «التحكم» من أجل تسهيل مأمورية تشكيل الحكومة، لكن بشروط تضمن التوازن المطلوب، وتحقق الاستمرارية الضرورية للسياسات العمومية الكبرى، وتؤمن المصالح العليا للمملكة وشركائها الإقليميين والدوليين، وتطمئن الجماعات الريعية المحلية. في المنظور المستقبلي، هل تعتقد أن لدى البيجيدي مخارج من وضعية ما بعد 7 أكتوبر، أي من أفق الصراع القائم الآن؟ يجب التأكيد على أننا اليوم ومن خلال استحقاق السابع من أكتوبر، لا نعيش حالة ديموقراطية عادية وسليمة، والكل يقر أننا بصدد انتقال ديموقراطي، وعليه فإن التحكم في مثل هذه الحالة وفي هذا الوضع من طبيعة الأشياء، ومن الخبل تصور خلاف هذا. وعليه، فحزب العدالة والتنمية في مثل هذا الظرف غير مؤهل لإلحاق الهزيمة بالتحكم، أي نقل المغرب إلى حالة ديمقراطية تامة، ومن ثم وجب عليه من هذه الناحية أن يتحلى بالتواضع ويقدر إمكاناته، ورحم الله عبدا عرف قدر نفسه. ومن جهة أخرى، إن التحكم كما تجلى قبل السابع من أكتوبر وبعده إلى زوال لكن إذا أحسنا التحاور معه، وأدركنا طابعه الموضوعي، وتشكل الحكومة المقبلة في تقديرنا فرصة مهمة بالنسبة للعدالة والتنمية للتطابق مع استراتيجية الدولة المغربية في بناء الديمقراطية، والتي تتوخى صون التعددية، وتأهيل الفاعل الحزبي وعقلنة فوضى المشهد السياسي وبلورة المواطنة السياسية، وأيضا- وهذا مهم- التعقل بعقل الدولة الاستراتيجي. فحكومة الأستاذ عبد الإله بنكيران الثانية يجب أن تكون حكومة جلالة الملك، اسما ومسمى، وهذا ما يراد لها، حكومة تعددية تساهم في تطوير التنمية الديموقراطية، وسيتحقق ذلك من خلال إشراك الأحزاب والكفاءات القادرة على تحقيق رؤية الملك. – أستاذ التعليم العالي وباحث في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي، فائز بجائزة المغرب للكتاب سنة 2015.