حصاد السياسة للسياسة حصاد. وكالزّراعة تماما ، هناك موسم للحرث والعناية بالأرض وهناك موسم حصاد لا يأتي بالضّرورة بنتائج مرضية. هوذا بالضّبط الغلّة السياسية التي قطفها الإسلاميون المغاربة عشية انطلاق حراك 20 فبراير. لقد حدث أنهم ونعني بهم تحديدا الفاعلين في الشّأن المحلّي إن كإطار سياسي منخرط في العملية السياسية شأن العدالة والتنمية أو كتنظيم فاعل خارج تلك العملية شأن العدل والإحسان استثمروا جانبا كبيرا من رصيدهم السياسي والاجتماعي في ذروة الحراك الذي دشنته حركة 20 فبراير بصورة تبدو متناقضة على مستوى الاصطفاف، إلاّ أنها تعكس الوجه نفسه من نمطية التدبير والأداء الذي يستند على منطق الصّفقات . وفي هذا لا خلاف جوهري بين أداء حزب العدالة والتنمية وأداء جماعة العدل والإحسان، إلاّ ما كان يتعلّق بالاختيارات السياسية. لقد راهنت العدالة والتنمية ضدّ حركة 20 فبراير في الوقت الذّي راهنت فيه العدل والإحسان على هذه الأخيرة، والكلّ انخرط في دورة واحدة من الرّهان. غير أنّ المفارقة هنا أنه وخلافا للمعتاد من حصيلة المراهنات التي تؤدّي إلى رابح وخاسر، بدا أنّ اللاعبين معا منيا بخسارة جعلت مكتسباتهما تتراجع بشكل ملفت للنّظر، أي أنها أتت على رصيدهما من مكتسبات ما قبل انطلاق حراك 20 فبراير. يحدث هذا في عزّ فوز البيجيدي في الانتخابات التشريعية وظفره بالحكومة. يكفي دليلا على ذلك مستوى الرّخص الذي انهدّت إليها موقعية الوزارات كما بدا منذ اللحظة التي شرعت فيها آلية هيكلة الحكومة مرورا بسعار الاستوزار وطلب الحقائب. ولم يحدث في تاريخ المغرب أن ماعت الحكومة وعرضت حقائبها في المزاد العلني مثلما يقع هذه الأيّام. فمعدّلات النّمو لم تعد قضية تدبير وتشخيص بقدر ما باتت تفاهمات؛ يتحدّث المتشوّفون إلى مالية الحكومة الجديدة على أن يجدوا مسافة موضوعية بين سبعة في المائة من مزاعم برنامجهم الانتخابي مع خمسة في المائة من مزاعم حليفهم في الحكومة؛ وباتت النقطة والنصف قضية مهملة في حساب الاقتصاد السياسي الجديد؛ اقتصادنا على طريقة البيجيدي القائم على الوعود والبركة ومنطق الريع مهما اختفى في لغة الاقتصاد السياسي الحديث ومهما استعار من مجازات الحكامة ولغة الاتحاد الاشتراكي التي تعلّم منها البيجيدي لغته السياسية الجديدة دون أن يعترف لهم بشرف التمدرس والتلقي لبيداغوجيا الارتقاء في مذاقات السياسة ونضالها. استراتيجيا الصفقات يجد الموقف السياسي معناه الكامل ليس في قلب الحدث بل في سياق الحدث كلّه. لا بدّ من مقاربة تاريخية للحدث وكذا قراءته في ضوء حسابات الفاعلين. وحدها هذه المنهجية تضعنا أمام التفسير الموضوعي الممكن لبعض أشكال الارتباكات والمفارقات التي عادة ما تفسد المعنى الجميل للسياسة وتدخل معهم المراقبين في حيرة من أمرهم. على هذا الأساس كيف أمكننا فهم غموض والتباس موقف الإسلاميين المغاربة من حركة 20 فبراير، سواء أتعلّق الأمر بموقف العدالة والتنمية من خلال رفضها المشاركة في الحراك، أو تعلّق الأمر بموقف العدل والإحسان من خلال انخراطها فيه. فأولى تلك المفارقات تعكسها الحصيلة المزرية لكلّ منهما؛ تلك التي سبّبت لحزب المصباح بعض خيبات الأمل قبل الانتخابات بأيّام ، كما سبّبت لتنظيم الشيخ ياسين بعض الجروح الغائرة التي جعلت أيّام شهر العسل مع حركة العشرين فبراير جزء من ذاكرة مغامرة قديمة بعد أن فضل التنظيم تحرير قواعده من خطر التأثر بثقافة العشرين فبراير ونزعتها التّمردّية التي قد تنعكس على قياداتها التي ألفت تنزيل الأوامر والأحكام بلغة المعصومية. التقييم الأوّلي يؤكّد على أنّ سبب تشابه الحصيلة بين موقفين على طرفي نقيض، هو وحدة النوايا التي تكمن خلف الموقفين وتستند إلى منطق الصّفقات. ومثل هذا طبيعي، إذ حينما يتعلّق الأمر بلحظة الذّروة في التغيير التّاريخي، فمقتضى الموقف الثّوري هو الانخراط برسم القناعات لا بمنطق الصّفقات. أي أنّ كلا الفصيلين تحرّك من موقعه وشروطه وخلفياته. كان حزب المصباح قد انطلق من الموقف المشبع بالثّقة في خيار الدّولة في انتظار المكافأة السياسية على قاعدة قناعته باستمرارية منطق الرّيع السياسي، فيما انطلقت العدل والإحسان من الموقف المشبع بالثّقة في خيار حركة الشّباب في انتظار استدراك قومة 2006م التي لم تتحقّق تنزيلا وتأويلا ، ومن جهة أخرى لأنها تتصرّف كمعارضة منزوية على هامش العملية السياسية. يصعب مقاربة كل هذا بعيدا عن انتظارات كلّ من هذه الفصائل على حدة. جزء مهم من هذه الفوضى راجع إلى كون اللاّعبين الأساسيين من الإسلاميين المغاربة ، لم يكونوا قد أعدوا أنفسهم لرياح التّغيير ؛ أعني التغيير البنيوي الذي تفرضه دورة التّاريخ وانقلاب المجتمع والثّقافة وتحولات الأقاليم والدّول. والمؤكّد أنّ الفصّ الأيسر من الدّماغ المعني بالتّفكير المادّي قد نشط هذه الأيّام بشكل ملفت لدى التيارات الإسلامية الفاعلة في المغرب وأحيانا بدا منه بعض التّورم أفقدهم شيئا من التوازن و المبدئية وجعلهم أكثر إيغال في البراغماتية الصّلبة. وللمرة الأولى في تاريخ هذه الجماعات بتنا أمام شكل جديد من الخطاب والمعاني السّياسية الملوّنة. مذبذبون لم يول الإسلاميون المغاربة اهتماما جادّا بمحتوى مطالب حركة 20 فبراير ولا بهيئاتها المنظّمة. وكان هناك قسم من شبيبتها رأت في ذلك حراكا مناسبا للتعبير عن انخراطها في المسار المطلبي الجديد قبل أن يتمّ ردعها من قبل الأمين العام للحزب وبصورة فردية لا تخلو من تقاليد الاستبداد الحزبي التقليدي أثارت اعتراضات من قبل قيادات في الأمانة العامة للحزب ، بوصفه موقفا فرديا لم تحترم فيه تدابير اتخاذ القرار وفق الإجراءات التنظيمية للحزب. وإن كان بعضهم راهن على قوة الحدث(قسم من شبيبة العدالة والتنمية) وفعل القومة (العدل والإحسان) في التّغيير ، إلاّ أنهم لم يكنوا جادّين في البلوغ بالموقف من الحراك نهاياته ، ما دام الإسلاميون حتّى الآن في المغرب لا يعتقدون بأهمية الكتلة التّاريخية إذا لم يكونوا متحكّمين في أدائها ضامنين مكتسباتها. وثمة أكثر من سبب موضوعي كان يفرض على الإسلاميين أن لا يكونوا جادّين إلى النّهاية في تبنّي مطالب شباب 20 فبراير، باعتبارهم فتية انخرطوا في ملفات مطلبية وضعتهم في فترة سابقة وجها لوجه أمام العدالة والتنمية. فبين شباب يحيون الذّكر في مجالس النصيحة أوالتّلقّي في المجالس التربوية، مدمنون على تمر ووعظ، وآخرين يتسامرون في مقصف معهد غوته، على شيء من الدّخان والأيديولوجيا الملوّنة مسافة ثقافية ونفسية لا يستهان بها. فلا زالت صورة أولئك الشّباب الذين نادوا في فترات متفرّقة بمطالب تخصّ حرية الشّذوذ الجنسي وحرية الاعتقاد والاحتجاج ضدّ قانون تجريم الإفطار العلني، تحتفظ بعنفوانها في ذاكرة إسلاميي المصباح. وإذا كان ألئك الشّباب يتبرؤون اليوم من ذلك ويتهمون جهات ما بتشويه سمعتهم، فليس هناك من شهّر بمواقفهم يومئذ غير صحافة حزب المصباح وحركتها الدّعوية. بل لا تزال حركة 20 فبراير على شيء من الاحتقان والوجادة من موقف البيجيدي وجمعيته الدّعوية ضدّ بند قيل كان على وشك الحسم فيه داخل لجنة التعديل الدستوري، والذي يتعلّق بحرّية الاعتقاد. وكان البيجيدي قد هدّد بالتصويت ضدّ الدستور المعدّل إذا ما تم التنصيص بالفعل على بند حرية الاعتقاد. أما تعليل الأمين العام للبيجيدي لهذا الموقف في تصريح لوكالة فرنس بريس، أنه ليس ضد حرية المعتقد ولكن هنا تخوّف من هذا الحكم على الهوية الإسلامية. وكان قد اختزل دعوى حرّية الاعتقاد في جملة من الأمور، حيث تساءل : " ماذا تعني حرّية العقيدة؟ السماح بالإفطار علنا خلال شهر رمضان ؟ إشاعة الحرية الجنسية والشذوذ الجنسي بين عامة الناس ؟ ". وواضح من خلال هذا الاختزال لحرية الاعتقاد ، أن مقصوده حركة 20 فبراير . وبالعودة إلى الجدل الذي قاده إعلام التيار الإسلامي ، نأخذ فكرة عن المسافة النفسية والاجتماعية والثقافية التي تفصل بين التّيار الإسلامي والمجموعات التي قادت هذا الحراك قبل أن يفرض استحقاقه على الإسلاميين في وقت لا حق حينما ظهرت آثاره على المشهد في لحظة استيقظ فيها المجال العربي على صوت حراك شبابي فاجأ الجميع، بعد أن أثمر سقوط نظم سياسية معروفة. ويضاف إلى هذه المسافة النفسية التي باعدت بين شباب الحراك الاجتماعي وبين التّيار الإسلامي عامل الاختيار السياسي لتنظيمات ألفت العمل وفق آلية التوافقات والصّفقات. فلقد حرص الإسلاميون المغاربة على استغلال هذا الحراك إلى أقصى ما يمكن الاستغلال. وتنافس في ذلك كلّ من فصيل (العدالة والتنمية) و(العدل والإحسان). وكما ذكرنا ، فلقد راهنت العدالة والتنمية على نفوذ السلطة ضدّ حركة 20 فبراير في حين راهنت العدل والإحسان على نفوذ حركة 20 فبراير ضدّ النّظام. وتماما مثلما تخلّف الإخوان المسلمين في القاهرة عن الالتحاق بميدان التحرير بعد 6 أيام من التردّد والسلبية، وبعد أن فتح شباب 25 يناير لهم الباب على مصراعيه، فإنّ العدالة والتنمية تأخّر كثيرا في تليين خطابه تجاه حراك الشّباب الذي منع شبيبته من المشاركة في فعالياته . الفرق بين الإخوان المسلمين في مصر والعدالة والتنمية في المغرب ، هو أنّ الإخوان لم يكونوا جزءا من العملية السياسية في عهد مبارك وعاشوا سنوات الجمر بامتياز. بينما كرونولوجيا الحراك الحاتمي نسبة إلى تنظيم حاتم الذي احتضن المجموعة السياسية لحزب المصباح في بداية نشأة الجماعة تؤكّد على أنه صناعة ملتبسة لم تنشأ خارج الأبوية المخزنية التي بات بعض أبنائهم يقارعونها اليوم بتمثّل خطاب قوى اليسار الجذري بينما هم يحصدون كل مكتسبات أحزاب الرّعاية !؟ ويسعى كلّ من العدالة والتنمية وتنظيم العدل والإحسان إلى تمثّل تجربة الإخوان المسلمين على الرّغم من تناقض اصطفافاتهم. بل أكثر من ذلك كانوا لا زالوا على تمثّل التجربة المصرية والتركية كما لو كانت واحدة قبل (أنّْ) ورغم (أنّ) الموقف السلبي للإخوان كان واضحا من التجربة التركية كما عبّرت عنها قياداتهم أثناء زيارة أوردوغان الأخيرة إلى القاهرة. وحتّى الآن لا يوجد من يستطيع الظّفر بجواب غير بوليميكي من الجماعة المذكورة حول ما إذا كان نموذجها المفضّل هم الإخوان المسلمين بمصر أم حزب العدالة والتنمية التركي؟ ! ذلك لأنّ لا شيء يؤكّد على فرادة نموذجها. وما يبدو كذلك ليس خطابها واختيارها بل فرادة التكوين السياسي المغربي وطريقته في احتواءها. إنّ ادعاء الفرادة بضمّ تجربة الجماعة إلى عموم التجربة المغربية أو حالة المغرب كلّها ، مغالطة تشبه حكاية الشّاويش الذي أجاب السّائل ، بأن أجره وأجر رئيسه يساويان معا مليون سنتيم. مذكرة الإصلاح الدستوري لا يمنع الموقف السياسي لحزب المصباح من تعديل الدستور والمستقبل السياسي لمغرب وصفوه في مذكّرة الحزب بأنه يشكّل طورا من الملكية الدستورية الثّانية بعد الاستقلال من قراءة ما خلف السّطور. يجب قراءة ذلك في ضوء الكرونولوجيا التأسيسية لهذه التجربة. لأنّ حديث المذكّرة التي شارك بها الحزب المذكور ضمن مجموع المذكّرات التي تقدّمت بها الأحزاب الأخرى، يتجاوز واحدة من الحقائق التي تطويها لغة التّدبيج والتوصيف. ذلك حينما تحدّثت العدالة والتنمية عن مستقبل مغربي لا منجى له إلاّ بالديمقراطية التي أعيقت في العشر سنوات الماضية؛ أي التّأريخ للعطب الديمقراطي في المغرب بتاريخ انخراطهم في اللعبة الإنتخابية. وهنا يتراجع شيء من الوفاء للماضي ، حيث كان الحزب المذكور مدينا لصفقة جرت يومها بأساليب غير ديمقراطية مكّنت للحزب أن يرعى على الصفقات وعلى العزوف السياسي. ما يعني أن الحزب المذكور كان هو الأكثر استفادة من كل ما اعتبره إعاقة للمشروع الديمقراطي. فهل يا ترى يمكننا اعتبار أن نجاحا للحزب في سياق ديمقراطي معاق مؤشّر على اختلال المشهد السياسي والحزبي أم أن الإحساس بتراجع عناصر استقواء الحزب المذكور هو سبب كافي جعل الحزب يندّد بمستقبل انتخابي لم يحلّ موسمه بعد، في شكل من الضّغط والإيحاء يستجدي تدخّلا أبويا لتجيير العملية الانتخابية لصالح العدالة والتنمية؟ ! لم تكن مذكرة الإصلاح الدستوري لحزب المصباح سوى قراءة في أفكار الدّولة نفسها. فهي لا تتحدّث إلاّ عن شيء فقد شحنة الممنوع والممتنع في تقدير السلطة السياسية. لهذا لا يوجد في المذكّرة ما من شأنه استفزاز إرادة الدّولة. وكانت مذكّرة البجيدي بمثابة إعادة توزيع لمحتوى الدستور السّابق مع تعديلات مستقرأة من أفكار الدّولة ومبادراتها. ويبدو باقي الإنشاء في ديباجة المذكّرة محسنات أدبية وتكرارات وتمثّلات سياسية فارغة المضمون. لكن ما هو مثير حقّا ، هو جملة أمور تدخل في سياق المحاولة الحثيثة لممارسة محو الذّاكرة وقلب الحقائق وتمييع المفاهيم. فقد جاء في المذكّرة قولهم : "رغم التطور الذي شهدته جوانب من الحرّيات العامة إلاّ أن الفترة التي تلت الانتخابات التشريعية ل 2002 وخاصة بعد تفجيرات 16 ماي بالدّار البيضاء ، شهدت عودة تصاعدية لمنطق التّحكم في المجتمع، وتغوّلا متناميا في الضّبط والإقصاء الذي بلغ مداه بالتّدخل في المجالات الحيوية للمجتمع كالسياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة والفن، وهي وضعية عمّقت من الهشاشة السياسية لبلادنا وساهمت في الحدّ والإضعاف من آثار مجموع خطوات الانفتاح السياسي والحقوقي كهيئة الإنصاف والمصالحة ومجلس المنافسة وغيرهما على التّطور الدّيمقراطي للمغرب". فالحزب يؤرّخ لبدء سياسة الضّبط والمقاربة الأمنية ومنطق التّحكم والتّغول بتاريخ 16 ماي 2003م، وهو تاريخ تصويت الحزب نفسه داخل البرلمان لصالح مشروع قانون الإرهاب الذي بموجبه تمت محاكمة كلّ المجموعات التي ينادي الحزب اليوم بتمتيعها بحريتها وحقوقها. فالحزب بهذا الاعتبار كان شريكا في كل أنواع ما يسمّيه في مذكّرته بتغوّل الدّولة في الضّبط والإقصاء. هذا مع أنّنا لا زلنا نصرّ على أنّ أحداث 16 ماي لم تكن كما هو دارج في الكثير من القراءات على أنها شكّلت تحدّيا كبيرا للحزب وجماعته ، بل لقد كان في وضع أريح من كل وقت مضى. نعم ، كان يومها الأمر امتحانا لبعض أعضائه ، لكن كانت تلك مناسبة لعودة هيمنة تنظيم (حاتم) على الحزب والحركة الدّعوية وإقصاء مجموعة الرّابطة من الهيمنة على قيادتهما. لولا 16 ماي لما عاد بنكيران إلى الأمانة العامة ومجموعته إلى زعامة التوحيد والإصلاح. وقد تحدّث البيجيدي في المذكّرة بنوع من الامتعاض عن حالة تغوّل الضبط والتحكم بقطاعات حيوية مثل السياسة والاقتصاد ولأول مرة يتجرّأ الحزب ليتحدّث عن الثقافة والاعلام والفنّ. وخلال هذه المرحلة لم تواجه صحافة البيجيدي أي تدخّل سافر. بل إنّ أكثر التّدخّلات في حقل الثقافة والفنّ كانت بدعم من البيجيدي والتوحيد والإصلاح. وبقي هامش كبير لم تمارس فيه الدولة ضبطا وتدخّلا في الثقافة والفن ، ظلّ دور صحافة البيجيدي تحريضي للدول في أن تمارس تدخّلها في المنع والضّبط كما هو موقف الحزب والجماعة من مهرجان موازين ومهرجان ملكة جمال صفرو والاحتجاج ضدّ الكثير من الأعمال الفنية الأخرى. ولم يسجّل أي تدخّل إيجابي للحزب وجماعته دفاعا عن قضية من القضايا التي تعرّض فيها قطاع الفنّ والثقافة لما سمّوه في المذكّرة بالتغوّل في الضّبط والإحصاء. ومن هنا وكما ذكرنا في مورد آخر ، إنّنا أمام موقف بومة هيغل ، تصف الأحداث بعد مرورها بوقت طويل حيث لا ينفع الوصف. وقد يبدو الأمر طبيعيا إن كان سيكون دور البيجيدي هو التّأريخ السياسي لا الفعل السياسي. ويسمح الإنشاء السياسي بتمثّل سائر الألفاظ مأخوذة بعيدا عن دلالاتها المفاهيمية. هكذا باتت الدّيمقراطية معبودة حزب لا يزال معنيا بتقديم مراجعات فكرية وليس سياسية ، لقبوله بالديمقراطية غير ملوّنة. لقد جاء في المذكّرة المذكورة قولهم :" إن مستقبل المغرب هوية ووحدة واستقرارا هو في الديمقراطية ، ومستقبل الملكية هو في الديمقراطية ، وكسب هذا الرهان يمر حتما عبر الأخذ بقواعد النّظام الديمقراطي بالمعايير الدولية المتعارف عليها دون تجزيئ، أو تقسيط وذلك بإنتاج نموذج ديمقراطي مغربي أصيل لا يخل بالمعايير الدولية ولا يكتفي باستنساخ نماذج أخرى ويحقق الديمقراطية والشّفافية والمحاسبة" . وواضح كم هو حجم المفارقة في هذا الإنشاء السياسي. فالدّيمقراطية اللفظية تتلعلع في هذا الخطاب كضرب من المزايدة اللفظية، حيث التكرار هنا له مغزى إرادة الإقناع بشيء لا يزال عارضا على الثّقافة السياسية لحزب لم يعد يهتمّ بقوة المعاني وسلطة الكلمات. فهو في المذكّرة يرفع المزايدة إلى تطبيق ضرب من الديمقراطية بمعاييرها الدولية المتعارفة دون تجزيئ أو تقسيط ، غير أنّ هذه الكوسموبوليتيكية يجب أن تأخذ لبوسا مغربيا خاصّا. وحيث يبدو أنّ صائغي هذا النّص بعيدون عن الصناعة المنطقية واللغوية. فقد فاتهم أنّ الدّخول على خطّ جدل الكوني والخصوصي يرفع كلفة تبنّي المعاني الخارمة للمعنى. فلا خصوصية من دون تجزيئ أو تقسيط. ولكن غواية الألفاظ وغريزة السياسوية من شأنهما إفساد المعنى. وقد اتّضح أنّ المذكّرة هي رسالة أكثر مما هي مساهمة حقيقية في الإصلاح. رسالة هدفها أن الحزب ومجموعته هم آباء الديمقراطية المغربية ومؤسسوها ومناضلوها، وأنّهم على طريق الأوردوغانية يعدون المغرب بديمقراطية على الطراز التركي، متناسين أنّ الديمقراطية التركية سبقت حزبي العدالة والتنمية التركي والمغربي معا، إذ الديمقراطية التركية هي من جاء بأوردوغان وليس أوردوغان هو من جاء بالديمقراطية التركية. ويحتاج المغرب أن يصبح ديمقراطيا في منأى عن هذه المزايدات، لأنّ الذين يصنعون الدّيمقراطية لا يمكن أن تكون لديهم نوازع أيديولوجية تفوق أهمية المواطنة والإنسان أو لهم خلفيات استئصالية نائمة في الضمائر. يجب أن تتحقق الديمقراطية في المغرب أولا ، وبفضل الديمقراطيين الحقيقيين. ويجب أن تولد الدّيمقراطية وتتمأسس وتتمنّع خارج لعبة الأحزاب الملتبسة، كي لا تستطيع الإنقلاب عليها أو استغلالها إلى حين. فالدّيمقراطية لا يحميها البيجيدي بل يجب أن تحمينا الديمقراطية من البيجيدي. شبح الأصالة والمعاصرة لقد بدأت محنة حزب العدالة والتنمية منذ دخول حزب الأصالة والمعاصرة العملية السياسية، كما لا زال شبح هذا الأخير يطارده ويشكل مصدر قلق مزمن لقياداته. ولم يكن سبب خوف هذا الأخير من حزب الهمّة كمنافس حزبي يتمتّع بوضع مميّز واستثنائي في المعادلة، بل إنّ سبب الخوف الرّئيسي هو أنه حزب أزاح عن حزب المصباح ميزة الاحتضان الأبوي التّي تكرست في عهد الرّاحل عبد الكريم الخطيب ، وزاحمه في الولاء وصرف عنه كلّ مكتسبات الرّعاية. كان حزب الأصالة والمعاصرة حزبا لصديق الملك الحالي مثلما كان حزب العدالة والتنمية حزبا لصديق الملك الراحل. لكنّ العدالة والتنمية يسعى باستمرار لممارسة النسيان واستغفال الذّاكرة السياسية المغربية. وعلى الرغم من موقف العدالة والتنمية من حركة 20 فبراير، فإنّه حزب مدين لهذه الحركة، في موقفها من حزب الأصالة والمعاصرة. سبق في غير هذا المورد أن حدّدنا قاعدة لمراقبة السلوك السياسي لهذه المجموعة السياسية المتخالفة المناحي والمصالح ، بأنها تصدح سياسيا بالقول الغليظ متى ارتكنت إلى صفقة سياسية كبيرة أو منحت هامشا للضّوضاء في فترات الاسترخاء. وهي في الملمّات تفقد جرأتها السياسية تماما كما حدث في 16 ماي 2003م. ما حدث بالفعل هو أنّ العدالة والتنمية تبنت اعتقادا سياسيا خاطئا جعلها تعتقد أنّها لعبت الدّور الأكبر في كسر حراك 20 فبراير وبأنها تنتظر جائزة سياسية تمكّنها من بلوغ الحكومة بشروط غير ديمقراطية. وهنا تكمن واحدة من كبرى مفارقات الزمان السياسي المغربي. يظهر هذا الموقف بوضوح في التصعيد الذي بادرت إليه المجموعة السياسية المذكورة بمجرّد ما بدا المشهد الحزبي يشهد حراكا ينبئ بمستقبل انتخابي غير مريح للعدالة والتنمية. أسباب التصعيد واضحة، وهي لا تعني أكثر من مجرّد الاحتجاج ضدّ المتوقّع في الانتخابات القادمة والتماس غير مباشر من الإدارة للتّدخّل لصالح العدالة والتنمية لضمان الفوز بالانتخابات في خطوة أولى قبل تشكيل الحكومة. ولم يكن لهذه الاحتجاجية غير معنى واحد، ألا وهو بعث الإدارة على التدخل والتصرف لصالح الحزب المذكور. وفي مثل هذه الحالة سيكون الوضع مقبولا عند حزب بدا أنه الأكثر خسرانا في لعبة الصفقات. إنّ نسيان الحالة الوظيفية لأحزاب صنعت في سياق مخصوص وخاضت معركة الاستحقاقات في شروط مزرية من العزوف السياسي فيما رصيدها الثّابت ظلّ دائما هو مجموعتها الأيديولوجية، من شأنه أن يحدث صدمة جديدة للحزب وقياداته. إنّ عدو العدالة والتنمية الحقيقي هو تراجع منسوب العزوف السياسي وانتعاش الوضعية الانتخابية للشعب. الخوف من المشاركة السياسية لقطاع كبير من الشعب وطبيعة التقطيع الانتخابي والأهم من ذلك طبيعة وأنماط التحالفات السياسية بين الأحزاب التي أفرزت منذ البداية قطبي الليبرالي والكتلة، هو الذي يعطينا فكرة كاملة عن التصعيد الذي لاذت به قيادات الحزب المذكور بعد أن أمنى قادتها أنفسهم بالفوز برئاسة الحكومة. يعلّل البيجيدي على لسان رئيس فريقه النيابي لحسن الدّاودي سرّ نبوءتهم بالفوز بالانتخابات بناء على وضعية سابقة لوضعهم الانتخابي عام 2002م. فحسب الداودي أنهم كانوا أول حزب من حيث عدد الأصوات، لكن الإدارة أخذت لهم بعض الأصوات. أمّا اليوم ف" أخال أن شعبية الحزب زادت عن سنتي 2007 و2009 وهو ما نبني عليه توقعنا بخصوص تصدر المشهد الحزبي" . تحل الكهانة السياسية محلّ المقاربة الإحصائية والاستشرافية هنا، كما أنّ تصريحا كهذا لا يقدّم رؤية موضوعية لوضعية حزب تقرأ فيه المكتسبات قراءة ستاتيكية وبنزعة ثباتية. والحال أنّه منذ 2002 إلى 2011 تغيرت أشياء كثيرة في الحزب وحول الحزب لا تجري في صالحه. والمؤكّد حسب تلك المعطيات أنّ الحزب يتّجه نحو كونه حزبا عاديا يصعب عليه تصدّر المشهد الحزبي إلاّ برافعات الرّيع السياسي ومكثه في المعارضة فترة طويلة. إن الحديث عن المستقبل من هذا المنظور يخفي مدى التصدّعات التي واجهها الحزب الذي عرف انسحابات جماعية فضلا عن أنّ ما كان قد حصده في الانتخابات السابقة جاء نتيجة العزوف السياسي. وكان البيجيدي وحده الحزب الذي يعيش في منأى خطر العزوف نظرا لإصرار قواعده على الانتخاب المكثف. ولا شيء في الواقع من شأنه أن يخيف من توعّدات البيجيدي، لأنّ نزولها للشّارع من شأنه أن يبرز حجم نفوذها الجماهيري المتواضع لإحداث الضّغط الكافي، كما أن حديثها عن دعم تكثيف الانتخابات للقضاء على إجراءات التقطيعي الانتخابي لا يفيد ، لأنّ المشاركة لم تضمن لها نتائج مريحة كما أنّ الأمر يعبر من خلال سياق الجدل السياسي أن الأمر يتعلّق بحالة من الضّغط من باب " عليّ وعلى أعدائي". وهذا ما أكّدته الحصيلة الأخيرة، إذ لولا دخول الاستقلال على الخط وكذا الحركة الشعبية لما أمكن قيام حكومة مريحة. الخاسرون من الممكن القول أن ما سمّي بالربيع العربي قد أتى بمكتسبات كثيرة لصالح الإسلاميين في تونس ومصر وليبيا وغيرها من البلاد العربية. لكن هل تصدّق أن الإسلاميين المغاربة كانوا هم الطرف الأخسر في هذا الحراك؟ ! السبب الموضوعي أن وضعية الإسلاميين المغاربة بالمقارنة مع نظرائهم في المشرق كانت أكثر من مريحة في أوقات سابقة. ولم يكن من المتوقع أن يظفروا بوضع أفضل مما ظفروا به سابقا. إلا أن المراهنة ولغة الصفقات جعلتهم يخسرون حتى ما كانوا يتمتعون به من مكتسبات. فالعدالة والتنمية الذي راهن على سياسة الصفقات وحالة العزوف السياسي وجد نفسه أمام وضعية انتخابية سيتحول بموجبها إلى حزب عادي في مشهد حزبي يعد بالكثير من الدينامية الجديدة. فالتعقيدات التي يعانيها المشهد الانتخابي في شروطه المتعلّقة بقانون تدبير الانتخابات تجعل أحلام ال(بيجيدي) في رئاسة الحكومة أشبه بالخيال العلمي إلاّ في حال السماح لهم بالمرور تأذيبا للعدل والإحسان وللظرفية الإقليمية والدّولية. فبغضّ النّظر عن سياسة التقطيع الانتخابي، تفرض الاصطفافات الجارية في إطار التحالفات الأخيرة على حزب المصباح أن يستسلم لقوانين اللعبة التي تضطرّه إلى النزول إلى سوق التّحالفات. إن حلمه برئاسة الحكومة يتطلّب منه إحراز حلفاء له في فترة يحدّدها القانون في 40 يوما. سيجد ال(البيجيدي) نفسه في مواجهة منافسين سياسيين يتقنون لعبة التحالفات، لولا أن سعى الحزب المذكور إلى الاحتجاج والضّغط لإقحام الإدارة في لعبة الضّامن له في هزيمة منافسيه. ذلك لأنّ الإدارة وإن فرضت في فترة العزوف الانتخابي شكلا من التقطيع وحتى منع التّرشح في بعض المناطق لغياب المنافسة الحقيقية، لكنّها سعت لعدم تدمير البيجيدي وضمان موقعية مناسبة له في المشهد. وبات واضحا أنّ هذا الحزب كان قد فقد حتى هذا الأمل حينما سلك طريق التشكيك قبيل الانتخابات. وقد وجد في سحب الحكومة لقانون المالية لعام 2012م فرصة لتصعيد احتجاجاته إلى حدّ التهديد بتنظيم اعتصام داخل البرلمان. وكانت تلك من المواقف الغريبة التي تبنّاها حزب المصباح ، تذكّرنا بموقف الرميد خلال السنة الماضية عن الاستقالة من مجلس النّواب. فلأول مرّة في تاريخ البرلمانات يصبح الاحتجاج والوقفات بديلا عن المساءلات والعمل المنظّم. ويكون الوضع وضع حرافيش سياسية لا حدود لغريب سلوكها. هذا مع أنهم يدركون ما هو دور الأحزاب والبرلمان حينما يساءلون عن موقفهم من حركة 20 فبراير. فهم يؤمنون بالاحتجاج والنزول الى الشارع حينما لا يصبح للشّارع أي دور تاريخي. لذا هدّدوا كما فعل الداودي بالنزول الى الشّارع في حال فازت الأصالة والمعاصرة في الانتخابات. كما برّر الداودي عدم مشاركتهم في حركة 20 فبراير بأنهم منعوا أن ينزل الحزب إلى الشّارع. معلّلا ذلك بإمكان مساندة أحزاب سياسية للشّارع دون" أن تنزل إلى الشّارع ، لأنّ دورها يبقى في البرلمان وليس في الشّارع" . هذا مع أنّ الحزب لم يساند الحركة. وبالمناسبة قرّر كل من الرميد والعثماني عدم التّرشّح للدورة القادمة من الانتخابات التشريعية. معلّلا الأول ذلك بأنّه قضى ثلاث ولايات انتخابية لا ندري ما المانع فالرميد الذي يعلن استقالته مرة من البرلمان ومرة يعلن عدم ترشحه بدعوى قضاء ثلاث ولايات انتخابية ، يتعاطى التمثيل النيابي كما لو كان رئيس دولة. فقط في مثل هذا المنصب نتحدث بهذه اللّغة. هذا في حين علّل الثاني قراره باستحسان تفرّغ بعض القيادات لقيادة الحزب . لكن في النهاية لم يلتزم بهذا القرار سوى الرميد. يمكن تفسير كل مواقف البيجيدي بما وقع في النهاية؛ فالتفسير حينما يصبح مقلوبا يعني أن التاريخ هنا يخضع لصفقات وتدبيرات هي وحدها ما يفسر التصرف والسلوك المريح لقيادات البيجيدي في تجربتهم الانتخابية الأخيرة. الشيء المؤّكد هنا هو وصول قيادات البيجيدي إلى حالة من التخمة والإشباع البرلماني ولم يعد يملأ جوفهم سوى الحكومة والتراب. وهذه التصريحات التي تظهر فيها الكثير من حالات التّعفف السياسي والزهد في المناصب هي قنابل دخانية تخفي الكثير من تبادل أدوار وأشكال من الصّفقات السياسية التي تمرّ تحت الأقدام. الموقف من حركة 20 فبراير لم نكن عشية بدء حراك 20 فبراير أمام ارتباك في موقف عدد من قيادات العدالة والتنمية، حين عبّروا عن أنهم في المبدء مختلفين حول ضرورة المشاركة. فالرميد والشوباني الذين تزعّما المعارضة داخل الحزب لصالح المشاركة انتهى بهم الوضع إلى إعلان الاستقالة من الأمانة العامّة للحزب. وهي الاستقالات التي فقدت جدّيتها بعد أن تحوّلت إلى سلاح ضغط لم يحقّق شيئا. لأنّ قرار الحزب في النهاية ظلّ على ما هو عليه فيما ظلّت مواقف القيادات المؤيّدة لحراك 20 فبراير في حدود المواقف الفردية. الأمر الذي أشعر أطرافا كثيرة بأنّنا أمام حالة توزيع أدوار. لكنّ المؤكّد عندنا أن هذه الحركات" الهمروجية" ليس الهدف منها سوى استدعاء مواقف من خارج القرار النهائي للحزب الذي يتلقّى تعليمات ثم يجمع عليها، لغرض لعب دور المشاكس في انتظار الفوز بمنصب في الحكومة. فكثيرون لا زالوا يؤمنون بالأدوار نفسها كما لو أنّ لا شيء تغيّر في الثّقافة السياسية. عبّر الرميد على أنّ الأمة ستكون بخير ما ولي أمرنا البيجيدي. لكن وعلى الرّغم من موقفه هذا ، حاول أن يعطي الانطباع بوحدة الحزب وعدم تصدّعه، لأنّ واحدة من الأشياء التي تنتظر الحزب بعد أول انتخاب في ظلّ الدستور الجديد، هو مزيد من التّصدّع. وقد أعطى الرميد والشوباني أهمية كبيرة لحراك 20 فبراير. لكن هذه لا تمثل قناعة قيادات أخرى مثل لحسن الدّاودي رئيس الفريق النيابي، حينما اعتبر أن البيجيدي لا يمكنه أن يكون عربة يقودها الحراك بل هو قاطرة. ففي لقاء له مع جريدة المساء ، برّر موقف الأمين العام بمنع المشاركة ، بأنهم لعبو دور الدركي على مستوى استعمال إسم العدالة والتنمية فقط وليس الأفراد لأنه لا يحق لأي شخص أن يستعمل إسم الحزب في غير موقعه إلاّ بالاتفاق" . لكن حسب اعتراض بعض القيادات كالشوباني فإن النزاع يكمن في إقدام الأمين العام على اتخاذ قرار انفرادي بمنع انخراط شبيبة الحزب في الحراك. فمثل هذا القرار نفسه من دون الرجوع الى مسارات اتخاذ القرار النهائي يعد مرفوضا. بل قرار استعمال اسم الحزب موكول للاتفاق وللاتفاق طرق غير طريق منع الامين العام. هذا ناهيك عن ان التحليل النفسي لخطاب الداودي هو عدم الاعتراف بشرعية الحراك، ما دام يتحدث عن استعمال اسم الحزب في غير موقعه. فالداودي يعتبر ان هناك مندسون داخل حركة 20 فبراير تستغلّها لأهداف حزبية. وفي هذا السياق يعتبر أن من حق هذه الحركة أن تقول لبنكيران : "ارحل" ؛ ما لم يكن هذا استغلالا من بعض المندسين في الحراك. لكن وعلى الرغم من الجدل الذي جرى بين قيادات حزب المصباح، بدا أنّ موقف بنكيران هو الأكثر وضوحا وإن بات في نظر أبناء حراك 20 فبراير موقفا تعسّفيا في حقّهم وحقّ شبيبتهم المؤيّدة للحراك. تذرّع الأمين العام لحزب العدالة والتنمية بالمسؤولية ومقتضياتها، حيث حمّل الهيئات التي صاغت مطالب 20 فبراير بأنها غير معروفة. بالنسبة إلى بنكيران ، كان المحتوى المطلبي لحركة 20 فبراير هو محتوى مقبول. بل اعتبره من مطالب الأحزاب السياسية الجادّة ويتبّنى قسما كبيرا منه. ولكنّه يرى أنه لا يمكن النزول إلى الشّارع لأسباب تتعلّق بتخوّفاته من تعريض الاستقرار للخطر. ولكنه عاد وأكّد على أنهم حزب إصلاحي وهذه حركة ثورة وبالتّالي فهو منسجم مع اختياراته. تلطّف موقف العدالة والتنمية مع حركة 20 فبراير بعد ذلك نتيجة ما أدت إليه هذه الحركة، إذ أمكنها محاصرة حزب الأصالة والمعاصرة مما أراح حزب العدالة والتنمية وجعله ينطلق من وضع مريح. لكن لا ننسى أن أمين عام حزب المصباح واجه أيضا شارع 20 فبراير في مناطق كثيرة هتفوا بسقوطه. كما أنّ واحدة من أسباب ارتباك البيجيدي وتصعيده اللهجي ضدّ وزارة الدّاخلية هو عودة الأصالة والمعاصرة وتحالفها مع التجمع الوطني للأحرار والحركة الشّعبية والاتحاد الدّستوري وإصدارهم بيانا مشتركا يشير إلى بدء مشوار التنسيق كما أصدر بيانا مشتركا يدين فيه العدالة والتنمية على منطق التشكيك في الانتخابات القادمة. وقد اهتدى البيجيدي إلى تنويع مواقفه وتوزيع أدواره بشكل كبير. فقد تبنّت شبيبته وبطريقة سرّية حركة باراكا التي رفعت شعاراتها والتي تتحدّث الكثير من المصادر على أنّ الذي موّل مطبوعاتها ولافتاتها هو البيجيدي من خلال شبيبته. تردد موقف العدالة والتنمية من حراك ال 20 فبراير بين الرفض ابتداء ومحاولة ركوب موجتها بعد أن تبيّن لهم فوات الكثير من مكتسبات المقامرة السياسية عشية النقاش الذي جرى حول القانون التنظيمي لمجلس النواب. وعلى الرّغم من أنّ حزب العدالة والتنمية انخرط في النّقاش على مستوى قطاعه النسائي والشّبابي في الجانب المتعلّق باللائحة الوطنية ومقتضى الفصل 19 من الدستور الجديد، إلاّ أن بيضة القبّان في موقفه السّلبي من مشروع القانون التنظيمي لمجلس النّواب الذي هدّد بموجبه بالنزول إلى الشّارع في الوقت الذي لم يعد الشّارع يشكل مصدر قلق كبير تتعلّق بالتقطيع الانتخابي. ويظهر ذلك بوضوح في توضيح بسيمة الحقّاوي عضو الفريق، حينما اعتبرت شارحة موقف العدالة والتنمية من مسألة اللائحة الوطنية وقضية المناصفة التي وعد بها الدستور الجديد، بأن ترشيح الشباب بنسبة أقل من النّساء ومنحهم نسبة 30 مقعدا قد تكون مواتية ومناسبة . ويظهر ذلك أكثر من خلال إقدام العدالة والتنمية على تبنّي الظاهرة الصّوتية في الاحتجاج على التقطيع وليس على غيره في مجمل ما تضمّنه القانون التنظيمي للانتخابات، بمنطق آخر تعويضا عن فشل التهديد بالنزول إلى الشارع لسرقة الأضواء من حركة 20 فبراير، اللجوء إلى استعمال الرّصيد الدّيني لحركة التوحيد والإصلاح في العملية الانتخابية. ولتطبيع هذا التّدخل لتعويض الخسارة المتوقعة للحزب الذي حاول أن يخلط بين نبوءته بخسارته بعد ضبط الخريطة الانتخابية في الانتخابات التشريعية القادمة وبين نبوءته بتزوير الانتخابات القادمة. عبرت التوحيد والإصلاح من خلال قياداتها عن قرارها الانخراط القويّ في الانتخابات. فقد جاء في تصريح للنائب الأول لرئيس حركة التوحيد والإصلاح عمر بن حماد بأنّ "الحركة ستنخرط في حملة وطنية لحث المواطنين للتسجيل المكثف باللوائح الانتخابية من أجل الرفع من نسبة المشاركة وأنها ستوظف في ذلك كل الوسائل المشروعة والممكنة من إعلام ومهرجانات وبيانات وغيرها من الوسائل، كما قال إن الحركة ستستمر في المشاركة ودعوة غيرها للمشاركة معتبرا أن المشاركة هي خيار إستراتيجي وقناعة راسخة ما فتئت الحركة تذكر بها وتدعوا إليها، وقال بأنه كان بود هم أن يتم اعتماد قاعدة المعطيات والبيانات المتوفرة لدى الإدارة العامة للأمن الوطني، وحيث إنه لم يتم ذلك فليس أمامهم سوى الانخراط في التعبئة للتسجيل في اللوائح الانتخابية إلى أكبر قدر ممكن . وإن ظلّ الجمعية الدعوية تتحدّث منذ مؤتمرها السابق عن فكّ الإرتباط بالحزب السياسي ، إلاّ أننا نقف على تبادل أدوار استراتيجية في قلب الحدث السياسي. ولنلاحظ الشّبه الكبير بيت تصريح رئيس التوحيد والإصلاح ونائبه وتصريح رئيس الفريق النيابي للعدالة والتنمية لحسن الداودي حينما يقول :"الآن وبعد أن رفضت الحكومة إعادة النّظر في اللّوائح الانتخابية بالاعتماد على تسجيل الناخبين بالاستناد إلى البطاقة الوطنية واحتمال أن ترفض تعديلاتنا المتعلّقة بمشروع القانون التنظيمي لمجلس النواب ، أعتقد أنه لم يبق لدينا غير تسجيل وتصويت المواطنين بكثافة ، كحل وحيد بين أيدينا لقطع الطريق على سماسرة الانتخابات" . التطبيع السياسي والدور المرتقب للتوحيد والإصلاح في الانتخابات يتأكد من خلال رفض حركة التوحيد والإصلاح للدّعوة لحضور المؤتمر الدولي الأول للصحوة الإسلامية المنعقد في طهران. ومع أن المدعو هو الحركة وليس الحزب، إلا أن القيادة في التوحيد والإصلاح كانت قد علّلت اعتذارها عن عدم حضور أشغال المؤتمر بسبب "ضيق أجندتها السياسية الدّاخلية وانشغالها بالاستعدادات للانتخابات" . وكانت تلك زلّة أخرى إن لم تكن مقصودة من قيادة التوحيد والإصلاح بأنها معنية أكثر من الحزب نفسه بالانتخابات، فضلا عن استعمال هذا الاعتذار في سياق المزايدة بالوطنية وحسن السّلوك وحتّى لا يتغلّ هذا الحضور ضد الحزب انتخابيا. خلافا للفترة التي سبقت حركة 20 فبراير لم تكن هذه الحركة تجرؤ على التّدخل السّافر في الشّأن الانتخابي، فما الذي جرى إذن؟ يبدو أن الأمر لا يتعلّق بتراجع موقف حزب الأصالة والمعاصرة الذي قاد الرّقابة السياسية والمعنوية على خطاب وأداء حزب العدالة والتنمية فحسب، ولا يتعلّق بإصرار الحزب المذكور على الانقلاب على المنهجية الدّيمقراطية في استعمال رصيده الدّعوي في الانتخابات فحسب كما لا يتعلّق بمحاولة الثّأر ضدّ الحصيلة المزرية بعد الاستفتاء وتراجع أحلام اليقظة برئاسة الحكومة وضمان الفوز بها بقوة الرّيع السياسي فحسب، بل إنّ لجوء العدالة والتنمية للتهديد تارة بتعبئة الشّارع أو تارة أخرى باستعمال رصيدها الدعوي بالمكشوف في انتخابات مصرّة على دخولها حتى وإن خسرت الكثير من الضّمانات بالفوز بها، يؤكّد على تراجع حقيقي في قوّة العدالة والتنمية. فالمؤشّرات تؤكّد على أنّ كل العوامل التي ساهمت في تقوية حظوظ العدالة والتنمية بالفوز هو حرصها الدّائم على تعبئة قواعدها للتصويت في مناخ غلب عليه العزوف السياسي من قبل قطاع الشّباب وغياب لقطاع واسع من المرأة. ففي ظلّ التنظيم الجديد للانتخابات الذي يراعي تكييف بنود الدستور مع العملية السياسية والانتخابية المقبلة كما في ظلّ خريطة التحالفات سواء الكتلة أو الرباعية ، يبدو أن حزب العدالة والتنمية كان على حقّ في أن يخشى على نفسه من الانتخابات المقبلة. وهذا يؤكّد على أنه منذ البداية لم يكن الأمر يتعلّق بموقف مبدئيّ بقدر ما كان مجرد مراهنة سياسية. بل سيكشفون بأنفسهم في فترة لاحقة عند بدء النقاش حول قانون الانتخابات ، بأنهم يعبّرون عن موقفهم باعتباره صفقة سياسية أكثر مما هو قناعة سياسية. وحيث سيقبل الحزب بالانتخابات مع استسلامهم لقضية التقطيع، فإنّهم بتصعيد الاحتجاج راهنوا على صفقات من نوع آخر، أي الاستوزار في الحكومة مقابل القبول بواقع التقطيع. و ماذ ا عن العدل و الإحسان؟ من جهة أخرى كان تنظيم العدل والإحسان قد خرج بجروح وخيبات أمل وحيرة من استحقاقات المستقبل. فليس في لغة الانتظارية والعدمية شيء يغري الشّباب بعد اليوم، وهما قوام الخطاب الأيديولوجي للجماعة . وعليه فسوف يعيش ارتدادات الموقف التي ستخترق حرم الجماعة في جدل سيتفجّر لا محالة في شكل تساؤلات واستشكالات تمس بنية الخطاب ونمطي الأسلوب و الأداء. هنا تكون القومة قد انقلبت ضد أصحابها ! وبينما كانت انتظارات حزب المصباح : رئاسة الحكومة، كانت هناك انتظارات من نوع آخر لدى تنظيم العدل والإحسان، انتظارية مفتوحة لأنّ الانتظارية باتت جزء من غايات التنظيم تتعلّق بقومة سياسية ، سعت الجماعة منذ انفضاح الرؤى السياسية لعام 2006م إلى الانشغال بتلطيف آثارها ومداليلها لتطويعها ما أمكن وتكييفها مع الأحداث السياسية الواقعية بصورة أربكت معجم المفاهيم السياسية للجماعة. ويبدو أن فصيل العدل والإحسان نفسه مع كلّ انتظاراته وانتظارياته هو نفسه لم يكن متوقّعا لهذا الحراك الذي لمس فيه بعضا من عناصر مورفولوجيا قومته، دون أن يجد في محتوى مطلبية هذا الحراك ما يناسب محتوى تلك القومة، حيث سارع تحت ضغط الزّمان إلى استعابها بعقل منشطر شكيزوفيريني، منح بموجبه جسمه الجماهيري لحراك 20 فبراير، بينما احتفظ بمحتوى أجندته الروحية. قد يكون الأمر أشبه بزواج قهري أو انتهازي يتحقّق فيه تبادل العلاقات البيولوجيا فيما كل طرف يستحضر صورة معشوقه في عالم المثال. وهو شكل من الخيانة السياسية غير مجرّمة في الأخلاق السياسية ما دامت تجري في الخيال. لكنّها تصبح كذلك كما حدث بالفعل حينما بدأت شعارات الجماعة تتجاوز شعارات حتى حراك 20 فبراير في مناطق ومناسبات كثيرة. ففي بعض المسيرات رفع أنصار العدل والإحسان شعار المقاطعة للانتخابات إلى جانب بعض القوى المشاركة في الحراك نفسه والمقاطعة على الرّغم من أنها داخلة في العملية السّياسية شأن الاشتراكي الموحّد ، لكن هذا ليس قرار حركة 20 فبراير التي عبّرت من خلال بعض قيادييها بأن شأن المقاطعة وعدمه ليس من شأنها، بل هو نقاش حزبي. وحسب الحركة نفسها أنّ الأمر يرجع إلى الأحزاب، إذ من بينها أحزاب داعمة للحراك وهي تؤيّد المشاركة وأخرى داعمة للحراك وهي ترفض المشاركة. وكان الشّاب أسامة الخليفي قد تساءل في جواب على سؤال الأسبوع الصّحفي حول موقفه الشخصي من سياسة المقاطعة : كيف يمكن لحزب سياسي أن ينتقد العملية الانتخابية وهو غير مشارك فيها أصلا" . وقد يكون مبرّرا ذلك، إذا ما رفض حزب ما في دورة ما المشاركة لأسباب معيّنة، لكن ما ليس مفهوما هو دعوى العدل والإحسان للمقاطعة وهي ليست شريكا أصلا في العملية السياسية؟ ! فحينما ازدادت وتيرة الضغط لعلى الجماعة لجأت إلى ضرب من التّورية وليس الثّورية في إجراء شكل من المراجعات غير المعلنة قوامها أن الخلافة الرّاشدة على منهاج النّبوة هي نفسها الدولة المدنية على منهاج مونتيسكيو. لا يهمّ أن تكون دولة لا تبقي على الرؤوس السياسية وترفض التوريث ، إذا لم تكن ديمقراطيتها تفرض سؤال إعادة انتخاب زعيم العدل والإحسان الذي تمّت ولايته ليس بالانتخاب بل بالاصطفاء الرّوحي. بدا القطاع الإسلامي إن لم يكن قد خضع للتأميم كلّية ، إلاّ أنّه ظلّت هناك مساحة لضرب من الخصخصة الجزئية لأشكال من القطاع الإسلامي شبه العمومي. فالحاجة إلى الدّولة ورعايتها هو ما يفسر شطرا من لعبة ال (كاش كاش) بين الدولة والعدل والإحسان مثلا. حينما اختار السيد ياسين موقف الروكي سياسيا والحلاّج سلوكيا، كان لا بدّ من التساؤل في ضوء معطيات كثيرة : إلى أيّ حدّ يمكن للروكي الجديد أن ينجح فيما لم ينجح فيه أي روكي في تاريخ المغرب الوسيط والحديث، في إبراز عدم الحاجة إلى باترياركية الدولة، فيما ينعش الروكي الجديد ذاكرة الدولة في سياسة احتواء الروكي وتجفيف منابع رأسماله المادي والرمزي لتكريس الأبوية الروحية والسياسية للدولة؟ ! وحيث أدرك الروكي الجديد هذه الحقيقة فهو يمتلك وعيها تماما، فهو ناور قدر الوسع خارج منطق العنف المادي، فيما أبقى على مساحة عريضة للخطوط الحمر كادت تجرفها حوادث حراك 20 فبراير. فالعدل والإحسان وإن انخرط بقوة في هذا الحراك إلاّ أنه ظل انخراطا رسائليا وليس رساليا؛ كان لقرار عدم النزول بكامل قواه رسالة أكثر مما هي التزام بشروط الحراك الاجتماعي بقيادة شباب 20 فبراير. إنّ هجاء السيد ياسين لمعاوية لا يمنعه من تبنّي شعرته. لكن بعيدا عن التصريحات/الرسائلية يؤكّد الواقع على أنّ فصيل العدل والإحسان شارك بشيوخه ونسائه وأطفاله وليس بقسم من شبابه فقط، في مشهد عمّق القناعة بمحدودية نفوذه داخل شارع منقسم إلى أقلّية ناطقة تتقاسم فيها القوى السياسية الرّيع الرّمزي للنفوذ، وأغلبية صامتة تتلقّى الحدث كفرجة. التّحدّي الذي كان يواجه العدل والإحسان في هذه المرحلة بالغة الحساسية هو شعورها بقوّة المراهنة. ذلك لأنّ العدل والإحسان ليس حركة تحسن المغامرة أو تقبل بالانتحار وإن ساهمت الأحداث الأخيرة في إخراجها من نمطيتها وانزوائها. كان يهمّها أن تبقي في ذروة مغامرتها بالنزول إلى الشّارع تحتفظ برهاب كثافتها الجماهيرية الافتراضية التي ساعدتها على تخييلها انزواءها وانتظاريتها الطويلة. بعد أن كان العدل والإحسان يستند في تهديده إلى النزول القومتي المتوقّع إلى الشّارع ، بات اليوم بعد افتقاده لهذا الرصيد الافتراضي يراهن على أوراق أخرى تتعلّق بربط الصّلة بالمناخ الدّولي والإيحاء باستعادة سيناريوهات التّدخل الخارجي. الرّصيد الروحي في معركة السياسة لم يكن المغرب بدعا في إثارة شهية بعض المكونات الرّوحية تجاه المائدة السياسية. حدث مثله بل أكثر في مصر نتيجة تنافس الشّارع المصري واستعراض سائر المكونات لقوتها في إطار ما يعرف بالمليونيات في ميدان التحرير. وفي المغرب حيث يخضع النزول إلى الشّارع لنمط آخر من الضّوابط و الرّهانات، كان الجديد/القديم نزول واحدة من كبرى الطرق الصّوفية إلى الشّارع دعما للتصويت على الدستور المعدّل المعروض على الاستفتاء الشّعبي. كانت الرّسالة واضحة، حيث المقصود هنا العدل والإحسان. فالأمر يتعلّق باستدعاء الاحتياطي الرّوحي لمواجهة المنشّق السّابق عن الطريقة البوتشيشية. وهو الأمر الذي أعطى مظهرا لحرب روحية باردة بين الدّولة وجماعة العدل والإحسان، أعطت انطباعا بأنّ المعركة هنا لا حدود لمستوياتها، وبأنّ كل الوسائل قابلة للاستعمال. كان المظهر الرّوحي في معركة ذات جوهر سياسي بادية خلال هذه المرحلة. ليست الطريقة البوتشيشية كبرى الطرق الصوفية في المغرب طريقة سياسية كما حرّضها وتمنّى أن يراها الشيخ عبد السلام يسين قبل إعلان انشقاقه عنها. فلقد خرج هذا الأخير من الطريقة وهو لا يملك إمكانات تنظيمية وسياسية مهمّة ، قبل أن ينظمّ إليه في وقت لاحق قسم من أبناء الشبيبة الإسلامية الذي رفضوا الانضمام إلى جماعة بنكيران (حاتم) كما رفضوا الاستقالة. وحينئذ أصبح الشيخ ياسين يتوفّر على تجربة تنظيمية تزواج فيها الإرث الطّرقي البوتشيشي مع العقل الحركي والتنظيمي الشبيبي. لكن هذا لا يمنع من أن الطريقة الأم (البوتشيشية) تمارس السياسة عند الطلب في شكل احتياطي روحي يساهم في التعبئة. وهي لهذا تتوفّر على أطر سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية كبيرة مما يجعلها كيانا مؤثّثا للحقل الرّوحي المغربي. فضلا عن وجود إحساس ما أشبه بتأنيب الضمير عند الطريقة البوتشيشية إزاء مواقف العدل والإحسان، يجعلها بين الفينة والأخرى تؤكّد على مواقفها التّاريخي كمكوّن من مكونات الحقل الرّوحي. وما نزولها إلى الشّارع إلاّ ضربا من إعلان البراءة من جماعة العدل والإحسان. وقد ساهم نزول رجال من الطريقة إلى الشّارع في تطويق العدل والإحسان روحيا كما تمّ تطويقهم سياسيا وأمنيا وإعلاميا مما أدّى إلى تعميق جرح هذه الجماعة مجدّدا. ولا أهمية لموقف السلفيات في اقتحامها لعقبة السياسة بعد أن اختارت المنفى الاختياري خارج استحقاقاتها. فهي مشغولة اليوم في البحث عن هويتها الجديدة وتثبيت قناعاتها الجديدة برسم المراجعات المهجوسة برهاب العودة إلى أقبية السجون. ولذا فهي قد تستغلّ في العملية الانتخابية. وهذا ما يفسر تسابق الأحزاب السياسية لا سيما ذات المرجعية الإسلامية لاستقطابها. ولا أهمية لتردّد مواقف التيّارات السلفية من حركة 20 فبراير. لذا آثرنا التركيز على العدالة والتنمية والعدل والإحسان. لكن المهمّ هنا أنّ القضية في بلادنا تفوق كل الحسابات. وأنّ الرجوع بات مؤكّدا لعهد الصّفقات. أخيرا إنّ جوهر المشكلة المغربية يكمن في مدى تدبير جدلية تحسين الوضع الاقتصادي وإصلاح الحقل السياسي. استطاع المغرب أن ينتج من خلال تدافع تاريخي بين أقطاب المعارضة والنظام خطابا سياسيا متقدّما. لا يهم تمثّل بعض الأحزاب والتيارات لهذا الخطاب بدربة بلاغية تقلّ أو تزيد ، لأنّ القضية عندنا تجاوزت الانبهار اللّفظي بخطاب الدّيمقراطية ، حيث نواجه حالة من التمثلات وقراءة أفكار مبادرات الدولة واستجاباتها. يحدث أنّ الخطاب السياسي عرف تطورا متورما فاق الواقعي ودار حول المتوقع. لكن خزينة الدولة تحتاج اليوم إلى المال. والمال يأتي بشروط تؤثّر على المسار الطبيعي للديمقراطية. الأمر غير المقنع في الخطاب السياسي لحكومة البيجيدي المبلّلة بحلفاء حلقوا جزء من لحيتها ، وجعلوها تنشئ إنشاء حول الدّولة لا سياسات تدبيرية مقنعة !ادريس هاني