حينما يوقع المغرب اتفاقيات ملزمة وموثوقة مع الاتحاد الأوروبي أو مع أية دولة أو اتحاد في العالم، ولتكن هذه الاتفاقيات اتفاقيات قضائية أو أمنية أو حقوقية أو ثقافية أو اقتصادية أو زراعية أو بحرية أو بيئية، فإن المفروض أصالة أن تتمتع وثيقة الاتفاقية بضمانات حمايتها من العبث أو الانتقائية أو التلاعبات وتأمين تنفيذها وسريان العمل بها ومنع الخروج عن مقتضياتها أو إثارة شكوك وزوابع وترددات بشأنها أو تحلل من التزاماتها، وإلا لم تكن الاتفاقية اتفاقية ولا الوثيقة وثيقة ولا الالتزام التزاما ولا الشراكة شراكة ولا العقد عقدا وهو شريعة المتعاقدين، وإنما يصير الأمر لعبا ولهوا وفخاخا منصوبة للابتزاز والانقلاب على المصالح وعلى الشراكات وعلى الثقة المتبادلة. وهذا بالضبط ما وقع ويقع بالفعل في مجموع الاتفاقيات بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، التي يُعرِّضُها الجانب الأوروبي، دائما وكالعادة ولأهداف ابتزازية، لسلسلة من الاهتزازات والتراجعات، ولحملة إعلامية ضاغطة تشوه مضمونها وأهدافها النبيلة، وتحاول من خلالها النيل من الجانب المغربي بإضعاف مواقفه التفاوضية وانتزاع مصالح أحادية للطرف الأوروبي مقابل الإضرار بمصالح الطرف المغربي الشريك، واحتكار فوائد وأرباح الاتفاقية ومصادرتها لصالح طرف واحد كمتربح وحيد ومنتفع أوحد. ولأن مغرب اليوم ليس مغرب الأمس في نضج قدراته التفاوضية، وإدارته الحكيمة للخلافات والنزاعات والأزمات التي تعترض سبيل تطوير شراكاته، فإنه لم ير في خروج مؤسسة قضائية من مؤسسات الاتحاد الأوروبي بقرار إلغاء وبطلان اتفاقيتي الصيد البحري والفلاحة المنتهية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، ووضع اشتراطات جديدة لتجديدهما تعاكس الوحدة الترابية للمملكة وتخوض في أمر سيادي مغربي لم يكن موضوع اتفاق ولا واردا على الإطلاق منازعة المغرب فيه في أي مرحلة من مراحل التفاوض، أو توقيع الاتفاقيات السابقة لا من دول أوروبا منفردة، ولا من الاتحاد الأوروبي بمجلسه ومفوضيته، لم يره إلا شأنا يعني الاتحاد الأوروبي ومحكمته، ولا يعني المغرب في شيء، ومن حق هذا الاتحاد بعد انتهاء مدة الاتفاقيات المبرمة، أن لا يرى ضرورة لتجديدها، أو أن يتوب عن ما يراه فيها من خطيئة أو ذنوب ولا يرجع إليها، ويفرغ منها لأنها لم تعد تلائمه أو تتعارض مع قوانينه وقيمه ومصالحه. ومن ثمة فإن هذا المعطى المبدئي هو الذي جعل المغرب منذ اندلاع الضجيج والتشويش داخل الاتحاد الاوروبي على الاتفاقيات الأوروبية المغربية ورفع الشكاوى وكذا الطعون إلى محكمة العدل الأوروبية، ينأى بنفسه عن أن يتقدم بشكوى أو بطعن في قرار محكمة لا تعنيه ولا يخضع لسلطتها وليس لها نفوذ عليه، أو حتى أن يستعرض دفاعاته عن الاتفاقيات أو الشراكات، مكتفيا بتنبيه الطرف الأوروبي في هذا الاتحاد القاري إلى واجبه في حماية مصداقية الاتفاقات وتأمينها من هذه الانتكاسات والتراجعات والألاعيب، وكذا الوفاء بالالتزامات الموقعة بدون شروط لاحقة ومختلقة، وفي حالة التحلل من هذه الاتفاقيات بأي حيلة كانت أو ابتزاز مدبر، كالابتزاز بالحملات الإعلامية التشهيرية والتضليلية، الذي لم يجد نفعا طيلة عقود من الزمن، أو بالمنظمات والهيئات الحقوقية الأوروبية التي لم تذخر جهدا في المساومة الرخيصة، وتداعت كلها وتساقطت تباعا، أو هذه المرة بالقضاء والقضاة والمحاكم الأوروبية، فإنه ليس أمام المغرب إلا أن يضع الشريك الاتحادي الأوروبي أمام خيارين لا ثالث لهما، إما تحمل الاتحاد مسؤولياته كاملة في ضمان الحماية القانونية والقضائية لاتفاقياته مع المغرب من هذه الهجمات الدائمة والمعروفة الجهات واللوبيات المتحكمة فيها وكذا أهدافها المتشابكة مع أهداف وأطراف استغلالية وانتهازية، أو التخلي عن تجديد هذه الاتفاقيات مع المغرب، وذهاب كل طرف إلى حال سبيله باحثا عن مصلحته التي يتصور أنها تتحقق في اتفاقيات أخرى ومع أطراف أخرى أكثر مصداقية وموثوقية وجدوى. فالشركاء المتفقون على تبادل مصالح وفي إطار اتفاقيات ملزمة، هم أحرار بعد انتهاء مدد الاتفاقيات في إبرام اتفاقية جديدة أو الامتناع عنها، بدون كل هذا الضجيج المفتعل الذي لا يخفى ما فيه من ضغط ومحاولة إكراه المغرب على القبول بشروط تحت ذريعة حكم محكمة لا يخضع لها ولا تهمه. انتهى الكلام المغربي، بل الصواب ألا يكون للمغرب أي تعليق على حكم محكمة لا تعنيه من قريب أو بعيد، ولا صلاحية لها للبت في نزاع الصحراء، ولم يتوجه المغرب إليها لا بشكاية ولا بطلب مراجعة لحكم أو نقضه، ولا بطعن فيه، ولم يكن مشاركا في أي مرحلة من مراحل مسطرة التقاضي التي سلكها الاتحاد الأوروبي للدفاع عن شرعية اتفاقياته مع المغرب، وينتظر المغرب ليس من المحكمة وإنما من الاتحاد الأوروبي أن يحدد ما إذا كان جاهزا لتجديد الاتفاقية المعنية وباقي الاتفاقيات والشراكات المبرمة مع المغرب الموحد من طنجة إلى الكويرة والذي تنتمي ثرواته وأقاليمه إلى مجاله الجغرافي السيادي بدون منازع. ما نعلمه من الخرجات المباشرة لدول الاتحاد الأوروبي التي طعنت في قرار محكمتها، أنها شرعت في تحرير قراراتها واتفاقياتها من الارتهان بمصالح لوبيات ضاغطة وعقيمة، وإلا فقدت كل اتفاقياتها مع المغرب أو غيره مصداقيتها، لأن ثمة محكمة أو جهة قضائية أو حقوقية من المحتمل أن تبطلها فيما بعد أو تلغيها أو تشغب عليها، ولهذا لم تجد دول الاتحاد الأوروبي، من أصغرها إلى أكبرها، بديلا عن أن تعبر بصوت واحد عن دعم شراكاتها واتفاقياتها مع المغرب الباسط سيادته على كل أقاليمه بما فيها أقاليمه الجنوبية الصحراوية، وشريكها الإفريقي الاستراتيجي الأول، ليس فقط في تجارة أو مبادلات فلاحية أو أمن غذائي، وإنما في الأمن الإقليمي وفي استثمارات كبرى في المستقبل تعود على أوروبا وعلى دول اتحادها وعلى المغرب وعلى إفريقيا بمصالح ومنافع لا قبل للطرف الأوروبي على تجاوزها أو التضحية بها. الكرة الآن في ملعب الاتحاد الأوروبي ومرماه، وقد نجح المغرب في نقل الصراع والنزاع المبطن معه إلى قلب مؤسسات هذا الاتحاد، وإلى عقر الدار والمطبخ اللذين استطابا لعبة الاختباء وراء كل الملفات الاستفزازية التي استخدمتها أوروبا القديمة إلى غاية اليوم في مسمى شراكاتها واتفاقياتها ومعاهداتها. مطلب الوضوح المغربي يصل اليوم إلى المطبخ الأوروبي ليكنس آخر حلقات الابتزاز بتشتيت التحالف الاستعماري، والتحكم في خيوط لعبته القذرة، وقلبها وردها إلى نحره. أما الأغبياء بجوارنا في دولة العصابة، الذين لا يعرفون طريقا إلى إدارة الصراع والنزاع والأزمات، ولا يفقهون شيئا في التدافع الدولي القائم على قدم وساق، بما يعود على بلادهم وإقليمهم وقارتهم بالنفع، وبما يحلهم مقعد صدق بين الأمم والدول، فحسبهم ما تخبطوا فيه عند هذه النازلة والواقعة من فرح مجاني مستعجل بقرار محكمة العدل الأوروبية، ونصب المراقص والمنصات لاستعراض بطولات النصر التاريخي على العدو المغربي، وتدبيج بلاغات التهنئة والشكر والتثمين لقرار المحكمة، فما كاد ليل العرس وتبادل الأنخاب يسحب أذياله حتى أسفر الصبح عن قوافل الاعترافات الأوروبية بشرعية ومصداقية الاتفاقيات مع المغرب، حيث تحول العرس العدواني الغبي بين عشية وضحاها إلى عويل وبكاء ومأتم وتنديد بدول الاتحاد الأوروبي التي أنطقتها هذه المرة الحقيقة والواقعية والمصالح المرعية في دفاعها ومرافعتها عن شراكاتها واتفاقياتها مع المغرب ضد قرار محكمتها الموقرة