مع اقتراب نهاية كل موسم دراسي ، وفي بداية النصف الثاني من الدورة الثانية ، يطفو الى السطح مشكل يقض مضجع التلاميذ وأسرهم معا ، فيلجأ الجميع الى التعامل مع الموقف كل بطريقته الخاصة ، مما يتسبب في نتائج غير مرغوب فيها لدى الأغلبية ، ويتعلق الأمر هنا بمسألة التوجيه الذي هو مجموعة من التدخلات التأطيرية التربوية المواكبة لجل المراحل الدراسية. فبمجرد ولوج المتعلم مرحلة نهاية التعليم الثانوي الإعدادي يكون ، مطالبا بملأ المطبوع الخاص بالتوجيه واختيار السبيل الذي ينوي سلكه ، وفي هذا المفترق يقف حائرا وباحثا عمن سيأخذ بيده حتى يعبر الى الضفة الأخرى بأمان ، وستتعقد الأمور أكثر حين نكتشف غياب منطق المواكبة الفردية لدى هذه الفئة نظرا للعدد المحدود من الأطر المكلفة بالإرشاد والتوجيه بالمقارنة مع ارتفاع عدد المستهدفين [طبيعة عمل المستشارين في التوجيه تقتضي تعيين عنصر واحد يشرف على مجموعة من المؤسسات ] ، ووجود مجموعة من القدرات التي لا يمكن ان يكتسبها للتلميذ في ظرف وجيز … ويتفاقم الوضع حين تلجأ الأسرة الى ممارسة اسقاطاتها النفسية على الابن حيث يسعى الكبار إلى تحقيق وإدراك ما عجزوا عنه من خلال فلذات أكبادهم ، فيرغمونهم على التفكير في مزاولة مهنة معينة مستقبلا ، متجاهلين أنهم خلقوا لزمان غير زماننا ، فكيف يعقل أن يجبر الابن الذي يميل الى المواد الأدبية كي يركزعلى مادتي الرياضيات والفيزياء وبالتالي التوجه الى الشعبة العلمية ؟ ، الى جانب عدم الالمام بما توصل إليه علم النفس بخصوص " مفهوم الذكاءات المتعددة " بحيث لا يجب اجبار ذوي الذكاء اللفظي اللغوي مثلا على تبني مشروع هو من نصيب أصحاب الذكاء الرياضي المنطقي والعكس صحيح ، وكل هذه التقديرات الخاطئة في نهاية المطاف تقودنا الى نتيجة حتمية تتجلى في وقوع المتعلم ضحية الضغوطات النفسية الناجمة عن الطريقة السلبية التي قدمت له بها المعلومة ، فينصاع لضغط داخلي انطلاقا من سعيه لإ رضاء الاسرة اكثر من إرضاء الذات سواء فيما يتعلق بالاختيار او المعدل. وهناك مشكل آخر يصاحب هذه المرحلة ويتعلق بتدخل الأسرة في تغيير طريقة اشتغال الطفل، حيث تفرض عليه ايقاعا لا يتناسب و قدراته البيولوجية ، مما يؤثر على مستوى التحصيل والاستيعاب والتركيز لديه " مثلا طفل يحبذ أخد قسط من الراحة بعد السادسة مساء عقب خروجه من الفصل الدراسي ، ويؤثر المراجعة في الفترة الصباحية بينما أسرته ترغمه على الالتحاق بالساعات الاضافية مساء دون مراعاة مدى استعداده . ناهيك عن التدخل في نظام النوم ونظام الأكل ، وفرض استعمال زمن مجحف ، والإجبار على بذل مجهود فوق الطاقة دون الأخذ بعين الاعتبار القدرات الذهنية والعقلية التي يتوفر عليها هذا الكائن مما يولد لديه إرهاقا قد يقوده الى النفور من الدراسة ككل. إن معاناة التلاميذ لا تتوقف عند مرحلة الإعدادي، بل تلازمهم تبعاتها طيلة المراحل الموالية من مسارهم الدراسي ، فعلى سبيل المثال نجد تلاميذ الباكالوريا يقفون وجها لوجه أمام مجموعة من الاختيارات " كل شعبة فيها مسالك متعددة " بينما الآفاق تبدو غامضة الى درجة أن البعض منهم يمكن ان يختار مسارا ثم يكتشف فيما بعد انه لا يمكن ان يضمن به اندماجا مهنيا بنسبة معقولة ، وهنا يطرح إشكال غياب اقتصاد وطني مهيكل ومضطلع بالحاجيات وانعدام مخططات اقتصادية متوفرة على رؤية استباقية تلبي حاجيات الأعداد الغفيرة من المتخرجين الوافدين على سوق الشغل …وهكذا فبعد الارهاق والتعب و معاناة تجاوز الامتحانات وتحقيق النجاح …يبدأ الحديث عن النقط والميزات والترشيح للمباريات ، لكن الذي ينغص الجو بحدة هو مسألة الانتقاء بناء على المعدل قصد ولوج المعاهد والمدارس ذات الاستقطاب المحدود، بحيث يصبح هم التلميذ هو الاشتغال كي يحصل على اعلى معدل يضمن به حظوظه في الالتحاق بإحداها،. وخلال الفترة الممتدة بين شهري مارس وماي ينصب تفكيره على الاستعداد للامتحان ثم يتفاجأ في الوقت نفسه بظهور اعلانات المباريات .. فيلجا الى التسجيل في اكبر عدد من المدارس أملا في تجنب المفاجئات التي قد تعصف بآماله ، وهنا يحتاج الى وقت لجمع الوثائق وتصحيح الامضاءات وتهييئ الملف.. وبذلك يدخل في دوامة لا تقل عن سابقاتها و ستفرض نفسها مباشرة بعد ظهور نتائج الباكالوريا لكون جل المباريات في حد ذاتها جد مؤرقة وغير منطقية نظرا لغياب التنسيق مع التعليم العالي فيما يخص الجدولة الزمنية ، بحيث يتم استدعاؤه لاجتياز عدد منها في ظرف وجيز…"اليوم في الرباط والغد في البيضاء وبعده في وجدة…" ولا يفوتنا بالمناسبة التنويه بالنموذج المعتمد في المدارس العليا للعلوم التطبيقية والتي خصصت موقعا للترشيح الالكتروني وعمدت الى اجراء المباراة في اقرب وحدة ….وما يزيد الطين بلة أن المعني بالأمر لم يهيأ من قبل لمثل هذه المحطات. فماذا سيفعل مثلا في حالة تعارض الاختيارات،" النجاح في ثلاث مباريات " و ما هو الاختيار الذي سيقدم أو يؤخر "؟ أضف الى ذلك أن نمط الامتحانات يختلف تماما عما اعتاد عليه منذ ولوجه المدرسة ، وهو غير لذلك من قبل . إن مواجهة الارتباك والحيرة اللذين يطبقان على التلميذ لا يمكن التحرر منهما سوى بتشكيل تمثل حقيقي حول ذاته أولا، وما يتوفر عليه من كفاءات ، ويتيقن من أن ما يتمثله واقعي فعلا ، ثم يخلص نفسه من ضغوطات المجتمع المتجلية في نظرته الى بعض المهن ، وربطه بين الوظيفة والدخل المادي ، لأن واقعنا يكرس بعض الاختيارات وكأنها نموذجية فيقع التلميذ ضحية لها ناسيا أو متناسيا أن لكل شخص ميولات ومنظومة اخلاقية يومن بها، ولا يجب ان ينصاع للإملاءات التي تأتيه من الآخر، و التوجيه الحقيقي في نهاية المطاف يجب أن يعتمد بالدرجة الأولى على القناعة وبدونها قد يتعرض لانهيار نفسي لا قدر الله في حالة تعثره في الوصول الى مبتغاه ، وسيذهب زمن من عمره وجهد العائلة سدى. وللمساعدة على تجاوز هذا العائق يلزم المعني بالأمر طرح سؤال جوهري مسبقا مفاده : ماذا أريد بعد الباكالوريا؟؟ ثم تأتي الاجابة طبقا لنوع وطبيعة القدرات المتوفرة لديه لكي لا يحمل نفسه ما لا تطيق ويصطدم بالفشل ، مع اللجوء طبعا الى وضع خطط بديلة تحسبا للإكراهات ، أو ما يسمى بتعدد الحلول. "تحديد خطة رئيسية وبجانبها خطط فرعية بديلة " من الواجب إذن تربية الطفل منذ صغره على اتخاد القرار وتهيئته لجميع المراحل التي تنتظره ، ومن المجحف أن ندعه الى نهاية المطاف فنلقي عليه بالحمل كله .علينا أن نضعه امام وضعيات اختيارية ونعلمه كيفية اتخاذ القرا ر، ونوجهه الى مسألة الفشل ليتقبلها ويعتبرها نقطة انطلاق جديدة ،ونعلمه أن الانسان حين يفشل في مسار معين فسيعتبر ذلك بالنسبة اليه حافزا وبداية للنجاح. أما المسؤولية في هذا الصدد فيتقاسمها الجميع وعلى كل طرف ان يساهم بنصيبه بدءا بالأسرة التي تتدخل مباشرة في طموح الابن، ومرورا بتدخل الاستاذ الذي يحبب المادة للمتعلم ويتحول الى محفز اساسي لقلب التوجه والتأثير على الاختيار ، دون اغفال وسائل الاعلام على اختلافها، وكذا الجمعيات المهتمة بالصحة النفسية والتنمية البشرية ، وهذه الأخيرة من المفروض ان تسخر أطرها لخدمة النشء وتوجيهه الى ما فيه منفعة له ولأسرته ووطنه . التوجيه الدراسي بين الطموح والاكراهات.