«والدي» يريدني أن أكمل تعليمه، «والدتي لا يهمها سوى أن تتباهى بإنجابها مهندسة أو طبيبة»، «لولا والدي لما كنت سأشق طريقي نحو البذلة السوداء»... هكذا يعلق أبناء على مدى تدخل آبائهم في توجيه مسارهم الدراسي نحو مهنة معينة، إنها مسألة تحتاج إلى عناية هامة ممن يهمهم الأمر. ففي الوقت الذي يرى فيه بعض الآباء أنهم بتوجيه أبنائهم لاختيار تخصص معين فإنهم يؤدون رسالتهم التربوية على أحسن وجه، نجد بعض الأبناء يؤكدون على حقهم في اختيار مستقبلهم بأيديهم لأنهم هم المعنيون قبل غيرهم بتحمل تبعات اختيارهم. «التجديد» حاولت الاقتراب من موضوع حدود تدخل الآباء في تحديد مستقبل الأبناء وخلصت إلى أن دور الآباء يجب أن يكون بالمساهمة في الاختيار وليس بفرض الاختيار، كما يجب مراعاة قدرات الأبناء. وتنقل الجريدة معاناة أبناء يعتبرون تدخل آبائهم تسلطا أكثر منه تأدية لرسالة الأبوة أو الأمومة. مهندسة بدل أستاذة فاطمة الزهراء طالبة مهندسة عمرها 23 سنة اتجهت بها رياح التدريس إلى الهندسة بعد أن جربت شعبة الاقتصاد بالكلية سعيا وراء تحقيق رغبة الوالد في أن تكون أستاذة جامعية. صرحت فاطمة الزهراء ل «التجديد»: «صراحة تابعت دراستي بشعبة العلوم التجريبية، في حين أنا كنت أرغب في متابعة دراستي في شعبة اللغة الفرنسية، لكن الذي حصل هو أن والدي لم يفرضا علي اختيارهما بل أقنعاني بصوابيته، فوالدتي أستاذة وناشطة جمعوية ووالدي تاجر، ولكن حين سقطت في السنة الأولى من شعبة الاقتصاد غيرت الاتجاه نحو مدرسة خاصة للهندسة، وفي رأيي الابن إذا لم تكن له رغبة في اختيار معين فإنه لن يكون مجدا وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى تضييع أموال قد يصرفها الآباء في مدرسة خاصة، لا لشيء إلا لأن رغبة الابن لم تكن متوافقة مع رغبة الآباء». وأضافت فاطمة الزهراء: «إذا كان الوالدان على مستوى من العلم فإنه حري بهما أن يوجها أبناءهما دون أن يفرضا عليه اختيارهما». وفاة الوالد عجلت بالاختيار محمد لم يكن ضحية تدخل والديه، بل إن الموت المفاجئ الذي أخذ والده جعله يتسابق مع الزمن للتمكن من مساعدة أمه وإخوته الأصغر منه، كان محمد يتابع دراسته الثانوية شعبة العلوم التجريبية، لم يتدخل والده المقاول ولا أمه ربة البيت في تخصصه، لكن بمجرد أن توفي والده في حادثة سير سنة 2000 أكمل السنة النهائية بالباكلوريا بالكاد، ولم يعد يفكر في المسار الطويل للدراسات العليا بما فيها الدكتوراه بل أصبح هاجسه هو السبيل السريع للحصول على مهنة مدرة للدخل، واختار أن يلج مدرسة عليا خاصة للإعلاميات وخلال سنتين تخرج منها بامتياز في شعبة الصيانة ومباشرة بعد التخرج التحق بشركة خاصة إلا أنه لم ينف أن بعض أقاربه ساعدوه حين أقنعوا والدته بإنفاق واجبات الدراسة بدل انتظار سنوات التخرج من الكلية الطويلة وربما سيزداد الانتظار مع ما يعرفه حملة الشواهد العليا من تماطل في التوظيف. ولم يجد محمد في تدخل أمه في مساره الدراسي تسلطا بل بالعكس وجد ما يشجعه على تحقيق رغبته، خصوصا وأنه كان يميل إلى ما هو تقني، وقد نال شهاداته بتفوق كما يؤدي مهنته في انسجام مع ميولاته العلمية والاجتماعية على السواء، وهو يقدم من خلال شهادته شكرا لوالدته التي ساعدته على تحقيق أمنيته. توجيه الإعدادي واستشارة الثانوي ترى السعدية السرغيني رئيسة الجمعية الوطنية لمساعدة التلميذ في وضعية صعبة «هيثم» أن مساهمة الوالدين في اختيار توجه ابنهم الدراسي في مرحلة الإعدادي لها إيجابيات، لكن الذي يكون سلبيا هو أن يفرض الآباء اختيارهم، لأن بعض الآباء رغم معرفتهم ببعض التخصصات إلا أن الابن يبقى هو الأدرى بمدى قدرته وإرادته على المسايرة في توجه معين. وتنصح السرغيني الآباء الذين يساهمون في اختيار توجهات ابنهم ببذل مجهودات لتقوية عطائه فيها، وإن تبين أن اختيار الابن لم يكن موفقا فالآن أصبح بالإمكان تغيير الشعبة في الثانوي. أما بعد اجتياز الثانوي، تقول السرغيني، فإن الابن يصبح على بينة من أمره وحري بالآباء أن يتركوا له هامشا أكبر من الحرية في الاختيار، وللأسف أن بعض الأسر تفرض على أبنائها اختيار مسار معين في الوقت الذي يقتصر دور الآباء في هذه المرحلة على الاستشارة بعدما كان في مرحلة الإعدادي توجيها. ويجب على الآباء أن يراعوا بأن الأبناء قبل كل شيء يجب أن يكونوا سعداء في اختيارهم لأن الإحساس بالسعادة في اختيار معين يساعد على الاجتهاد وتحمل مشاقه. حالات تدخل باءت بالفشل تعتبر السرغيني تدخل الآباء الذي لا يحترم اختيار الابن نوعا من الإخلال بحق من حقوقه، وفي هذا السياق سردت بعض الحالات لتدخلات آباء أولها أن تلميذة كانت معروفة في ثانوية باجتهادها وأمها كانت أستاذة، هذه الأخيرة كانت تفرض على ابنتها اختيار شعبة العلوم التجريبية من أجل ترك هامش لدراسة الطب في التعليم العالي، فيما البنت متشبثة باختيار شعبة الرياضيات ولا يهمها أن تستدرك رغبتها في ولوج كلية الطب. بقيت الأم على إصرارها ورضخت البنت لرغبة والدتها رغم أنها غير متحمسة لشعبة لا تحبها وهي شعبة العلوم التجريبية، وبعد نيل شهادة الباكلوريا وبمعدل عال أصرت الأم على ابنتها التي ترغب في متابعة دراستها في الأقسام التحضيرية أن تختار من هذه الأقسام ما يتضمن العلوم التجريبية لكن المشكلة هي أن البنت فشلت في سنتها الأولى، وتطلب الأمر منها مجهودا إضافيا من أجل الظفر بالنجاح في السنة الموالية، ورغم ذلك فشلت في ولوج مدارس عليا لأن مؤهلاتها لم تكن كافية. وقالت السعدية السرغيني حول هذه الحالة:» «لقد حملنا نحن الأساتذة المسؤولية للوالدة التي نصحناها غير ما مرة بترك الاختيار لابنتها، وكانت نتيجة إصرارها أن ابنتها رغم أنها الآن تتابع دراستها بمدرسة عليا للمهندسين فقد ضيعت سنتين من عمرها تعالج أعراض اختيار دفعت له دفعا من والدتها». حالة أخرى تتعلق بتلميذة كانت معروفة بامتيازها على صعيد الثانوية وكان ميولها نحو شعبة الآداب نظرا لكونها متيقنة من قدراتها في هذا الجانب، لكن والديها فرضا عليها أن تختار شعبة العلوم التجريبية وتحملت إرهاقا شديدا من أجل التفوق في مواد الشعبة، لكن الخبر الذي اهتزت له المؤسسة بكاملها هو أن هذه الفتاة بعد أن كانت تحصل على النقطة 17 من أصل 20 في المعدل كان السقوط حليفها في سنتها النهائية من الباكلوريا لأنها لم تختر الشعبة التي تضمن تفوقها فيها بسبب تدخل والديها دون مراعاة قدراتها وميولها. ففي الوقت الذي كان يمكن أن تنجح فيه الفتاة بميزة كان مصيرها السقوط. حلم لم يتحقق التلميذ عبد الخالق ضحية أسلوب ينتهجه كثير من الآباء حين لا يستطيعون تحقيق حلم معين فيعزمون على تحقيقه على أيدي أبنائهم، وكأن لسان حالهم يقول: «ما لم أحققه يحققه أبنائي». والد عبد الخالق كان يحلم أن يكون طبيبا لكنه حين لم يفلح في تحقيق حلمه ارتأى أن لا يترك الفرصة تفلت من عقال ابنه، وكأن ابنه سيكمل دراسته هو وليس شخصا آخر بطموحات أخرى. كان عبد الخالق، حسب السعدية السرغيني، ذكيا لكن ليس لدرجة أن يحصل على نقط تؤهله لولوج كليات الطب، والمصيبة أن التلميذ بسبب الضغوط التي تمارس عليه من قبل الوالد أصبح مضطربا وتعرض لانهيار عصبي وحالته النفسية غير مستقرة، ففي الوقت الذي تنتظر فيه الأسرة أن يصبح ابنها طبيبا أصبح هو بين يدي الأطباء لتجاوز حالته النفسية المتدهورة بسبب الضغوط، وهو ما سيساهم في تعثره الدراسي والصحي على السواء. والتلميذ يخضع لزيارة الأخصائية النفسية والطبيبة النفسية لأنه يعيش حالة من الانهيار، وأصبح همه الوحيد أن يسترجع عافيته الصحية وليس الطب أو غيره. ما الحل؟ أمام خطورة فرض الاختيار الدراسي على الأبناء يبقى التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه واجب كل من له استطاعة في ذلك، والجمعية الوطنية لمساعدة التلميذ في وضعية صعبة «هيثم» تدلي بدلوها في هذا الجانب إذ قالت رئيستها السعدية السرغيني ل «التجديد»: «نحن في الجمعية نستقبل حالات كثيرة ونتصرف حسب نوع الحالة، فإذا تعلق الأمر بتلاميذ في سنة 15 سنة فما فوق نخيرهم في مسألة التدخل لدى الأسرة، فإن وافقوا فذاك وإلا فنقتصر على توجيههم فقط لأن أهم ما يحكم عملنا هو الدقة والسرية إلا في حالة إذا كان في الأمر خطر على حياة التلميذ. وإذا كانت للتلميذ رغبة في إشراك والديه نقدم على ذلك، كما أن هناك طريقة أخرى نعتمدها وهي التحسيس الجماعي إذ تكون مشكلة معينة ونستدعي أولياء التلاميذ دون أن نحدد صاحب المشكلة، بل نتناول موضوعها في المناقشة وهذه الطريقة تعطي أكلها إذ يصبح الآباء طرفا تواصليا ونتعاون جميعا من أجل حل مشكل التلميذ. ومن هنا نستنتج أن الجمعية يمكن أن تلعب دور الوسيط بين التلميذ ووالديه. ولا ننسى أن هناك موجهين تربويين يقدمون هم الآخرون توضيحات حول الشعب ومتطلباتها». وأضافت السرغيني: «لدينا برنامج سنوي يضم أبوابا مفتوحة ننظمها بالمؤسسات التعليمية، كما أننا نستقبل الأسر ونقدم لها خدماتنا، وفي مدينة الدارالبيضاء نقوم بعملية الاستماع كل يوم سواء في حي سيدي مومن بمقر منتدى المبادرات الجمعوية ونقدم حصصا للدعم النفسي مرتين أسبوعيا، أما بشارع موديبوكيتا التابع لمقاطعة الفداء درب السلطان فيتم تقديم الدعم النفسي يوما في الأسبوع».