المشهد الأول: مغرب الثقافات عند مشرق كل صيف، وغير بعيد عن الصومعة الباسقة لمسجد السنة، وضريحي الملكين محمد الخامس و الحسن الثاني طيب الله ثراهما،وقبة برلمان الأمة و باقي المآثر التاريخية التي تؤرخ لماضي المملكة، تقرر جمعية مغرب الثقافات ، في شهر يونيو من كل سنة، إقامة منصات تساق لها زرابي فاخرة و أسلاك كهرباء غليظة و طويلة لإضاءتها، ويحط عليها "فنانون" كالصقور ، جاؤوا ليبيعوا الوهم للمعجبين في ظرف ساعة أو ساعة و نصف، ليس إلا، مخافة أن يمل الناس فتبور تجارة الفنانين. في كل موسم حصاد فلاحي و أكاديمي، يبدأ الهرج و المرج بوقت كاف ، يسمح بالمزاحمة و إحتكاك المناكب و الأكتاف،في سباق نحو مواقع أمامية مغرية ،يستطاع شم الروائح منها. هذه بعض روائح موازين ، الذي سأسعى إلى تناوله من منظور أعمق، وليس مجرد إبداء موقف منه من خلال شعارات قد لا تفتح العين والبصيرة بما يكفي، كقول بعضهم عند استنكار ما يحصل في مثل هذا الوقت من كل سنة – وعلى بعد أقل من أسبوع من إمتحانات الباكالوريا الوطنية ، " آش خصاك ألعريان، موازين أمولاي !" فماهي إذن أضلع و أطراف موازين؟ من هم الرابحون و من هم الخاسرون؟ وهل الرهان على أرباح موازين هو رهان سليم، يبنبى ولا يهدم،يقوي و لا يضعف؟ فكرة مهرجان موازين تقوم على الطرب و الفرجة. و تهدف إلى جمع أكبر عدد من الجمهور و استضافة أهم "النجوم"، نجوما لأن المنظمين يأتون بهم من بلدان بعيدة عن المغرب بعد السماء عن الأرض، ويقربونهم إلى المشاهدين – في تصادم ثقافي بين طرفيه برزخين لا يبغيان — لكي تكتحل عيونهم بالنظر إلى وجوه لا تجمعها ببلدنا سوى حصاد المال في رطوبة الليل. ينتهي أسبوع الهرج،و الضحك على الذقون ، وفي ذمته على الأقل فاتورتين مكشوفتين : فاتورة أخلاقية و أخرى مادية. أقل شيء يمكن ذكره في باب الأخلاق، مسألة التدبير السلبي للزمن المدرسي و الطلابي، علاوة على الرسائل السلبية التي قد يكون عاد بها كل عازب (ة) ومتزوج (ة) إلى بيته بعد كل "قصارة" و التي قد يكون لها أثر بعيد المدى على الجميع، لا أقلها إلهاء الناس عن النافع من القول و العمل، وتوفير غطاء ، ولو مؤقت، لستر الفساد و النهب .أما الفاتورة المادية، فتلك قسمة ضيزى أخرى. حيث تطير نسور الخشبات و المنصات بأكياس من أموال دافعي الضرائب، خصوصا منهم رجال التعليم بمختلف أسلاكهم والمدافعين عن حوزة الوطن و أمنه و عامة الكادحين ،في حين يأخذ الباقون ما تبقى. فماذا إذن أخذ الجمهور الذي حج إلى المنصات من كل مستويات المعيشية الهشة و الفجة، أو أولائك الذين حاصرتهم الآلة الإعلامية في بيوتهم ؟ لقد علق أحد الظرفاء على حائطه الفايسبوكي،بلكنة لا تخلو من السخرية و الإستهجان، عشية 06 يونيو 2014، بالقول " استعدادا لامتحانات الباكلوريا حاليا على ميدي 1 سات وفي بث مباشر مؤخرات راقصات فرقة المغني "ريكي مارتن" تملأ شاشات المغاربة ، لمن يود التدرب على قواعد درس حساب المساحات… " ! يقول المدافعون أن الغاية من المهرجان هي غاية "نبيلة"، ولا أقل صورها نبلا مسألة جلب السياح و تحريك عجلة اقتصاد الرباط؛ لكن هذا كلام مردود على قائلينه ؛ حيث إنه إذا كان جو المغرب و طقسه أحد العوامل التي تجلب السياح الأجانب إليه، و هذا ما نلاحظه في الأشهر الممتدة من نونبر إلى غاية مارس ، إذ يعرف المجال الجوي الوطني حركية في الطيران، لأن المحظوظين من الأوربيين يهربون من زمهرير بلدانهم و يحتموا بدفئ المغرب و لو إلى حين. فهل هناك من سيغريه مهرجان منظم في فترة تعرف مستويات قياسية في ارتفاع درجات الحرارة ؟ !؟ ثم هل بهذا الإستعجال و حرق المسافات سنجلب إستثمارا؟ ألا يحتاج الإستثمار إلى تعبئة شاملة في الرأسمال البشري و البنية التحتية؟ هل ما يحدث دليل على أن المنظرين و المنظمين قلصوا سقف طموحاتهم من مستوى تنظيم كأس العالم إلى مستوى تنظيم ما يشبه سهرات الأعراس الكبرى ؟ هل تأكدوا أخيرا أن المشروع الأول رديف للجودة في الخدمات و الجدية في الإستثمارات برا و جوا و بحرا، و الشفافية في المعاملات،وله دفتر تحملات تنوء بحمله الفيفا نفسها…؟ في حين أن "المشروع" الثاني تافه وقد لا يحتاج أصلا لدفتر تحملات، إذ لا يكلف أكثر من شركة خدمات تبني المنصات، وإذاعات وطنية تقحم في الدعاية و البروباغاندا؟ هل بمثل هذه المشاريع سنقوي موقعنا التفاوضي مع الأوربيين و الأمريكيين ؟ و نرفع من مستوى نديتنا لخصومنا و أحبتنا على حد سواء؟ هل بمثل هكذا سنصون وحدتنا الترابية وسنسترجع مدننا السليبة ؟ و نقوي البحث بجامعاتنا؟و نرفع من درجة تنافسية مقاولات و إقتصاد وطننا،….وهل……وهل ….؟ المشهد الثاني : مغرب الكفاءات يحدث هذا ووطننا العزيز لا تنقصه المواهب و لا الكفاءات و لا مواطنين عششت في قلوبهم أحلام و طموحات تكاد تتحول إلى سرطانات داخلية من شدة ما أقفل عليها أصحابها، تارة تحت وطأة الإحباط و عدم وجود من يصغي و يتفهم، و تارة أخرى تجنبا لسخرية قد يرميهم بها أناس خبروا كيف يسير الوطن، و تارة أخرى اتقاء أحكام جائرة جاهزة. تلك القلوب الحاملة للمشاريع قد تمتد من مواهب الأدب و الفن و الرياضة و الإقتصاد و الفكر، إلى الأكاديميا. وحيث أنني لا أعلم الغيب ولا أستطيع أن أطلع على ما ينمو من أحلام في أفئدة غيرى،وضمنهم قراء هذه الصفحة، إسمحوا لي أن أطلعكم ، على الأقل ، على مشروعي الشخصي لكي تدركوا جيدا حاجتنا إلى جمعية مغرب الكفاءات ، بحجم و باع جمعية مغرب الثقافات ، تتكفل بتمويل ذوي الطموح الجاد خدمة للوطن و الأمة. أليس وطننا في حاجة إلى أطر يكون لها موطئ قدم بالمعاهد و الجامعات الغربية، خصوصا تلك المهتمة بالعلوم السياسية؟ أو هل نحتاج إلى تذكير أهل الحل و العقد أن تلك المعاهد غالبا ما تكون مسموعة الصوت، مأخوذ برأيها و معتمد على دراساتها ومخرجاتها في رسم السياسات و تسوية النزاعات ؟ هل غاب عنهم أن جل أساتذتها أساتذة باحثون، منظرون و مؤلفون، و دائمي الظهور على أهم شبكات الأخبار الدولية ( Aljazeera CNN,، BBC)، والصحف اليومية؟ كيف يمكن للمغرب أن يدافع عن قضاياه و ثقافته وهو غائب عن هذه المواقع المؤثرة؟ كيف يمكن له أن يسمع صوته من غير القنوات الأكاديمية وعبر بحوث الماجستير أو الدكتوراه ، و التي قد يفنى أصحابها و تبق هي للأجيال و التاريخ؟ أو لن يكون ذلك نقشا أكاديميا مستداما، وليس رقصا أو مزاميرا تذهب مع الريح و تتبخر مع ظهور أول أشعة شمس الصباح؟ ما هو رأيكم إن علمتم أن كاتب هذه السطور قد فاز ، عن جدارة و استحقاق ، بمقعد دراسي في واحد من تلك المعاهد تابع لجامعة تعتبر من أجود و أحسن عشر جامعات الأولى بالمملكة المتحدة؟ جامعة تعد مركز تخرج العديد من المفكرين و الحاصلين على جوائز نوبل و المسجلين لبراءات الإختراع ؟ وماذا لو علمتم كذلك أن الإنتساب إلى معهدها ،المهتم بدراسة سياسات الشرق الأوسط ، يمر بمسطرة إنتقاء متشددة وعلى مستوى عال جدا من التنافسية ؛ معهد ليس في حاجة إلى عشرين ألف جنيه إسترليني من مواطن بشمال إفريقيا،مع العلم أن بلدان المال هي أمريكا و كندا و بعض بلدان الشرق الأوسط، و الدول الإسكندينافية، معهد ذي استقطاب دولي ولن يتجاوز عدد طلبته المسجلين بالماسر إثنا عشرة طالبا؟ لكن أنى لي و لغيري ، ممن ولدوا بملعقة من خشب في أفواههم وبحصير تحت ظهورهم ، أن يقدروا على إحداث الفارق إن لم يكونوا مدعومين ، ماديا و معنويا،من طرف أعلى السلطات في البلد، و التي تدرك جيدا ما معنى أن نستثمر في الفكر و الأجيال و مصالح الوطن؟ لن أجد، لتوقيع هذا البوح الغريب و الفريد، أبلغ مما قاله مدير تحرير إحدى الجرائد الوطنية مؤخرا عندما قال، في مناسبة جد حزينة، "أن تعطي الإنسان وردة في حياته، أفضل من أن تضع إكليلا من الزهور فوق رخام قبره..أن تقول كلمة طيبة في وجهه و هو على قيد الحياة،أفضل من أن تكتب قصيدة رثاء بعد موته..نحن بلاد بارعة في أدب تأبين الموتى بعد أن يصيروا جثثا هامدة، تماما كما أننا بارعون في تجاهلهم و التضييق عليهم و المس باعتبارهم و مكانتهم عندما يكونون أحياء بيننا". الوطن، في 22 شعبان 1435 الموافق ل 20 يونيو 2014 بقلم عبد الله عزوزي التنمية البشرية في الميزان : مغرب الغد بين موازين مغرب الثقافات و موازين مغرب الكفاءات